أحدثت الهواتف الخليوية ثورة في طريقة دراسة العلماء للسلوك البشري، وأتاحت لهم مراقبة الناس على مستوى لم يكن من الممكن تخيله من قبل. وقد كشف هذا العمل عن أنماط سلوكية في النوم وأساليب التعارف العاطفي والتنقل على مستوى كبير، بل سمح حتى للديموغرافيين بتقدير ثروات بلدان كاملة.
من الأشياء التي كشف عنها هذا العمل أن اتخاذ القرار الجمعي قد يكون مختلفاً للغاية عن القرارات التي يتخذها البشر بشكل فردي. وعلى وجه الخصوص، فإن البشر يميلون إلى أمثالهم في المجموعات، أي أن الأقليات تميل للتعاضد والتضامن سوياً. تم رصد هذا السلوك على مستويات صغيرة نسبياً، ولكن وجود هذه الظاهرة في المستويات الأكبر كان من الأسئلة المثيرة للاهتمام. وقد تمت الإجابة عن هذا السؤال بفضل عمل إيان بارنيت في جامعة هارفارد وبعض من زملائه، والذين استخدموا سجلات الهواتف الخليوية لدراسة السلوك الجماعي في احتفال ديني هندوسي يسمى "كومب ميلا". وقد أقيم في الهند في 2013، وهو مشهور بكونه حدثاً ضخماً.
ولكن ليس من السهل تحديد مدى ضخامته، غير أن بحث بارنيت وزملائه قدم إجابة عن هذا السؤال. فقد بينوا أن الاحتفال حضره ما يقارب 61 مليون شخص، ما قد يجعله أضخم تجمع في تاريخ البشرية.
يقام كومب ميلا كل 12 سنة على ضفاف نهر الغانج في ألاهاباد، حيث يجتمع الهندوس للاغتسال في مياه النهر المقدس، ويدوم لفترة شهرين، ويصل الحضور إلى ذروته في بعض الأيام الخاصة. وقد حضر حدث العام 2013 الملايين من الأشخاص، ويُعتبر الأكبر على الإطلاق، ولكن ليس من السهل تقدير حجمه الفعلي.
بدأ بارنيت وزملاؤه عملهم بجمع سجلات الهواتف الخليوية من إحدى الشركات المشغلة خلال فترة الحدث ما بين 1 يناير و31 مارس في 2013، وتتألف مجموعة البيانات هذه مما يقارب 400 مليون حدث اتصال، بما في ذلك 146 مليون رسالة نصية و245 مليون اتصال.
بالنسبة لكل حدث، تعطي مجموعة البيانات عدد الهواتف المرسلة والمستقبلة، إضافة إلى موقع الأبراج الخليوية ذات الصلة (تمت تغطية الحدث بحوالي 270 برجاً خليوياً).
افترض الفريق أن رمز المنطقة لكل رقم هاتفي يحدد مكان منزل صاحب الرقم. وقاموا بعد ذلك بدراسة مجموعة البيانات للبحث عن الاتصالات بين الهواتف التي تحمل نفس رمز المنطقة، كما حددوا مكان تواجد هذه الهواتف ضمن مساحة الاحتفال لتحديد مقدار ميل الناس من نفس المنطقة إلى التجمع في نفس المكان.
توصل الفريق إلى نتائج مثيرة للاهتمام. فقد وجد الباحثون أن الناس الذين ينتمون إلى نفس المنطقة يميلون بشكل واضح إلى الاتصال ببعضهم البعض والتواجد في نفس القسم من مساحة الاحتفال. كما أن هذا الأثر كان أكثر قوة بين المجموعات الأصغر، كما يقول بارنيت وزملاؤه: "أظهر المشاركون من الولايات التي كان تمثيلها ضعيفاً في الاحتفال ميلاً أشد وضوحاً إلى حب المماثل الاجتماعي والمكاني بالمقارنة مع نظرائهم من الولايات التي كان تمثيلها بارزاً".
إضافة إلى هذا، فقد أصبح الميل إلى التكتل –المصطلح العلمي هو حب المماثل- أكثر حدة مع ازدياد اكتظاظ الاحتفال، كما يقول الباحثون: "لقد تضخمت آثار حب المماثل في الأيام المزدحمة، مثل يوم ذروة الاحتفال، حيث قدرنا الحضور بخمسة وعشرين مليون شخص".
بين هذا العمل المثير للاهتمام، وللمرة الأولى، أن الميل الطبيعي للأفراد للبحث عن أمثالهم لا يظهر فقط على مستوى المئات أو الآلاف من الأشخاص، بل يصل إلى مستوى عشرات الملايين، كما قال بارنيت وزملاؤه: "تؤكد نتائجنا أن حب المماثل ينتشر على جميع مستويات السلوك البشري".
للمقارنة، نذكر أن أكبر احتفال موسيقي يقام في جلاستونبيري في المملكة المتحدة، ويحضره حوالي 175,000 شخص. وفي 2015، حضر أكثر من 50,000 شخص احتفال بيرنينج مان في نيفادا. غير هذين الحدثين هزيلان مقارنة بأحداث مثل الألعاب الأولمبية، فقد بيعت أكثر من 11 مليون تذكرة في الألعاب الأولمبية والألعاب الأولمبية الخاصة التي أقيمت في لندن في 2012، والتي امتدت لحوالي الشهر.
أكبر مدينة في العالم هي طوكيو، وتحوي 32 مليون نسمة، وثاني أكبر مدينة هي نيويورك، وتحوي 18 مليون نسمة. وإذا حمل سكان كلتا المدينتين عصيهم واتجهوا إلى احتفال ما، فسوف يكون أصغر من كومب ميلا.
الاحتفال المقبل في 2025. لنأمل أن التخطيط جارٍ على قدم وساق.
مرجع: arxiv.org/abs/1605.06898: التكتل الاجتماعي والمكاني للناس في أكبر تجمع بشري.