لم يكن التحول الرقمي مهماً كما هو اليوم مع ما يشهده العالم من تحولات متسارعة على الأصعدة كافة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية، أصبح فيها تبني التحول الرقمي ضرورة مُلحّة لتحقيق التنمية المستدامة، وتحسين الخدمات، وتعزيز كفاءة القطاعات الحكومية والخاصة.
تُعدُّ المملكة العربية السعودية إحدى الدول الرائدة عالمياً في هذا المجال بفضل الرؤية الثاقبة لقيادة المملكة العربية السعودية التي تمت بلورتها من خلال رؤية 2030 التي وضعت التحول الرقمي كأحد محاورها الأساسية. في المقابل، تواجه سوريا، بوصفها دولة وليدة تسعى لإعادة البناء، تحديات تتطلب حلولاً مبتكرة تستفيد من التجارب الناجحة. يمكن أن تمثّل التجربة السعودية نموذجاً يُحتذى في بناء البنية التحتية الرقمية، وتطوير الحكومة الإلكترونية، وتعزيز الاقتصاد الرقمي، إلى جانب محاربة الفساد وتقليل التكاليف الحكومية.
اقرأ أيضاً: كيف يعزّز البلوك تشين كفاءة التحول الرقمي في الصناعات الغذائية؟
ملامح التجربة السعودية في التحول الرقمي
1- الاستراتيجية الوطنية للتحول الرقمي
أطلقت المملكة العربية السعودية رؤية 2030، التي تتضمن برامج رقمية متقدمة، مثل برنامج "التحول الوطني" و"الحكومة الرقمية"، وُضعت سياسات وتشريعات لتنظيم الفضاء الرقمي، وتحفيز الابتكار، وتحقيق التكامل بين الجهات الحكومية من خلال منصات موحدة مثل "أبشر"، و"اعتماد"، و"نفيس".
2- البنية التحتية الرقمية المتقدمة
استثمرت السعودية بشكل ٍكبير في تطوير شبكات الاتصالات والإنترنت، حيث حصلت المملكة العربية السعودية على المركز الأول في معدل سرعة التحميل لخدمة 5G، كما تمت تغطية أكثر من 3.5 ملايين منزل بشبكة الألياف الضوئية بالتعاون مع القطاع الخاص، وبلغت نسبة تغطية مناطق المملكة لشبكة الجيل الرابع 99 %، وبلغ إجمالي حجم الاستثمارات في قطاع تقنية المعلومات في المملكة 13.7 مليار ريال، كما ارتفع مستوى التحول الرقمي الحكومي خلال عام 2023 إلى 89.24% بحسب التقرير السنوي وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات لعام 2023.
3- الحكومة الإلكترونية والخدمات الذكية
أسهمت المبادرات الرقمية مثل منصات "توكلنا" و"أبشر" و"اعتماد" في تسهيل المعاملات الحكومية، حيث تحتوي "توكلنا" على أكثر من 240 خدمة بإجمالي 17.6 مليون مستخدم، كما نُفِذ أكثر من 69 مليون عملية على المنصة بوفرٍ ماليٍّ يُقدّر بالمليارات سنوياً. وطُوِّرت أنظمة المدفوعات الرقمية، مثل "مدى" و"سداد"، التي عزّزت بيئة الأعمال الإلكترونية.
4- الابتكار والذكاء الاصطناعي
أُنشِئت المملكة الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (SDAIA) لدعم استخدام البيانات في اتخاذ القرارات الذكية وزيادة مساهمة البيانات والذكاء الاصطناعي في تحقيق أهداف رؤية 2030، كما تهدف الهيئة إلى إطلاق القيمة الكامنة للبيانات باعتبارها ثروة وطنية وتعزيز صورة المملكة العربية السعودية باعتبارها دولة رائدة عالمياً في مجال البيانات والذكاء الاصطناعي. كما أُطلِقت مدينة "نيوم" مختبراً مفتوحاً لتقنيات المستقبل، بما في ذلك المدن الذكية والروبوتات وإنترنت الأشياء.
5- الأمن السيبراني وحوكمة البيانات
أُنشِئت المملكة الهيئة الوطنية للأمن السيبراني لضمان حماية المعلومات ومواجهة التهديدات الإلكترونية، وأصدرت سياسات لتنظيم البيانات المفتوحة والخصوصية، ما عزّز الثقة في الاقتصاد الرقمي.
6- التحول الرقمي كأداة لمحاربة الفساد
أسهم التحول الرقمي في السعودية في تقليل الفساد بشكلٍ كبير من خلال:
- الشفافية في المعاملات: أصبح المواطنون والشركات قادرين على تتبع معاملاتهم عبر منصات إلكترونية مثل "اعتماد" و"أبشر"، ما قلّل فرص التلاعب والرشاوى.
- تقليل التدخل البشري: أتمتة العمليات قلّلت الحاجة إلى التعامل المباشر مع الموظفين، ما ساعد على الحد من الفساد الإداري.
- إمكانية تتبع الأموال والمعاملات: من خلال التحول إلى المدفوعات الرقمية والتكامل مع الأنظمة المالية، أصبح من السهل تتبع أي عمليات مشبوهة.
- تحليل البيانات لكشف التجاوزات: استخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات يمكن أن يساعد على اكتشاف أنماط الفساد واتخاذ الإجراءات اللازمة بسرعة.
7- تقليل التكاليف على الحكومة
ساعد التحول الرقمي في السعودية على خفض التكاليف التشغيلية للحكومة عبر:
- تعزيز دور الموظفين: التحول إلى الأنظمة الإلكترونية قلّل الحاجة إلى عدد كبير من الموظفين في الوظائف الإدارية الروتينية في مختلف القطاعات، كما عزّز الحاجة إلى الموظفين المؤهلين.
- تقليل استهلاك الورق والمعاملات التقليدية: استخدام المنصات الرقمية وفّر مبالغ كبيرة كانت تُنفق على الطباعة والبريد والأرشفة اليدوية.
- تحسين كفاءة الإنفاق الحكومي: من خلال استخدام أنظمة تحليل البيانات، أصبحت الحكومة قادرة على توجيه الإنفاق إلى المجالات الأكثر احتياجاً، وتقليل الهدر المالي.
- تقليل التكاليف اللوجستية: أتمتة العمليات الحكومية وتقليل الحاجة إلى مكاتب الخدمة التقليدية خفّضت التكاليف المرتبطة بالصيانة، الإيجارات، والطاقة.
اقرأ أيضاً: لماذا نجحت دول الخليج في التحول الرقمي في حين فشلت أخرى؟
إمكانية الاستفادة من التجربة السعودية في سوريا
وضع استراتيجية رقمية وطنية
يمكن لسوريا تبني رؤية رقمية على غرار رؤية 2030 السعودية، تركّز على التحول الرقمي كأداة لإعادة الإعمار، وتحسين الخدمات الحكومية، وتحفيز الاقتصاد الرقمي، ومكافحة الفساد الإداري. يمكن أن تشمل هذه الاستراتيجية سياسات واضحة لحوكمة البيانات، وتمكين القطاع الخاص، وتوفير بيئة تشريعية مرنة تدعم التحول الرقمي الشامل.
إنشاء هيئة حكومية مختصة بالتحول الرقمي
وذلك لتنفيذ استراتيجية رقمية فعّالة، حيث يمكن للحكومة السورية إنشاء هيئة مستقلة للحكومة الرقمية تكون مسؤولة عن:
- الإشراف على مشاريع التحول الرقمي الحكومية، وضمان تنفيذها بكفاءة وشفافية.
- وضع سياسات الحوكمة الرقمية والأمن السيبراني لحماية البيانات الحكومية والشخصية.
- وضع سياسات تشريعية لتطوير الاستثمار الرقمي.
- إدارة استراتيجيات الذكاء الاصطناعي وتطويرها لضمان الاستفادة من تقنيات المستقبل في تحسين الخدمات الحكومية.
- تعزيز التعاون بين الجهات الحكومية والخاصة لتسريع عملية التحول الرقمي وفقاً لأفضل الممارسات العالمية.
تطوير البنية التحتية الرقمية
على الرغم من التحديات، يمكن لسوريا التعاون مع الشركات العالمية والإقليمية لإنشاء شبكات اتصال حديثة تدعم تقنيات الجيل الخامس (5G) والإنترنت فائق السرعة. يمكن الاستفادة من نماذج التمويل المشترك بين القطاعين العام والخاص (PPP)(Public-Private Partnership) لتسريع عملية بناء البنية التحتية الرقمية، ما يسهم في تعزيز الاتصال وتوفير الخدمات الرقمية في مختلف المناطق.
إنشاء شركة قابضة تقنية بالشراكة بين القطاعين العام والخاص
على غرار بعض النماذج العالمية، يمكن لسوريا إنشاء شركة قابضة تقنية بالشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص، تكون مسؤولة عن تطوير المنصات الرقمية الحكومية وإدارتها. هذه الشركة يمكنها العمل وفق نموذج التمويل الذاتي من خلال فرض رسوم وأجور رمزية على الخدمات الرقمية المقدمة.
ملامح الشركة القابضة التقنية:
- تطوير المنصات الحكومية الرقمية وإدارتها مثل خدمات التجارة والقضاء والصحة والتعليم والخدمات البلدية.
- تأسيس شركات تابعة متخصصة حسب كل قطاع (مثل شركة للخدمات القضائية، شركة للخدمات الصحية، شركة للخدمات التجارية، شركة للخدمات المالية، إلخ).
- توفير حلول رقمية متكاملة تسهّل الإجراءات الحكومية، وتحسّن تجربة المواطنين والشركات.
- ضمان الاستدامة المالية من خلال الاعتماد على نموذج التمويل الذاتي، وتقليل العبء على ميزانية الدولة.
- تحفيز القطاع الخاص للاستثمار في التكنولوجيا عبر الشراكات مع الشركات الناشئة والمتخصصة.
التحول إلى الحكومة الإلكترونية
يمكن لسوريا الاستفادة من تجربة "أبشر" السعودية لتطوير منصة حكومية موحدة توفّر الخدمات الأساسية رقمياً، مثل تصاريح العمل، والخدمات الصحية، والتعليمية، والمالية. سيؤدي ذلك إلى تقليل البيروقراطية، وتحسين كفاءة المؤسسات الحكومية، وزيادة الشفافية، ما يسهم في الحد من الفساد الإداري وتعزيز ثقة المواطنين في المؤسسات العامة.
تعزيز الابتكار والتكنولوجيا
يمكن لسوريا إنشاء مراكز ابتكار وحاضنات أعمال لدعم المشاريع الناشئة في مجالات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، مع التركيز على تطوير حلول رقمية محلية تُلبي احتياجات المجتمع السوري. يمكن أيضاً تحفيز الاستثمار في التقنيات الناشئة مثل المدن الذكية، وإنترنت الأشياء (IoT)، والذكاء الاصطناعي لدعم إعادة الإعمار والتنمية المستدامة.
تعزيز التقنيات المالية والدفع الإلكتروني
تؤدي التقنيات المالية (FinTech) دوراً محورياً في دعم التحول الرقمي وتعزيز الاقتصاد غير النقدي. يمكن لسوريا الاستفادة من تجربة السعودية في تطوير أنظمة دفع إلكترونية موثوقة وآمنة مثل "مدى" و"سداد"، وتوسيع نطاق الاعتماد على أنظمة الدفع العالمية مثل آبل باي Apple Pay وجوجل باي Google Pay، من خلال:
- إنشاء بنية تحتية مالية رقمية تُتيح للمواطنين والتجار إجراء المدفوعات الإلكترونية بسهولة وسرعة.
- دعم المحافظ الرقمية وتطبيقات الدفع عبر الهواتف الذكية مثل آبل باي Apple Pay وجوجل باي Google Pay، لتسهيل التعاملات اليومية بشكلٍ آمن وفعّال.
- تمكين الشمول المالي من خلال توفير حلول مالية للفئات غير المخدومة مصرفياً، خاصة في المناطق النائية.
- الحد من الاقتصاد غير الرسمي من خلال تتبع المعاملات المالية، وتعزيز الشفافية، والحد من التهرب الضريبي.
التحول نحو الدفع الإلكتروني لا يقتصر فقط على تسهيل المعاملات، بل يعزّز كفاءة الاقتصاد الوطني، ويخلق بيئة أكثر أماناً وشفافية في التعاملات المالية، ويشجّع على الاستثمار والابتكار في القطاع المالي.
تعزيز الأمن السيبراني وحماية البيانات
نظراً لأهمية الأمن السيبراني، يمكن لسوريا الاستفادة من تجربة السعودية في إنشاء هيئة وطنية للأمن السيبراني، ووضع تشريعات لحماية البيانات، وتعزيز الوعي الرقمي لدى الأفراد والشركات. سيضمن ذلك بيئة رقمية آمنة وموثوقة، ما يقلّل التهديدات السيبرانية ويحمي البيانات الحساسة للمؤسسات والمواطنين.
التحول الرقمي كأداة لمحاربة الفساد
يُعدّ التحول الرقمي من أقوى الأدوات في مكافحة الفساد، حيث يقلّل التعاملات الورقية والتدخل البشري، ما يقلّل فرص الرشوة والمحسوبية. من خلال تطبيق أنظمة الدفع الإلكتروني، ومنصات المعاملات الحكومية الشفافة، وإتاحة البيانات المفتوحة، يمكن لسوريا الحد من الفساد الإداري وتحقيق حوكمة أكثر كفاءة وعدالة.
تحقيق وفورات مالية للحكومة السورية
يمكن للتحول الرقمي أن يساعد الحكومة السورية على تقليل التكاليف التشغيلية بشكلٍ كبير، وذلك من خلال:
- تقليل الحاجة إلى عدد كبير من الموظفين الإداريين للأعمال الروتينية عبر أتمتة العمليات الحكومية.
- خفض تكاليف المعاملات الورقية والبريدية عبر التحول إلى الخدمات الإلكترونية بالكامل.
- تحسين كفاءة إدارة الموارد العامة باستخدام تحليلات البيانات لتوجيه الإنفاق الحكومي نحو الأولويات الحقيقية.
- تقليل التكاليف اللوجستية والبنية التحتية التقليدية من خلال تقليل الحاجة إلى مكاتب حكومية تقليدية واستبدالها بمنصات إلكترونية للخدمات.
استضافة المعارض التقنية الدولية
يمكن لسوريا، في إطار سعيها للتحول الرقمي، أن تعمل على استضافة معارض ومؤتمرات تقنية دولية بالشراكة مع منظمات عالمية وشركات تكنولوجيا رائدة. هذه الفعاليات تسهم في:
- نقل المعرفة والخبرة من الدول المتقدمة إلى السوق السورية الناشئة.
- جذب الاستثمارات التقنية وتحفيز الشركات العالمية على دخول السوق السورية.
- تعزيز صورة سوريا وجهةً واعدةً في المجال الرقمي.
- بناء شبكة علاقات دولية تدعم خطط التحول الرقمي والاستفادة من التجارب الإقليمية والعالمية.
التجربة السعودية في التحول الرقمي تُعدُّ نموذجاً ناجحاً يمكن أن تستفيد منه الدول الناشئة مثل سوريا.
من خلال تبني استراتيجية رقمية واضحة، والاستثمار في البنية التحتية، وتطوير الحكومة الإلكترونية، وتعزيز الابتكار، يمكن لسوريا تحقيق قفزات نوعية في التنمية الرقمية. هذه الخطوات لن تسهم فقط في إعادة بناء الدولة وتحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، بل ستساعد أيضاً في القضاء على الفساد، وتقليل التكاليف التشغيلية للحكومة، وتعزيز الكفاءة الإدارية.
ويُعدّ إنشاء هيئة متخصصة بالتحول الرقمي وإنشاء شركة قابضة تقنية بالشراكة مع القطاع الخاص من المفاتيح الرئيسية لتسريع رقمنة سوريا وتحقيق الاستدامة المالية والتنموية.
إن التحول الرقمي ليس ترفاً، بل ضرورة وجودية لسوريا الجديدة، ومسارها نحو الاستقرار يبدأ من بوابة التكنولوجيا.