إثر عام قاسٍ بالنسبة إلى عالم الطيران - نتيجة إيقاف طائرة بوينغ 737 ماكس عن الخدمة بعد حادثتين نتج عنهما الكثير من القتلى، وانهيار أنظمة الكمبيوتر في بعض أهم شركات الخطوط الجوية على نطاق الولايات المتحدة، والإعلان عن نهاية طائرة إيرباص إيه 380 العملاقة - كنا بحاجة إلى بعض الأخبار الجيدة حول الرحلات الجوية التجارية، وقد وصلنا الخبر على هيئة طائرة ثورية مستقبلية.
في أوائل شهر يونيو/حزيران، احتفت "شبكة سي إن إن" بقصة تصميم طائرة مبتكرة أُطلق عليها اسم "فلاينغ-في" (Flying-V)، بتمويل من "شركة الخطوط الجوية الملكية الهولندية كيه إل أم" (KLM) ومقرها أمستردام. اختُزلت مواصفات هذه الطائرة ذات الشكل الجديد الذي يبعث على الغبطة بالحرف (V) الملتصق باسمها. ووفقاً للتقارير الأولية، فإن طائرة "فلاينغ-في" سوف تطابق كفاءة طائرات الركاب النفاثة الحالية ذات الهيكل العريض مثل إيرباص أيه 350 وبوينغ 787، ولكن مع وجود تحول، إذ إن اثنين من الممرات الطويلة الضيقة تمتدان لأسفل الهيكل المنفصل إلى ناحيتين وتمثلان الأجنحة نفسها. (وهذا يعني أن نصف الركاب الجالسين على المقاعد بجانب النوافذ سوف يضطرون إلى التحديق خارجاً عبر النوافذ نفسها ضمن حيّز فيه القليل من الهواء).
إن فكرة الطائرة على شكل حرف (V) ليست جديدة تماماً، لكن شركة "كيه إل أم" أبدت مستوى جديداً من الاهتمام من خلال جعل هذه الهندسة في الطليعة في عالم الرحلات الجوية التجارية. وجدير بالذكر أن طائرة "فلاينغ-في" تَعد تحقيق كفاءة أكبر في استهلاك الوقود من خلال تسخير "التعاون" بين الأجنحة وجسم الطائرة. وأبدت المواقع على الإنترنت الكثير من الاهتمام في هذه القصة ابتداء من موقع "بوينغ بوينغ" (Boing Boing) وموقع "ترافل آند ليجر" (Travel + Leisure) وصولاً إلى موقع "ماكسيم" (Maxim)، واقتبست مراراً وتكراراً من خبر "شبكة سي إن إن" وأعادت نشر الرسومات التوضيحية المذهلة للمفهوم الذي ستُبنى على أساسه الطائرة، كما لو كانت قائمة بالفعل ومتصلة على الجسر المخصص لها لصعود الركاب وجاهزة للطيران.
ولكن هناك أمراً غريباً حول طائرة "فلاينغ-في"، فكل هذه الضجة حول الطائرة المستقبلية على صلة بكل ما يتعلق بعصر الأنثروبوسين، وهو نقطة انعطاف نمر فيها حالياً في التاريخ الجيولوجي؛ انعطاف يحدده التأثير البشري المدمر.
لقد تأطرت قصص طائرة "فلاينغ-في" باستمرار حول الرغبة في "استدامة" الرحلات الجوية التجارية. وأبرزت كل مقالة كيف أن الطائرة الجديدة تَعد بتحقيق كفاءة أكبر في استهلاك الوقود تصل إلى نسبة 20%، وتطرقت العديد من المقالات إلى الانبعاثات الحالية لثاني أكسيد الكربون العالية جداً على مستوى العالم، وذلك للاحتفاء بالتصميم الجديد. وإذا قرأت ما بين سطور جميع هذه التقارير ستجد أنها تحمل معنى أن السفر الجوي كما نعلم يُلحق الخراب بالبيئة، ويتجلى هذا في إعاقة الدروب أمام هجرة الطيور، ومدارج الطيران التي تؤدي حركة الطائرات فيها إلى حدوث انبعاثات كربونية في الجو، واستهلاك الوقود الأحفوري الضار. تُقر المواد الأخبارية تحت العناوين العريضة حول طائرة "فلاينج-في" جميعها بأن السفر الجوي مدمر على نحو شديد ويصل إلى مرحلة متأزمة، إلا أنه على الرغم من ذلك، تُعتبر الرحلات الجوية التجارية أمراً مفروغاً منه وسيستمر بلا هوادة.
تبين أن التغطية الإعلامية لطائرة "فلاينغ-في" تتركز حول "حاضر" بديل، حتى لو زعم أنها ستكون شكل من أشكال الطيران المستقبلي المستدام، وذلك خلال مدة "20 إلى 30 عاماً". وركّز كل هذا الضجيج بالفعل على ما نشعر به حول رحلات الطيران التجارية والبيئة الآن. إن القفز لعدة عقود إلى المستقبل كما لو أنه سيكون نفسه عموماً هو مؤشر على سوء النية، أي كما لو أنهم يقرّون بعدم عزمهم على إحراز أي تقدم على الإطلاق، وسنظل نتلاعب بمصائرنا. وعلى هذا الأساس، تدور قصة هذه الطائرة المتصورة أيضاً حول عدم قدرتنا على وضع مفهوم عصر الأنثروبوسين كمشكلة حقيقية والتي يمكن أن ننخرط في إيجاد حلول لها في المستقبل القريب، من خلال اتخاذ خطوات أكثر براغماتية وبأسلوب أقل توهجاً، ولا يتعلق الأمر فقط بإيجاد حلول سريعة للتكنولوجيا أو تعديلات بسيطة على الحالة الراهنة. بدلاً من ذلك، يتطلب عصر الأنثروبوسين من البشر على نطاق واسع الاستجابة بصورة جذرية من خلال إعادة تنظيم كامل لكيفية فهم البشر لأنفسهم وتفاعلهم مع الكوكب والعدد الذي لا يحصى لسكانه الآخرين.
بالنظر إلى المعطيات المتعلقة بالطائرات التجارية في أيامنا هذه - أي التنافس المتعنت بين التوأم المعتمد إيرباص أيه 320 وبوينغ 737، واضطراب عمل طراز 737 ماكس الذي ما زال واقفاً عن الخدمة (وليس مصادفة أنّ بيعها تم أيضاً على أساس وعود بكفاءة أكبر في استهلاك الوقود)، ونهاية عصر الطائرات العملاقة – يتشكل لدينا سبب لنشعر بالارتياب الشديد في أي مشروع من شأنه أن يغير إلى حد كبير شكل الطائرات التجارية. إذ يُعتبر السفر الجوي التجاري كما نعرفه متأصلاً جداً ويستقر أكثر فأكثر على نمط واحد صرف؛ طائرات ذات محركين وحجمها من صغير إلى متوسط ومسخرة للعمل في جميع أنحاء العالم. أما التكاليف ووقت إعادة التدريب على نظام جديد يُعتبران عاملين يمنعان أي إعادة تصوّر جادة للرحلات الجوية.
وبالحديث عن التكاليف: توضح التفاصيل الدقيقة المتعلقة بأخبار طائرة "فلاينغ-في" أن هذه الطائرة ليست "طائرة جديدة" على الإطلاق، على الأقل حتى الآن، بيد أن هناك شركة كبيرة (كيه إل أم) تمول البحث والتصميم لفكرة طائرة جديدة. إنّ التمويل أساسي، والسبب الكامن وراء تفضيل بعض المفكرين في البيئة إطلاق اسم "كابيتالوسين" (Capitalocene) على عصرنا الحالي، يوضح الخيال في المبالغ الهائلة من رأس المال المكدس من قبل تكتلات متعددة الجنسيات أو ملّاك أقوياء؛ رأس المال قد يوجه بعد ذلك بطريقة صحيحة فحسب، كما لو أنه سيحل المشكلات التي تتحملها الحداثة بطريقة سحرية وبدقة.
بالطبع، لا ينجح رأس المال في تسخيره على هذا النحو، كما لو كان بإمكانه القفز في المستقبل أو إنجاز الأمور بإشارة واحدة (مثل بناء جدار أو اختراع طائرة جديدة أو توفير خدمة الواي فاي للجميع أو الانتقال إلى المريخ). إن رأس المال يرتفع ولكنه يُوزع على نحو غير متساو؛ ويستغل الكثير من الناس بينما يرفع عدد قليل جداً، إن رأس المال يستند على نفسه ولكن ليس لأي هدف آخر في الاعتبار. إنّ رأس المال لا يُعير اهتماماً للاستدامة، لكنه يكدس ما يستطيع. أو بعبارة أخرى، في حين أن السفر الجوي يهتم بنقطة الانطلاق والوجهات الحقيقية، فإن رأس المال لا يحتاج إلى الذهاب إلى "أي مكان" لكي ينمو. وربما لا يحتاج إلى عالم على الإطلاق.
أخيراً، يجب التحدث عن اسم طائرة "فلاينغ-في"، وذلك في إشارة إلى الغيتار الكهربائي "فلاينغ-في" الصادر عن شركة "جيبسون" (Gibson) والذي يجعل المشروع بأكمله أقرب إلى ترفيه جذاب. يستحضر الاسم الموسيقيين المشهورين مثل ليني كرافيتز، أو ربما إدي فان هالين، في بعض العروض الملحمية في الماضي. كما لو كان هذا كله مجرد حفل لموسيقا الروك المبهجة؛ حلم لمشهد جماهيري قد نستيقظ منه في صباح الغد، ونعلّق بعده قائلين إنه كان وقتاً رائعاً. وبطريقة ما، لقد كان كذلك بالفعل.
كجزء مقتضب من شبه الخبر والذي تم تداوله عبر الإنترنت لمدة يوم أو اثنين، تصبح قصة "فلاينغ-في" جزءاً من عصر الأنثروبوسين بطريقة مختلفة. إنها دليل على الانحراف الغريب الذي لا آخر له لشبكة الإنترنت، والانتشار البطيء والمستمر للدارات الكهربائية والأجهزة والعقد والأسلاك والشاشات والأزرار والأقمار الاصطناعية وأبراج الهواتف المحمولة، إن كامل البنية التحتية والأجهزة تربطنا بهذا المكان والزمان بينما نواجه في الوقت نفسه رعب زوال الماضي (المرتبط بالثقب الأسود)، حيث تصبح جميع هذه الأمور بالية، وتصبح شبكة الإنترنت ذكرى متلاشية من ماض يتسم بالوفرة، حيث قمنا بتدوين جميع آمالنا ومخاوفنا، وعملنا على تخزين طائراتنا المستقبلية، طائرات من شأنها أن تُظهر أننا تعلمنا من الأحداث التي مرت علينا وعدلنا سلوكنا لنعيش في عالم نشعر به أكثر. لكن اتضح أننا كنا نسرّع نهاية العالم الذي نعرفه فحسب، من خلال الإصرار على أن كل شيء سيبقى كما هو، حتى مع اعتقادنا أننا نخطط لطرق مستقبلية أفضل من أجل الطيران، ومن أجل العيش.