ما شكل حياة العمال خارج كوكب الأرض؟

7 دقائق

لم تصور أي من أوجه الثقافة الشعبية ​​الأميركية معاناة الرجل العامل في مدن الشركات (وهي مدن تكون فيها جميع المساكن والمتاجر وغيرها مملوكة لشركة معينة) بالطريقة التي صورتها فيها الأغنية الكلاسيكية "ستة عشر طناً" (Sixteen Tons) لميرلي ترافيس التي صدرت عام 1947. استوحى ترافيس كتابة كلمات الأغنية المذكورة من والده، الذي كان أحد عمال المناجم والذي قال يوماً: "لا يمكنني تحمل فكرة الموت، فروحي ملك لمتجر الشركة".

مجدداً، مدن الشركات هي عبارة عن تجمعات من الأبنية خاصة بالشركات، حيث تخططها الشركات وتبنيها وتخضع لسيطرتها. لقد بُنيت تلك المدن على مر التاريخ لدعم قطاعات مثل التعدين والتصنيع، وغالباً ما كانت ضمن نطاق المناطق النائية، حيث لم يكن هناك منافسة بين الشركات. وكانت الشركة في تلك المدن تمتلك البنية التحتية بأكملها، بما في ذلك الإسكان والمدارس والمتاجر، ما يمنحها سيطرة على حياة العمال تكاد تماثل النظام الإقطاعي. في ظل تلك الظروف، كان للشركات السلطة على تعاملات العمالة لديها، وكانت تستغلها عادة لاسترداد الأجور في شكل إيجارات ورفع أسعار السلع بصورة مفتعلة. وكان يُدفع للعمال في بعض الأحيان بعملة الـ"سكربت"، وهي عملة بديلة تصدرها الشركة ولا يمكن إنفاقها إلا في متاجرها، وكان يتعين على العمال في كثير من الحالات استئجار المنازل من الشركة ذاتها التي يعملون فيها.

ازدهرت مدن الشركات في الولايات المتحدة خلال القرن التاسع عشر، ولكن في نهاية ذلك القرن، أدى تضافر العوامل الناتجة عن القرارات السيئة للشركات والإحباط المكبوت الذي يشعر به العمال جراء الحكم الأبوي للشركات إلى انكفاء ذلك النموذج. في عام 1898، أعلنت المحكمة العليا في ولاية إلينوي الأميركية أن مفهوم مدن الشركات برمته "غير أميركي"، وانتهى حكم مدن الشركات خلال القرن العشرين.

أعاد عمالقة التكنولوجيا مثل "فيسبوك" و"جوجل" و"أمازون" في الآونة الأخيرة إحياء الحديث حول مدن الشركات. إذ سوف يتمكن القاطنون في مدينة ويلو فيليدج "Willow Village" التي تخطط لها شركة "فيسبوك"، والتي تضم مساحات للعمل تبلغ 162 ألف متر مربع، و1,500 وحدة سكنية ومتجر بقالة ومتجراً للبيع بالتجزئة وحديقة عامة، من العيش والعمل والترفيه عن أنفسهم دون مغادرة حرم الشركة. ومع الإعلان عن العملة المشفرة "ليبرا" الخاصة بها، قد يكون لدى شركة "فيسبوك" قريباً ما يماثل عملة "سكربت" ولكن على المستوى العالمي.

لن تبدو مدينة "ويلو فيليدج" مثل مدينة "بولمان" القديمة بولاية إلينوي، إذ يتمتع العاملون في شركات التكنولوجيا مثل "فيسبوك" بتعليم على مستوى جيد، ويتقاضون أجوراً جيدة، بوسعهم الانتقال وشغل وظائف أخرى على الدوام. ويراد من عملتها الرقمية المشفرة "ليبرا" أن تكون مستخدمة على نطاق واسع، وليس لمجرد استردادها من العمال من خلال دفعها مقابل خدمات وبضائع تقدمها الشركة، إلا أن الكثيرين يجدون هذه المستجدات مثيرة للقلق. إذ تكافئ شركة "أمازون" بالفعل موظفي المخازن المنتجين لديها بعملة تسمى "سواغ باكس" (swag bucks) التي لا يمكن إنفاقها إلا على منتجات الشركة ذاتها. وقد تناول المسلسل الكرتوني التلفزيوني "ساوث بارك" (South Park) الموضوع، حيث أُعدت مشاهد تصور العمل داخل مركز الاستيفاء والتنفيذ التابع لأمازون (وهو مركز يحتوي على بضائع لشركات أخرى، وتتولى شركة أمازون شحنها إلى العميل) على أنغام أغنية "ستة عشر طناً" بعد 70 عاماً من إصدارها.

إذا كانت فكرة عيش العمال داخل حرم الشركة واستخدام العملة التابعة لها يجعل الأميركيين المعاصرين مرتابين، فقد يكون المستقبل مرعباً جداً. إذ تنفق الشخصيات البارزة في مجال التكنولوجيا، مثل جيف بيزوس وإيلون ماسك، ثروات ضخمة من مشاريعها القائمة على الأرض على شركاتها الخاصة باستكشاف الفضاء لاستيطان الكواكب ضمن النظام الشمسي، وبالنظر إلى بعد محيط الفضاء وقسوته، فسوف تكون الظروف مهيأة لهذه الشركات الجديدة لتطوير ما يشبه مدن الشركات مستقبلاً. في أثناء مهمة طويلة الأجل مثل رحلة إلى كوكب المريخ، سوف يكون طاقم السفينة الفضائية معزولاً وبحاجة إلى الدعم أكثر من أي عامل من عمال المناجم في القرن التاسع عشر. وسوف توفر الشركات كل ما يلزم للحفاظ على حياة الإنسان، بالتالي، لن تسيطر الشركات على أماكن إقامة العمال فحسب، إنما أيضاً على مصدر الأوكسجين.

تعمّق كل من دانييل أبراهام وتاي فرانك (اللذين استعارا اسم جيمس كوري لنشر مؤلفاتهما)، مؤلفا سلسلة كتب الخيال العلمي "الفضاء الواسع" (The Expanse) والحائزة على جائزة، في التفكير بهذا الموضوع أكثر من الآخرين. إذ تتميز كتبهما التي جرى تكييفها لتُعرض على "أمازون فيديو" (إحدى خدمات شركة أمازون)، عن العديد من الكتب الأخرى في هذا النوع من الإنتاج الأدبي لتركيزها على حياة "ذوي الياقات الزرقاء في الفضاء". ويعيدان إلى أذهاننا مدن الشركات العائدة إلى القرن التاسع عشر من خلال طائفة وفيرة من المشاهد، حيث يمثل الأشخاص الذين يعيشون ضمن نطاق الأحزمة النجمية - المعروفون باسم "سكان الحزام النجمي" - الطبقة الدنيا من العمال، وغالباً ما يعيشون في مدن التعدين التي تديرها شركات بعيدة قائمة على الأرض والمريخ، إنهم يعيشون تحت إمرة ضباط الأمن من القطاع الخاص، ويتقاضون أجورهم بعملة الـ"سكربت".

يصف فرانك الطريقة التي تمهد من خلالها ملكية الموارد غير المتكافئة الطريق أمام حصول مثل تلك الانتهاكات، ويخبرنا: "إذا كنت من سكان الحزام النجمي وتعمل في منجم على كويكب، فأنت لا تملك ذلك الكويكب ولا ذلك المنجم. ربما تعيش في نوع من المساكن التي أقيمت لإيواء عمال المناجم أو عمال المصانع الذين يعيشون هناك، لكنك لا تملك أياً من ذلك أيضاً، بل تعود ملكية تلك المساكن إلى بعض الشركات العائدة إلى المريخ أو الأرض".

يشير أيضاً إلى أن هذا النوع من الاستغلال، بعيداً عن اعتباره شيئاً خاصاً بالفضاء، "يعتمد فقط على الكيفية التي يسير بها عالمنا". ويقول: "كان يقصد دائماً من وجود ما يسمى بسكان الحزام النجمي هو أن يكونوا من الطبقة الدنيا المستضعفة والمستندين بصورة متعمدة إلى معطيات مثل تلك الموجودة في الدول الأفريقية المليئة بمعادن الأرض القيمة والنادرة للغاية، لكن الأشخاص الذين يعيشون هناك والذين ينقبون عنها، ليسوا أغنياء بسبب وجود جهة أخرى تمتلك حقوق التنقيب".

يصعب الطعن بتلك السوابق التاريخية، وعلى افتراض أن الطبيعة البشرية لا تتغير أبداً، فإن عدم توازن القوى القائمة بين سكان الحزام النجمي والشركات الكبرى على الكواكب سوف يؤدي إلى تكون أشكال الاستغلال ذاتها التي رأيناها عبر التاريخ، بما في ذلك مدن الشركات.

لكن هنالك جوانب أخرى للعمل في الفضاء والتي قلما وجد لها نظير في التاريخ، إذ يعد سكان الحزام النجمي ضعفاء للغاية، ليس بسبب سيطرة أصحاب العمل على إمدادات الغذاء والماء والأكسجين فحسب، ولكن لأن القيمة المنخفضة لعملهم يتيح للشركات استغلال تلك القوة التي تمتلكها.

حتى وقتنا الحاضر، كان الفضاء مكاناً للنخبة ولأولئك الذين يمتلكون حرية الاختيار، ورائد الفضاء على المستوى المتوسط ​​في محطة الفضاء الدولية هو ضابط عسكري يحمل درجة الدكتوراه. ومع ذلك، فقد تكوّن بالفعل شكل من أشكال العمالة في الفضاء، إذ أضرب رواد الفضاء الأميركيون من بعثة "سكاي لاب 4" لمدة يوم واحد في عام 1973 للاحتجاج على حجم العمل الضخم والإدارة التفصيلية التي يتبعونها معهم من مركز التحكم على الأرض. حصل رواد الفضاء على بعض التسهيلات بسرعة، مثل المزيد من الوقت لتناول الطعام والراحة والمزيد من الحرية لإدارة جداول العمل الخاصة بهم. وعلى الرغم من أن الثلاثة كانوا من رواد الفضاء الجدد، إلا أنه لم يتم اختيار أي من أفراد طاقم بعثة "سكاي لاب 4" للمهمة الثانية.

نظراً لأن سباق الفضاء القائم بين شركات القطاع الخاص يفتح تلك الحدود الجديدة أمام الأعمال التجارية، ينبغي علينا تخيل شكل الحياة في الفضاء بالنسبة إلى العمال من ذوي الياقات الزرقاء العاديين أثناء عملهم على المهمات الخاصة بالتعدين أو الاستيطان. فإذا كان من الممكن معاقبة ثلاثة من رواد فضاء ذوي المهارات العالية والمدربين تدريباً مكلفاً بعد إضرابهم ليوم واحد، فما الذي سيحدث للعمال غير المهرة نسبياً؟

يصعب الإجابة عن هذا السؤال، لأن قوانين العمل في الفضاء لم تحدد بوضوح بعد. ومثلما هو الحال في القارة القطبية الجنوبية، فإن المناطق الواقعة خارج الغلاف الجوي للأرض لا تخضع لسيادة أي دولة، وليس من الواضح ما إذا كانت قوانين العمل الوطنية ستطبق هناك. فقد قضت محاكم الولايات المتحدة على سبيل المثال بعدم تطبيق "قانون معايير العمل العادل" في القارة القطبية الجنوبية.

إذا فكرنا بمنطق سليم، سنجد أن الشركات المختصة باستكشاف الفضاء سوف تظهر أفضل صورة لديها في البداية على أقل تقدير. وعلى غرار طاقم بعثة "سكاي لاب"، فإن أفراد الطواقم الخاصة خلال سنواتهم الأولى من استكشاف الفضاء سوف يمكنهم اتخاذ موقف تفاوضي جماعي قوي إذا ما أسيئت معاملتهم، وخلال العمل على مهمة طويلة الأجل، قد يستحيل عملياً على الشركة استبدالهم. لذا فإن الاعتماد المتبادل بين الشركة والموظفين قد يضبط احتمال حدوث أسوأ الانتهاكات التي تنتج عن وجود مدن الشركات، ويمكن للدول المساعدة في ذلك من خلال تطبيق قوانين العمل الخاصة بها على عمليات شركاتها في الفضاء. ولكن في حال توسعت المستوطنات البشرية على كواكب النظام الشمسي إلى المستوى الذي شوهد في سلسلة "الفضاء الواسع"، ومع وجود سكان دائمين ضمن حزام الكويكبات، فربما لن يحدث ذلك.

يتباين سكان الأرض والمريخ والحزام النجمي في سلسلة "الفضاء الواسع" ليصبحوا مجتمعات مختلفة بثقافاتهم وحكوماتهم، والجاذبية المتباينة لأماكن السكن الخاصة بكل من تلك المجموعات أنتجت سكاناً متباينين من الناحية الجسدية. وبالنظر إلى تلك التغيرات على المدى الطويل، فإنه يصعب جداً التنبؤ بكيفية تصرف الناس في الفضاء. في المقابل، من السهل على سكان الأرض وسكان الحزام النجمي أن ينظروا إلى بعضهم الآخر بعين الريبة، ويؤكد دانيال أبراهام على أن أحد أكثر المواضيع اتساقاً في كتب السلسلة هو "الارتياب الحقيقي من النزعة القبلية والانتماء القبلي بصفتهما أساساً للثقافة الإنسانية، إنها نزعة طالما استسلمنا إليها والتي تُكبدنا ثمناً باهظاً على الدوام".

في الوقت نفسه، تقدم لنا سلسلة "الفضاء الواسع" أسباباً للتفاؤل حول كيفية تطور المجتمع البشري وسط ظروف مثل تلك الموجودة في معسكر التعدين الذي يسكنه سكان الحزام النجمي، إذ يشدد مجتمعهم، المتكيف مع الفقر والمعاناة، على قيم المجتمع والولاء والتعاون على الثروة. يقول فرانك: "الأشخاص الذين لا يعيشون بوفرة هم في الواقع أكثر سخاء من ناحية العطاء الخيري مقارنة بالأشخاص الأثرياء. إذ تتشكل عزلة تظهر عند مستوى معين من الثراء لأنك تصبح قادراً على الانفصال عن المجتمع، بينما الاعتماد على المجتمع من أجل ضمان سلامتك ووجودك، يوضح سبب استثمارك في ذلك المجتمع". ونتيجة لذلك، يوجد تكافل قوي بين سكان الحزام النجمي الذين ينظمون لمقاومة القوى الاستغلالية على الأرض والمريخ.

على غرار مدن الشركات في الولايات المتحدة، فقد لا تنجو تلك الموجودة في الفضاء من ردود أفعال العمال الذين تعرضوا لسوء المعاملة.

في جميع الأحوال، فإن الواقع يقع في مكان ما بين الرؤى الأكثر طوباوية للمستوطنات في الفضاء والاستغلال واسع النطاق الذي صورته سلسلة "الفضاء الواسع". سوف تحدد كيفية معاملة العمال في الفضاء من خلال قوانين العمل التي نختار تطبيقها هناك، ولكن أيضاً من خلال تكييف الثقافات الإنسانية مع الحياة في الفضاء. يخلص أبراهام قائلاً: "بالانتقال إلى الفضاء، سوف يكون لدينا فرصة لإعادة النظر فيما يعنيه الإنسان الحقيقي، وفيما يعنيه أن نكون جزءاً من مجموعة. وفي حال فوتنا تلك الفرصة، فإننا سوف نقع في أزمة مروعة".

المحتوى محمي