من الميزات غير العادية لثورة الإلكترونيات الدقيقة هي قدرتها على التحكم في المقاس، وهي الميزة التي عبر عنها قانون مور، وقد قادت هذه الميزة إلى تزايد سريع وكبير في قدرة الحوسبة؛ حيث تمتلك الهواتف الذكية المتطورة حالياً قدرة حوسبة تكافئ أفضل الحواسيب الخارقة في العالم في بداية التسعينيات، كما ستكون الهواتف الذكية اللاحقة أكثر قوة.
ولكننا على وشك أن نواجه مشكلة في المستقبل القريب؛ فمع تزايد انتشار الحواسيب القوية سيزداد استهلاك الطاقة، وإذا بقي القانون الأُسِّي لمور فعالاً فسوف تستهلك الأجهزة الإلكترونية أكثر من نصف ميزانية الطاقة للكوكب بعد حوالي عقدين من الزمن.
لا شك في أننا لا يمكننا تحمُّل استهلاك كهذا، فما العمل؟
سنحصل اليوم على شبه جواب من نيكولا سبالدين (وهي عالمة مواد في المعهد الاتحادي الفدرالي في زوريخ، في سويسرا)، حيث تقول: إن علماء المواد يمكن أن ينقذوا الكوكب، وإن حلهم سيكون على شكل إنجاز كبير يغير طريقة تفكيرنا حول إنجاز التكنولوجيا وطريقة استخدامها. وهي تطرح فكرتها بالإشارة إلى بضعة مجالات ممكنة لتحقيق هذا الإنجاز، في بحث مسلٍّ للغاية.
تبدأ سبالدين باستعراض كيفية تأثر الجنس البشري بإنجازات علم المواد؛ حيث إن اكتشاف المواد المركبة مثل الألياف والصمغ قد مكَّن البشر من تثبيت النصال على القبضات الخشبية لصنع السكاكين والفؤوس، أما الاكتشاف الهام لتقنية تذويب المعادن (وهو ما حدث على الأرجح في أفران شيِّ الفخار في العصر الحجري) فقد أوصل البشر إلى العصرين البرونزي والحديدي؛ وهو ما أدى إلى تغيرات جذرية في الزراعة، وأدى إلى تأسيس المدن، بل حتى والبلدان، كما أدت تكنولوجيا المعادن إلى تغيرات هامة في تقنيات الأسلحة، وأدت أيضاً -وبعد حوالي 4,000 سنة- إلى الثورة الصناعية.
وقد قاد اكتشاف الإلكترون لاحقاً إلى تطوير أنبوب التخلية، وترانزستور الحالة الثابتة، والإلكترونيات الدقيقة عموماً، وتم تطوير السيليكون شديد النقاء (المطلوب للإلكترونيات العصرية) في البداية من أجل استخدامه في المستقبلات الرادارية عالية التردد في الحرب العالمية الثانية.
وقادت كل واحدة من هذه الإنجازات في علم المواد إلى تغير في العالم وطريقة تفاعلنا معه، ولكنها أتت كلها بالصدفة، وترافق كل إنجاز منها باختفاء أغلب معلوماتنا عن طريقة الحياة التي كانت موجودة قبله.
تقول سبالدين: إننا بحاجة إلى شيء مماثل للتغلب على مسألة الطاقة التي يحتاجها السيليكون، إذ لا يمكننا أن نستمر في استخدامه، فماذا سنستخدم بدلاً منه إذن؟
تأتي إحدى الاحتمالات الممكنة من بحث آخر لسبالدين حول المواد متعددة الحديدية (أي المواد التي تمتلك خواص حديدية كهربائية وحديدية مغناطيسية في نفس الوقت)؛ إذ عادة ما تكون الوسيلة الوحيدة لتغيير الخواص المغناطيسية لمادة ما هي استخدام الحقل المغناطيسي، ولكن سبالدين -وغيرها من الباحثين- بيَّنوا كيفية تغيير الخواص المغناطيسية للمواد متعددة الحديدية عن طريق الحقول الكهربائية، وهو أمر هام للغاية؛ حيث إن جزءاً كبيراً من العملية المبنية على السيليكون لمعالجة وتخزين المعلومات يعتمد على الخواص المغناطيسية التي يجب التلاعب بها عن طريق الحقول المغناطيسية، وبالتالي قد تؤدي القدرة على تنفيذ هذه العملية بشكل أكثر فعالية إلى تغيير ثوري؛ تقول سبالدين: "إن استبدال الحقول المغناطيسية التي تعتمد عليها تقنياتنا الحالية بحقول كهربائية يتيح فرصةً كبيرة لتوفير الطاقة، وتصغير الحجم، وزيادة الفعالية".
تتمتع المواد متعددة الحديدية بخواص أخرى مفيدة أيضاً؛ إذ يمكن أن تتراصف في هذه المواد ثنائيات الأقطاب الكهربائية الحديدية في اتجاهات مختلفة. وقد تبين أن ثنائيات الأقطاب المتراصفة تشكل مناطق تسمى النطاقات، وأن الحدود بين هذه النطاقات مثيرة للاهتمام. كما أوضحت سبالدين أن هذه الحدود تشكل قنوات ناقلة يمكن تحريكها وإعادة ترتيبها بواسطة الحقول الكهربائية، وتقول: "يوجد عدة تطبيقات محتملة لهذه الظاهرة، مثل الذواكر، أو هيكلية معالجة المعلومات".
كما أن سطح هذه المواد متعددة الحديدية يتمتع بخصائص إلكترونية غريبة، يمكن التلاعب بها من أجل تحفيز تفاعلات كيميائية مثل تحليل الماء؛ تقول سبالدين: "إن موادنا الجديدة متعددة الكهربائية مرشحة لتُحدث نقلة نوعية في الأجهزة الإلكترونية، وإتاحة وسائل جديدة لتصميم التقنيات. قد نكون على وشك الدخول في عصر جديد يتمحور حول المواد متعددة الحديدية".
سينتهي اعتمادنا على السيليكون، وسنعتمد بدلاً منه على صناعة تنتج منغنات الإيربيوم أو منغنات الإيتريوم أو حديد البزموت، وجيل جديد من أجهزة معالجة المعلومات ذات الفعالية العالية في استهلاك الطاقة.
غير أن سبالدين ليست متعجِّلة؛ فهناك الكثير من العوامل التي تحدد مستقبل التكنولوجيا، ولا يوجد سبيل للتنبؤ بشكل هذ المستقبل، وليست المواد متعددة الحديدية سوى احتمال واحد من بين احتمالات كثيرة.
وهذا في الواقع ما تقصده سبالدين بالضبط؛ حيث يظهر التاريخ أن المستقبل البعيد لا ينطبق على الاستقراء المباشر للحاضر، بل يتبدل العالم بفعل الأفكار الجديدة التي تُحدث تغيرات ثورية؛ ولهذا يجب إيجاد بيئة مناسبة لظهور هذه الأفكار.
وقد تبدو فكرة اعتماد الثورة التكنولوجية على علماء المواد أقرب للمزاح؛ حيث إن علماء الفيزياء هم من يقومون حقاً بالأعمال المهمة (إياكم وأن يدري علماء المواد بهذا).
وتنهي سبالدين كلامها برجاء حار للحكومات والوكالات الممولة وإدارات الجامعات، فتقول: "لن تأتي الإنجازات الحقيقية التي ستغير مسار التاريخ من مبادرات تحسين المواد أو الأجهزة الحالية، أو تطوير التقنيات الموجودة سابقاً، بل ستأتي من الأفراد المتميزين أو الفرق الصغيرة من الباحثين، الذين يبحثون في اتجاهات بحثية أساسية جديدة، لم تظهر لها تطبيقات عملية بعد".
وباختصار، إذا حظيت الأبحاث النظرية الأساسية الجديدة بالرعاية اللازمة فستؤدي إلى فوائد جمة.