الحالة الغريبة للشاب الذكي الذي ضاعت منه الكلمات بسبب تشات جي بي تي

5 دقيقة
حقوق الصورة: shutterstock.com/TippaPatt

جلس رجل الأعمال المخضرم غريغ آيزنبيرغ مع شاب متخرج حديثاً في جامعة ستانفورد، ولاحظ أنه شاب ذكي، ومعه سيرة ذاتية مثالية. لكنه لاحظ أيضاً أمراً غريباً؛ فالشاب كان يتوقف كثيراً في أثناء كلامه، وكأن الكلمات واللغة كانت تضيع منه. عندما سأله إن كان بخير، كانت الإجابة صادمة:

"أحياناً أنسى الكلمات الآن. لقد اعتدت على استخدام تشات جي بي تي لإكمال أفكاري، لدرجة أنني عندما لا أستخدمه، أشعر بأن عقلي أبطأ".

لقد اعتمد الشاب على تشات جي بي تي في كل شيء: الكتابة، والتفكير، وحتى التواصل؛ ليصبح الذكاء الاصطناعي "عقله الخارجي"، بينما يبدو أن "عقله الداخلي" بدأ يفقد لياقته. وهذه الحالة بالضبط تفسرها دراسة علمية حديثة سنستعرضها لاحقاً في هذا المقال.

هل تهديد الذكاء الاصطناعي مشابه لتهديد الآلة الحاسبة؟

هذا المشهد يُعيد إلى أذهاننا سؤالاً قديماً كنا نطرحه على معلمي الرياضيات: "لماذا نتعلم الحساب إذا كانت لدينا آلة حاسبة؟" الإجابة كانت واضحة: لأن الاعتماد الكامل على الأداة قد يُضعف قدرتنا الأساسية على التفكير والتحليل.

قبل 50 عاماً، نشرت مجلة ساينس نيوز استطلاعاً لرأي، عارض فيه 72% من المعلمين في الولايات المتحدة منح كل طالب آلة حاسبة! كانت مخاوف المعلمين مشروعة في حينها؛ فقد رأوا أن الطلاب سيعتمدون على نحو متزايد على الآلة الحاسبة وسيفقدون مهارات الرياضيات الأساسية وستتأثر قدراتهم الذهنية. بل إن أحد المعلمين قال: "ماذا سيفعل الطالب لو نفدت بطارية الآلة الحاسبة؟"

مع ذلك، وعلى الرغم من انتشار الآلات الحاسبة، لم يفقد البشر قدرتهم على التفكير الرياضي. بل تطور التفكير الحسابي، وظهرت طرق جديدة لحل المشكلات المعقدة. وكانت الآلة الحاسبة مجرد أداة لتسريع العمليات الحسابية، ومُنح الطلاب وقتاً أطول للتركيز على التحليل الرياضي والتفكير بحل المشكلات.

لكن ماذا عن الذكاء الاصطناعي؟ هل المقاربة مختلفة هذه المرة؟

للوهلة الأولى، قد يبدو التشابه واضحاً اليوم مع قدوم الذكاء الاصطناعي، لكن وراء الأكمة ما وراءها. فالذكاء الاصطناعي ليس جهازاً واضح التصميم والاستخدام، وليس أداة محدودة، كالآلة الحاسبة، بإجراء عمليات رياضية تخضع لقوانين لا يختلف عليها اثنان. فالذكاء الاصطناعي لا يُستخدم فقط لحل المسائل الرياضية، بل أصبح يشارك في مجالات التفكير، والكتابة، والإبداع، واتخاذ القرار. هو ثورة لا تقف عند حدود تسريع الحسابات الرياضية أو المالية، بل تطال طيفاً واسعاً من المهن والوظائف والمهام كان حتى فترة قريبة بعيداً عن أي تصور يمكن إنجازه فيه دون إنسان.

من ناحية أخرى، الثقة بالآلة الحاسبة كانت مطلقة؛ لو أجريت عملية حسابية 1+1، الجواب على أي آلة سيكون صحيحاً. بينما ما زال الذكاء الاصطناعي يعاني الهلوسة، وقد تختلف إجابته عن سؤال سياسي أو حتى تاريخي باختلاف من يسأله.

والأهم من ذلك، أنك يجب أن تفهم العملية الرياضية قبل أن تطلب إنجازها من الآلة الحاسبة. عليك أن تفهم المشكلة بين يديك وتبني النموذج الرياضي المناسب لها قبل أن تتمكن من الاعتماد على الآلة الحاسبة. بينما مع تشات جي بي تي، أو أي نموذج لغوي آخر، يمكنك أن تنسخ له نص المسألة ليقوم هو بتفكيكها وفهمها واقتراح حلول لها. ما يحدث هنا هو أنك، عندما تعتمد على الذكاء الاصطناعي بصورة كاملة، لن تحتاج إلى تشغيل عقلك! هذا المثال ليس مقتصراً على مسألة رياضية، بل يشمل مهامَّ كثيرة مثل تحليل بيانات المبيعات أو صياغة بريد إلكتروني أو كتابة مقالة أو إعداد دراسة مرجعية لبحث علمي أو تلخيص محتوى صفحة ويب أو غير ذلك.

اقرأ أيضاً: هل الذكاء الاصطناعي سيجعل تعلُّم اللغات عديم الفائدة؟

كيف يفسّر العلم الحالة الغريبة للشاب الذي ضاعت منه الكلمات؟

يبدأ التفسير من كتاب "التفكير السريع والبطيء" لمؤلفه عالم النفس البارز دانيال كانيمان، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2002. قسّم كانيمان التفكير البشري إلى نظامين: النظام 1، وهو سريع وتلقائي وحدسي يعمل بأقل جهد، ويتيح لنا اتخاذ قرارات سريعة. والنظام 2، وهو بطيء ومتعمد وتحليلي يساعدنا على التعامل مع المشكلات المعقدة ومهام التفكير التحليلي. ويقول كانيمان إن النظامين يعملان معاً، فالنظام 1 يتولى دفة القيادة في المهام التي اعتاد دماغك عليها مثل تشغيل السيارة، لكنه عندما يواجه حدثاً مفاجئاً أو غير اعتيادي أو ليس بديهياً، عندما لا تعمل السيارة مثلاً، يستدعي النظام 2 للتعامل مع المشكلة.

مثال آخر، عندما تواجه سؤالاً بديهياً وبسيطاً مثل "ما عاصمة السعودية؟" سيتولى النظام 1 الإجابة، لكن لو سُئلت ما هو ناتج ضرب 13 57، سيهرع النظام 1 طالباً النجدة من النظام 2.

أدى التفاعل بين الإنسان والذكاء الاصطناعي إلى ظهور نظام تفكير جديد أشبه بعقل خارجي أو نظام معرفي مستقل. وقد يؤدي الاعتماد المفرط على هذا النظام إلى تقويض قدرة العقل البشري على التفكير النقدي، هذا النظام اسمه النظام 0 وفق ما أطلقه عليه باحثون من الجامعة الكاثوليكية بميلان في دراسة حديثة نشرت في مجلة السلوك البشري في أكتوبر/تشرين الأول عام 2024.

يشير النظام 0 إلى استخدام الذكاء الاصطناعي باعتباره شكلاً من أشكال التفكير الخارجي الذي يستطيع تعزيز القدرات الإدراكية من خلال معالجة كميات هائلة من البيانات وتقديم اقتراحات أو قرارات بناءً على خوارزميات معقدة. ومع ذلك، يفتقر هذا النظام إلى الفهم الحقيقي أو المعنى الداخلي للمعلومات التي يعالجها، ما يتطلب من البشر تفسير النتائج وإعطاءها معنى.

يحذّر الباحثون من أن الخطورة تكمن في الاعتماد المفرط على النظام 0 دون ممارسة التفكير النقدي. فإذا استسهلنا دوماً تبني الحلول التي يقدمها الذكاء الاصطناعي وقبولها، قد "نفقد قدرتنا على التفكير المستقل وتطوير أفكار مبتكرة". كما يشير الباحثون إلى أن الذكاء الاصطناعي قد "يختطف" قدراتنا على التأمل الذاتي، أي عملية التفكير في أفكارنا ومشاعرنا، وهي عملية إنسانية فريدة ومرتبطة بالطبيعة البشرية.

يبدو أن ما حصل مع الشاب الذكي هو أن دماغه أصبح يستدعي النظام 0 قبل استدعاء النظام 2، وربما حتى قبل رد فعل النظام 1.

وهذا ما تؤيده دراسة أخرى نشرت في مجلة سمارت ليرن عام 2024، وأجراها باحثون من جامعة سي كيو بأستراليا، وتوصلوا إلى أن الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي يؤثّر سلباً في القدرات الإدراكية للطلاب بما فيها التفكير النقدي والتحليلي والإبداعي وعملية اتخاذ القرار، إذ يميلُ الأشخاص إلى تفضيل الحلول السريعة والمُثلى التي يقدّمها الذكاء الاصطناعي على حساب التفكير البطيء المقيد بالاعتبارات العملية.

اقرأ أيضاً: كيف يُغيّر الذكاء الاصطناعي مستقبل ألعاب الفيديو؟ لعبة ماينكرافت مثالاً

هل يفقدنا الاعتماد على الذكاء الاصطناعي مهارة التفكير؟

على الرغم من أنه ما زال من المبكر تقييم تأثير الاعتماد الكامل على الذكاء الاصطناعي في مهاراتنا وقدراتنا، فإن قصة الشاب أعلاه تستحق الوقوف عندها.

فاليوم، نحن أمام تجربة جديدة، أكبر وأكثر تعقيداً من الآلة الحاسبة: ماذا يحدث لعقولنا عندما نعتمد على نحو شبه كلي على الذكاء الاصطناعي للتفكير واتخاذ القرار؟ لقد أصبح الذكاء الاصطناعي "عقلاً" خارجياً حاضراً دائماً نلجأ إليه في أبسط عمليات التفكير بدءاً من صياغة رسالة إلكترونية وحتى اتخاذ قراراتنا اليومية.

هذا لا يعني أننا يجب أن نخشى الذكاء الاصطناعي أو نتجنبه. على العكس، إنه أداة مذهلة يمكنها أن ترتقي بإمكاناتنا إلى مستويات غير مسبوقة. لكن ربما حان الوقت لنفكر بجدية: هل هناك حقاً ثمن خفي ندفعه لقاء الاعتماد عليها؟ وكيف يمكننا أن نحقق التوازن بين الاستفادة من إمكانات الذكاء الاصطناعي دون أن نسمح له بتعطيل قدراتنا الطبيعية على التفكير النقدي والإبداع؟

يوصي الباحثون من الدراسة الأولى بأهمية استخدام النظام 0 باعتباره أداة لتعزيز القدرات الإدراكية البشرية دون المساس بالاستقلالية الفكرية، مع التشديد على ضرورة استمرار البشر في ممارسة التفكير النقدي والتشكيك في النتائج التي يولّدها الذكاء الاصطناعي، كما يؤكدون أهمية تطوير قواعد الشفافية والمساءلة المتعلقة باستخدامه، وتثقيف المستخدمين حول حدود إمكاناته.

حتى لا يعتاد دماغك النظام 0 على نحو مفرط، إليك بعض النصائح البسيطة:

  • التفكير أولاً، الذكاء الاصطناعي ثانياً: حاول أن تفكّر بعقلك قبل اللجوء إلى أداة الذكاء الاصطناعي.
  • استخدمه داعماً وليس بديلاً: دع الذكاء الاصطناعي يحسّن أفكارك، لا أن "يفكّر" بدلاً منك.
  • حافظ على لياقتك العقلية: اقرأ، حل الألغاز، شارك في نقاشات فكرية، درّب عقلك باستمرار.
  • اعرف حدود الأداة: الذكاء الاصطناعي ليس معصوماً من الخطأ، وقد يقدّم أفكاراً أو نصوصاً غير دقيقة أو غير أخلاقية.

المحتوى محمي