انتشرت الأخبار المناخية السيئة في كل مكان في 2023. فقد كان هذا العام أكثر الأعوام حراً على الإطلاق، إذ كانت درجات الحرارة من يناير/كانون الثاني وحتى نوفمبر/تشرين الأول أعلى وسطياً بمقدار 1.46 درجة مئوية (2.62 درجة فهرنهايت) من مستوياتها العائدة إلى ما قبل الثورة الصناعية. علاوة على هذا، وصلت الانبعاثات من الوقود الأحفوري بأنواعه المختلفة إلى ذروة جديدة، فقد بلغت 36.8 مليار طن متري من ثنائي أوكسيد الكربون، بزيادة 1.1% مقارنة مع 2022.
ويطلق العلماء نداءات متعالية تحذر من نفاد الوقت المتاح أمام العالم لتفادي الوصول إلى مستويات الاحترار الخطيرة. تبدو الصورة قاتمة. لكن إذا أمعنا النظر، فسنجد بضع بقع مضيئة في هذه الظلمة الكالحة.
فالتكنولوجيات الجديدة التي يمكن أن تساعد في مواجهة التغير المناخي، بدءاً من المضخات الحرارية وصولاً إلى الألواح الشمسية والسيارات الكهربائية، بدأت تنتشر في الأسواق، وتصبح أقل تكلفة. كما أن السياسات المناخية آخذة بالتطور، بدءاً من حوافز دعم التكنولوجيات الجديدة وصولاً إلى فرض القواعد المتعلقة بالتلوث. إضافة إلى هذا، تشهد الجهود الرامية إلى مساعدة الدول الضعيفة على التكيف مع التغير المناخي نمواً متواصلاً.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن أن تساعد زراعة الأعشاب البحرية على التخفيف من آثار التغير المناخي؟
وسنقدم هنا بعضاً من هذه البقع المضيئة التي شهدها مراسلونا في 2023.
تراجع العوائق أمام انتشار السيارات الكهربائية
شهدت هذه السنة الكثير من الأخبار السارة المتعلقة بالسيارات الكهربائية. فقد وضعنا "السيارات الكهربائية الحتمية" على قائمتنا لأفضل 10 إنجازات تكنولوجية غير مسبوقة في يناير/كانون الثاني، مع الإشارة إلى ارتقاء هذه التكنولوجيا إلى مستويات جديدة من الأهمية والانتشار بفضل اجتماع عدة عوامل، مثل الدعم القوي للسياسات وتوسع سلاسل التوريد.
وقد حافظت هذه التوجهات على زخمها إلى حد كبير في 2023، ما يمثل خبراً جيداً بالنسبة للتغير المناخي، بما أن إسهام قطاع النقل في الانبعاثات العالمية يصل إلى 20% تقريباً.
ووفقاً لشركة بلومبرغ إن إي إف (BNEF)، ستصل مبيعات السيارات الكهربائية إلى نسبة 15.5% من إجمالي مبيعات السيارات لهذه السنة. ويعني هذا النمو الجديد أن الطرقات ستشهد هذه السنة نحو 41 مليوناً من السيارات الكهربائية المخصصة للركاب، سواء كانت سيارات كهربائية تعمل بالبطارية أو سيارات هجينة قابلة للشحن. تمتلك الصين أكبر حصة من السيارات الكهربائية في العالم، يصل عددها إلى ما يقارب ربع الإجمالي العالمي.
أما البطاريات التي تزود هذه السيارات جميعاً بالطاقة فقد أصبحت أكثر انتشاراً وأقل تكلفة. فقد ارتفع مستوى التصنيع العالمي لبطاريات الليثيوم أيون بنسبة تفوق 30% هذه السنة. وعلى الرغم من أن الأسعار ارتفعت بنسبة طفيفة في السنة الماضية، فقد انخفضت ثانية في 2023، وحققت أكبر انخفاض سنوي منذ 2018.
ويمكن لتطبيق مجموعة واسعة من السياسات أن يدعم مواصلة نمو السيارات الكهربائية. فقد لجأ بعض الحكومات إلى جعل الانتقال من السيارات التي تعمل بالوقود الأحفوري إلى السيارات الكهربائية إلزامياً، إذ أقرّ الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة في 2023 سياسات تفرض أن تكون سيارات الركاب الجديدة المبيعة جميعها معدومة الانبعاثات بدءاً من 2035. وقد تبنّت عدة ولايات أميركية السياسة نفسها، إذ حققت كاليفورنيا الأسبقية في السنة الماضية، وتلتها ولايات أخرى في 2023.
إضافة إلى هذا، تدفع الحوافز المستهلكين نحو الانتقال إلى السيارات الكهربائية. فقانون خفض التضخم في الولايات المتحدة يتضمن مجموعة ضخمة من الإعفاءات الضريبية لتصنيع البطاريات، والسيارات الكهربائية، ومعالجة المواد المعدنية.
لكن مشهد السيارات الكهربائية لا يخلو من المؤشرات السلبية، على الرغم من كثرة المؤشرات الإيجابية. فقد تراجع نمو المبيعات بين 2022 و2023، كما أن التغير في الطلب دفع ببعض شركات تصنيع السيارات إلى إبطاء إنتاج بعض الطرازات، مثل فورد إف-150 لايتنينغ (Ford F-150 Lightning). إضافة إلى هذا، فإن البنية التحتية المخصصة للشحن ليست متاحة أو موثوقة بما يكفي في بعض الأسواق، وقد تحولت هذه المشكلة إلى أحد أكبر عوائق تبني السيارات الكهربائية.
لا تزال السيارات تُبَاع بوتيرة غير مسبوقة، ولا تزال الانبعاثات الناجمة عن النقل في تصاعد مستمر، ولهذا، يجب تسريع مبيعات السيارات الكهربائية لإحداث أثر ملموس في التأثير المناخي لقطاع النقل. لكن التقدم الذي حققته السيارات الكهربائية حتى الآن يبدو قصة مشجعة وإيجابية لتحول التكنولوجيات الصديقة للمناخ إلى خيار سائد. لنأمل أن تستمر هذه التوجهات في 2024، باندفاع متواصل دون تباطؤ.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن استخدام الماء لجعل البطاريات أكثر أماناً؟
البلدان والشركات تضيّق الخناق على الميثان
من التطورات المشجعة الأخرى في موضوع التغير المناخي المثير للقلق تزايد الاعتراف بأن تخفيف التلوث بالميثان يمثل أحد العوامل المؤثرة جداً في الحد من الاحترار العالمي على مدار الأعوام المقبلة.
لطالما طغى ثنائي أوكسيد الكربون على الميثان، لأننا ننتج كميات ضخمة منه. لكن الميثان يستطيع احتجاز مقدار أكبر من الحرارة التي يحتجزها ثنائي أوكسيد الكربون بثمانين ضعفاً تقريباً، على مدى أكثر من 20 سنة، وهو سبب ربع الاحترار الإجمالي فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية على الأقل.
لكن، من ناحية أخرى، يتفكك هذا الغاز بسرعة أكبر بكثير في الغلاف الجوي. تعني هاتان الصفتان معاً أن التخفيضات السريعة في انبعاثات الميثان حالياً قد تؤدي إلى أثر واضح في التغير المناخي، ويمكن أن تؤدي إلى تخفيض الاحترار الإجمالي بمقدار ربع درجة مئوية بحلول منتصف هذا القرن. ويمكن لهذا المقدار أن يمثل بسهولة الفرق بين تجاوز احترار الكوكب لدرجتين مئويتين، أو عدم تجاوزه.
لهذا، كان من المشجع أن نسمع أخيراً إعلان مدير وكالة الحماية البيئية الأميركية، خلال أحدث مؤتمر مناخي للأمم المتحدة، عن أن الوكالة ستفرض قريباً على شركات النفط والغاز مراقبة انبعاثات الميثان التي تصدرها خطوط الأنابيب والآبار والمنشآت، وإحداث تخفيض حاد في مستويات عمليات التنفيس وإشعال الغاز والتسريبات.
اقرأ أيضاً: تعرف على سيارات الميثانول: البديل الذي تراهن عليه الصين ليحل محل محركات الوقود الأحفوري
بالنسبة للقوانين الفيدرالية، فإن منع انبعاثات الملوثات الشديدة القابلة للاشتعال التي تتسبب باحترار الكوكب، والتي لا تؤدي حتى إلى إنتاج أي شيء يحمل قيمة اقتصادية، يمثل الحد الأدنى من المتطلبات التي يمكن أن نفرضها على هذه الصناعة. لكن هذا الإجراء سيمثل خطوة إلى الأمام يمكن أن تؤدي إلى إزالة ما يكافئ 1.5 مليار طن متري من ثنائي أوكسيد الكربون من حيث التأثير على الاحترار بحلول عام 2038.
شهد مؤتمر الأمم المتحدة المزيد من الأخبار السارة المتعلقة بالميثان. فقد تعهدت مجموعة من شركات النفط والغاز الكبرى، بما فيها بريتيش بتروليوم (BP) وإيكسون (Exxon) وأرامكو السعودية (Saudi Aramco)، بتخفيض ما تصدره من تلوث بالميثان بنسبة 80% على الأقل بحلول عام 2030. إضافة إلى هذا، فقد انضمت مجموعة إضافية من البلدان إلى تحالف دولي ملتزم بتخفيض الانبعاثات العالمية بنسبة 30% في هذا العقد، في حين رفعت بلدان أخرى من مستويات تعهداتها وتمويلها.
يضاف ما سبق كله إلى الجهود العالمية المتنامية لزيادة فاعلية عمليات مراقبة مصادر التلوث بالميثان في أنحاء العالم كافة والتبليغ عنها، والتخفيف من الانبعاثات الناجمة عن الزراعة ومكبات النفايات.
لكن، وعلى غرار القضايا المتعلقة بالتغير المناخي، فإن هذه الإجراءات غير كافية، وتعتمد نسبة كبيرة منها على التطوع دون أي إلزام، إضافة إلى وجود الكثير من التعقيدات. لكن هذه الإعلانات، إضافة إلى دلائل أخرى تشير إلى إحراز التقدم، بدأت تتراكم ببطء لتوجيهنا نحو مستقبل أقل كآبة، كما أنها تذكرنا في الوقت نفسه بأننا قادرون على تحقيق المزيد.
اقرأ أيضاً: هل من الممكن سحب الميثان من الغلاف الجوي لإبطاء الاحترار العالمي؟
إطلاق صندوق مهم للتعويض عن الأضرار المناخية
في حين يسارع العالم إلى اتخاذ الإجراءات الرامية إلى تخفيض الانبعاثات، بات من الواضح أكثر من ذي قبل أن الأضرار الناجمة عن التغير المناخي أصبحت جزءاً من الواقع الحالي، مع تصدر الحرائق البرية والفيضانات وموجات الحر عناوين الأخبار.
لهذا، كان من المبشر أن نشهد افتتاح المؤتمر المناخي للأمم المتحدة هذا العام بحدث مفصلي تاريخي بالنسبة للبلدان الفقيرة التي تواجه صعوبات جمة في مواجهة هذه المشاكل. ففي اليوم الأول من المحادثات، أطلقت الأمم المتحدة صندوق الخسائر والتعويضات رسمياً وبعد طول انتظار.
كانت مجموعة صغيرة من البلدان الصناعية، مثل الولايات المتحدة وألمانيا والمملكة المتحدة، مسؤولة تاريخياً عن النسبة العظمى من الانبعاثات التي تؤدي إلى تفاقم الأحداث الطقسية العنيفة وما يقترن بها من كوارث. أما الآن، فسوف تدفع هذه البلدان ثمن هذا الإرث (نظرياً).
اقرأ أيضاً: لماذا لم يعد بإمكاننا تجاهل خيار التكيّف المناخي؟
يهدف هذا الصندوق إلى مساعدة البلدان الفقيرة والنامية في التعامل مع الأضرار المتفاقمة الناجمة عن الكوارث المناخية. تنتمي نسبة كبيرة من هذه البلدان -التي أسهمت بأقل مقدار من الانبعاثات- إلى مجموعة البلدان الأكثر عرضة للآثار المناخية، وغالباً ما تفتقر إلى الموارد الضرورية للتعامل معها. يمكن للأموال التي يقدمها الصندوق مساعدة هذه البلدان على إعادة الإعمار بعد أحداث مثل الجفاف أو الفيضانات، وتحسين قدرة هذه الدول على تحمل الكوارث في المستقبل.
وقد سارع أنصار هذه الفكرة بالإشارة إلى أن إجمالي التعهدات حتى الآن ليس سوى مقدار ضئيل بالمقارنة مع الحاجات الفعلية. ووفقاً لتقديراتهم، تكافئ التعهدات الحالية أقل من 0.2% من الخسائر الاقتصادية المتوقعة التي ستتعرض لها الدول النامية بسبب الكوارث المناخية سنوياً.
بحلول نهاية المؤتمر المناخي للأمم المتحدة للعام 2023 في 12 ديسمبر/كانون الأول، التزمت البلدان بتقديم مبلغ إجمالي يقارب 800 مليون دولار. وقد تعهدت كل من الإمارات العربية المتحدة وألمانيا بتقديم 100 مليون دولار، وعرضت المملكة المتحدة تقديم 75 مليون دولار، أما الولايات المتحدة فأسهمت بمبلغ 17.5 مليون دولار.
قد تبدو هذه الأرقام كبيرة، لكن بعض الأشخاص أشاروا إلى خبر رياضي يمكن أن يوضح الحجم الفعلي لهذه المبالغ. ففي 9 ديسمبر/كانون الأول، وقّع لاعب البيسبول شوهي أوتاني عقداً بقيمة 700 مليون دولار مع فريق إل أيه دودجرز. في الواقع، فإن مجرد مقارنة الجهود العالمية لمواجهة التغير المناخي بالمبلغ الذي ينفقه فريق رياضي على لاعب واحد يجب أن يكون مدعاة للخجل والعار على مستوى العالم.
تقول إحدى كبار الباحثين في المعهد الدولي للبيئة والتنمية، ريتو بارادوادج: "يتعين على بلدان العالم الثرية أن تمعن النظر في نفسها والإجراءات التي اتخذتها حتى الآن".
اقرأ أيضاً: ما الدروس التي يمكن تعلمها من مؤتمر الأطراف COP 28 حتى الآن؟
على الرغم من هذا، لا يزال الصندوق يمثل خطوة إلى الأمام نحو تحقيق العدالة في مقاومة الآثار المناخية. أما الآن، فتتركز الجهود على مواصلة رفع مستوى الالتزامات، وإتاحة المزيد من التمويل لمن يحتاج إليه.