في كل مرة تهدأ فيها المخاوف، تعود لتنفجر مجدداً، يبدو أن الذكاء الاصطناعي لا يتوقف عن دق نواقيس الخطر، ولكن هذه النواقيس لا يسمعها إلا من هم في قمة هرم التكنولوجيا. في صمت لا تلتقطه الآذان العادية، تهتز الأرض تحت أقدام الرؤساء التنفيذيين الذين يرون الصورة كاملة.
هذه ليست نبوءات، بل إشارات مباشرة من صانعي القرار أنفسهم، ومن بينهم الرئيس التنفيذي لشركة أمازون آندي جاسي، الذي قرر أن يشارك رؤيته لمستقبل تسيطر عليه الخوارزميات لا الموظفون والعمال.
فهل نحن على أعتاب ثورة تكنولوجية تنهي أدوارنا الوظيفية؟ وهل بدأت الشركات العملاقة حقاً بتحضير نفسها لاستبدال البشر بالآلات؟
في هذا المقال، نعرض ما يقوله الرؤساء التنفيذيون بألسنتهم، ونحلل الرسائل الخفية في كلماتهم العلنية.
اقرأ أيضاً: ما هي المهن التي لن يحل محلها الذكاء الاصطناعي التوليدي؟
أولى الإشارات: رسائل من القمة تحذر من موجة قادمة
أرسل آندي جاسي مذكرة داخلية إلى موظفي أمازون حملت عنواناً بريئاً: "أفكار حول الذكاء الاصطناعي التوليدي". لكن ما كتب بين السطور لم يكن مجرد أفكار، بل هو تحذير مبطن.
المذكرة تتكون من 1200 كلمة، بدت في ظاهرها استعراضاً لإنجازات الشركة في مجال الذكاء الاصطناعي، تحسينات في قدرات المساعد أليكسا، واستخدام بوتات الدردشة في خدمة العملاء، لكن المضمون الحقيقي كان مدفوناً في الفقرة الخامسة عشرة.
الذكاء الاصطناعي سيحل مكان البشر
في اعتراف صريح، كتب جاسي في تلك الفقرة أن أمازون تتجه في السنوات القليلة القادمة لاستبدال بعض العاملين فيها بوكلاء الذكاء الاصطناعي. لم يحدد عدد الوظائف التي ستلغى، لكنه أوضح أن هذا التحول سيؤدي إلى تقليص إجمالي في القوى العاملة نتيجة لتحقيق كفاءة أعلى باستخدام الذكاء الاصطناعي.
رغم عدم وضوح الأرقام أو التفاصيل الدقيقة، هناك أمر واحد مؤكد: التغيير قادم وسريع، "الوكلاء" التي ستتولى المهام البشرية لم تصبح جاهزة بعد كما قال جاسي، لكنها "قادمة، قادمة وبسرعة".
اقرأ أيضاً: تعرّف إلى وظائف الذكاء الاصطناعي الأكثر طلباً وكيفية تعلمها
الرئيس التنفيذي لشركة أنثروبيك يدخل على الخط
في نسخة أكثر إثارة للذعر، خرج داريو أمودي، الرئيس التنفيذي لشركة أنثروبيك الأميركية المطورة للذكاء الاصطناعي، ليقول بصراحة وثقة مطلقة إن الذكاء الاصطناعي قد يستولي على نصف وظائف المكاتب الإدارية، وهذا لن يحدث في المستقبل البعيد، بل خلال خمس سنوات فقط.
لا أحد يعلم لماذا النصف تحديداً، أو لماذا بعد خمس سنوات بالضبط. لكن الهدف واضح: رسم صورة تكنولوجية مخيفة تبدو حتمية ولا تقاوم. وللأسف، لا نستطيع أن نعرف إذا كانت هذه التحذيرات حقيقية أم لا.
أهداف خفية من هذه التحذيرات
ترى أليسون مورو، وهي كاتبة رئيسية في CNN Business، أن هناك استغلالاً واضحاً للحماس المتصاعد حول الذكاء الاصطناعي، الرؤساء التنفيذيون يواصلون ضخ رسائل مليئة بالإثارة والتحذير، لكنها ليست دائماً بدافع الصدق المطلق، بل أحياناً بدافع الترويج لتقنياتهم. برأيها، آندي جاسي قد لا يكون كاذباً، لكنه بلا شك يستخدم الذكاء الاصطناعي كأداة تخويف ناعمة، تهدف إلى الحفاظ على انضباط الموظفين وولائهم، تحت شعار: ابقَ نافعاً أو سيتم استبدالك.
مورو تقول إنه من المهم أن نسأل أنفسنا: لماذا نسمع هذه التصريحات المتشائمة كل بضعة أشهر؟ الحقيقة أن من يطلق هذه التصريحات هم ذاتهم من يقودون عجلة التطوير التكنولوجي، بل ويجنون منها الأرباح الأكبر.
ومن المثير للسخرية أن جاسي وغيره من الرؤساء التنفيذيين الذين يحذرون الموظفين من استبدالهم بالذكاء الاصطناعي لم يذكروا ما إذا كان الذكاء الاصطناعي سيحل محلهم أم لا. فهم أيضاً موظفون.
اقرأ أيضاً: الذكاء الاصطناعي وشبح تهديد الوظائف: كيف تتأقلم الحكومات؟
رؤساء تنفيذيون يعارضون هذه الرؤية
ليست الأصوات كلها في عالم التكنولوجيا تغني اللحن نفسه. فكل من جينسن هوانغ، وهو الرئيس التنفيذي لشركة إنفيديا، وديميس هاسابيس، الرئيس التنفيذي لشركة جوجل ديب مايند، عبرا عن مواقف أقل تشاؤماً، مؤكدين أن الذكاء الاصطناعي ليس نهاية العالم المهني، بل بداية فصل جديد من التعاون بين الإنسان والآلة.
مزيج من الدعاية والسيطرة والظهور الإعلامي
انطلاقاً مما استعرضناه من تصريحات ومواقف متباينة بين الرؤساء التنفيذيين في كبرى شركات التكنولوجيا، يمكننا أن نستنتج أن الذكاء الاصطناعي، رغم تقدمه المتسارع، لا يزال بعيداً عن القدرة على استبدال وظائف البشر جميعها، خاصة تلك التي تتطلب مهارات تحليلية وتفكيراً نقدياً وتواصلاً إنسانياً أو خبرة سياقية لا يمكن اختزالها بخوارزميات تعتمد على بيانات تاريخية.
في الواقع، التأثير الأكبر للذكاء الاصطناعي في المرحلة الحالية يتركز على الوظائف البسيطة المتكررة التي يمكن أتمتتها بسهولة.
لكن الأهم من التكنولوجيا ذاتها، هو ما يقال عنها وكيف يتم الترويج لها. فالكثير من التصريحات الصادرة عن كبار التنفيذيين لا تخلو من أهداف غير معلنة. في ظاهرها، توحي هذه التصريحات بأن المستقبل لا يرحم، وأن من لا يواكب الذكاء الاصطناعي مصيره الزوال. لكن في باطنها، قد تكون هذه التصريحات:
- أداة دعائية تهدف إلى رفع قيمة منتجات الشركات وتقنياتها على أنها "ثورية" وقادرة على إنجاز المهام مثل البشر، بل والتفوق على البشر.
- أداة ضغط داخلية تستخدم لتخويف الموظفين وحثهم على العمل أكثر والتعلم الذاتي.
- مادة إعلامية جذابة تضمن للرؤساء التنفيذيين مزيداً من الظهور في وسائل الإعلام، وتضعهم في مركز الضوء والاهتمام العالمي.
اقرأ أيضاً: ما وظائف الذكاء الاصطناعي التي لا تتطلب معرفة بالبرمجة؟
لذلك، ينبغي ألا نتعامل مع هذه التصريحات كحقائق مطلقة، بل كتوجهات ومؤشرات ينبغي دراستها وتحليلها. نعم، الذكاء الاصطناعي يتطور بسرعة رهيبة، لكنه ليس وحشاً كما تصوره. وما بين التهويل الإعلامي والواقع التقني، تبقى الحقيقة في مكان ما بالمنتصف.