احتفل عشاق العملات المشفرة في شهر مارس/آذار من العام الحالي بوصول سعر عملة البيتكوين إلى مستوى قياسي بعد تخطيه حاجز 69 ألف دولار، حيث اعتبره الكثير من المتداولين والمتحمسين بأنه لحظة فارقة وتجسيد لمدى قوة صناعة العملات الرقمية المشفرة، بعد سلسلة من التراجعات والفضائح التي ضربته منذ عام 2022، والتي أدّت لإفلاس العديد من الشركات الكبرى وتشويه سمعة السوق.
ولكن في حين أن الأرقام تشير إلى أن الصناعة بدأت بالازدهار مرة أخرى، إلّا أن هناك اختلافات كبيرة بين هذا الاتجاه الصعودي وذلك الذي دفع أسعار العملات المشفرة إلى أعلى مستوياتها في العامين السابقين. فما أسباب هذا الارتفاع المفاجئ؟ هل هو مستدام أمْ مجرد مقدمة لانهيار كبير قادم مثلما حدث سابقاً؟
اقرأ أيضاً: ما إيجابيات وسلبيات الدفع بالعملات المشفرة بدلاً من العملات التقليدية؟
لماذا انهارت أسعار العملات الرقمية المشفرة عام 2022؟
آخر مرة سجلت فيها عملة البيتكوين مستوى قياسياً كانت في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2021، بعدما أصبحت العملات المشفرة ظاهرة ثقافية، حيث أجرت شركات العملات المشفرة حملات تسويقية ضخمة ضمت إعلانات تجارية في حدث السوبر بول (Super Bowl) الذي يُعدّ من أضخم الأحداث مشاهدة في أميركا، وقد وصل سعر الإعلان فيه عام 2022 إلى أكثر من 6 ملايين دولار مدة 30 ثانية فقط.
ولكن في شهر مايو/أيار من عام 2022، انخفضت أسعار العملات المشفرة بسبب التقلبات الشديدة في السوق، حيث تسبب به التضخم المرتفع والنمو في عمليات الاحتيال، بالإضافة إلى الكشف عن احتيال بعض أبرز شركات العملات المشفرة على مستثمريها. وبلغ الانخفاض ذروته في شهر نوفمبر من العام نفسه عندما انهارت بورصة العملات المشفرة إف تي إكس (FTX)، ما كلف العملاء 8 مليارات دولار في ظاهرة أُطلق عليها شتاء العملات المشفرة (Crypto Winter).
منذ ذلك الحين كانت العملات الرقمية المشفرة، وعلى رأسها عملة البيتكوين، في حالة انخفاض سريع، حيث وصل سعرها إلى أقل من 16 ألف دولار في منتصف عام 2022 قبل أن يرتفع مجدداً عام 2023 وبداية العام الحالي، وواصل الصعود منذ ذلك الحين على الرغم من الحملة التي قامت بها هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية (U.S. SEC) على صناعة العملات الرقمية المشفرة، بدعوى انتهاك شركات العملات المشفرة القوانين المصممة لحماية المستثمرين.
ما العوامل التي أدّت إلى ارتفاع أسعار العملات الرقمية المشفرة مؤخراً؟
يعود السبب الأساسي في ارتفاع أسعار العملات الرقمية المشفرة منذ منتصف شهر أغسطس/آب من العام الماضي إلى قرار هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية، التي مهّدت الطريق أمام الشركات المالية لتقديم منتجات استثمارية جديدة مرتبطة بسعر عملة البيتكوين.
حيث أقر قانون التنظيم الذي يُسمَّى صندوق تداول عقود بيتكوين الآجلة (A Bitcoin Futures Exchange-Traded Fund، اختصاراً إي تي إف ETF) للمستثمرين طريقة للانخراط في العملات المشفرة دون امتلاكها بشكلٍ مباشر، من خلال إمكانية شراء المستثمرين للأسهم بدلاً من الأصول الرقمية نفسها.
وهذا يعني أنه يمكن للمستثمرين الحذرين الدخول إلى أسواق العملات المشفرة دون الحاجة إلى القلق بشأن التعقيدات الفنية المصاحبة لها، مثل إنشاء محفظة رقمية أو الاستثمار في شركة ناشئة مشكوك فيها، وقد كان لهذا التنظيم تأثير فوري حيث شهدت هذه الصناديق الفورية في الولايات المتحدة استثمارات قياسية منذ إطلاقها في شهر يناير/كانون الثاني من العام الحالي، وقد بلغت قيمة الاستثمارات بشكلٍ جماعي نحو 52 مليار دولار، ما دفع سعر البيتكوين إلى الارتفاع بسرعة، بالإضافة إلى العوامل التالية:
- حدث التنصيف المرتقب لعملة البيتكوين المتوقع أن يحدث في منتصف شهر أبريل/نيسان القادم، والذي قد يؤدي إلى زيادة الطلب على عملة البيتكوين خصوصاً والعملات الرقمية المشفرة الأخرى عموماً.
- تخفيف الهيئة التنظيمية المالية في المملكة المتحدة موقفها من الأصول الرقمية، وسماحها بإدراج بعض الأوراق المالية المرتبطة بعملة البيتكوين في سوق الأسهم.
- الحديث الإيجابي الذي أدلى به الرئيس السابق للولايات المتحدة دونالد ترامب والمرشح عن الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية لعام 2024 عن العملات الرقمية المشفرة، ووعده باتخاذ إدارته نهجاً متساهلاً تجاه العملات الرقمية المشفرة إذا انتُخِب رئيساً للولايات المتحدة، بعد أن كان من أشد المنتقدين للعملات الرقمية المشفرة ووصفه لها بأنها عمليات احتيال.
اقرأ أيضاً: بعيداً عن البيتكوين: ما يجب معرفته قبل الاستثمار في العملات المشفرة المغمورة
هل سيساعد المزيد من اللوائح التنظيمية على استقرار أسعار العملات المشفرة؟
يرى مؤيدو العملات الرقمية المشفرة أن الارتفاع الكبير في أسعار العملات الرقمية المشفرة مؤخراً هو مجرد بداية ودليل قوي على تعافي الصناعة ونضجها، حيث يتوقعون أن تصل أسعار العملات المشفرة وعلى رأسها عملة البيتكوين إلى 100 ألف دولار بنهاية هذا العام 2024، مدفوعة باللوائح التنظيمية التي أُقرت في الاتحاد الأوروبي عام 2023 والتي ستدخل حيز التنفيذ في منتصف هذا العام.
بالإضافة إلى قرار هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية في بداية هذا العام، والذي يمكن أن يزيد من إمكانية الوصول إلى العملات المشفرة كاستثمار من خلال جذب المستثمرين الهواة الذين يواجهون تعقيدات شراء العملات المشفرة، علاوة على حدث التنصيف المرتقب الذي يمكن أن يجعل عمليات التعدين أكثر تكلفة، ما قد يُخرج العديد من شركات التعدين والمعدنين المستقلين من السوق.
ومع ذلك يرى الخبراء أن هذا لا يعني بالضرورة أن المخاطر موجودة وأن الصناعة بشكلها الأوسع سوف تزدهر، فعلى الرغم من تصالح بعض السلطات القانونية والهيئات المالية في الاتحاد الأوروبي وأميركا الجنوبية وأميركا الشمالية بشكل أو بآخر مع حقيقة أن الناس يستخدمون عملة البيتكوين في التجارة، فإنهم كانوا أكثر تشدداً مع العملات المشفرة الأخرى ومنصات التداول التي تعرضها.
وقد رفعت هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية دعاوى قضائية ضد الرئيس التنفيذي لشركة كوين بايس (Coinbase)، التي تُعدّ من أكبر بورصات العملات المشفرة في العالم والعديد من الشركات الكبرى الأخرى، ويمكن لنتائج هذه القضايا التي حُكم في بعضها بينما لا تزال أخرى معلقة في المحاكم، أن تحدد ما إذا كان يمكن للعملات المشفرة أن تستمر في النمو أم لا.
ومع ذلك يرى الخبراء أن مزيداً من التنظيم القانوني قد يسهم بشكل ٍكبير في استقرار أسعار العملات المشفرة، ما يجعلها خياراً جذاباً في الاستثمار فيها، حيث يقول الرئيس المشارك في شركة المحاماة لينك لاتيرس (Linklaters) هاري إديس (Harry Eddis): "المزيد من التنظيم مثل صناديق الاستثمار المتداولة يمكن أن يساعد الناس على الاستثمار في العملات المشفرة، لأنه يمنحهم آليات للاستثمار في هذه الأصول التي يمكنهم الوثوق بها، ما من شأنه أن يجلب المزيد من المستثمرين إلى السوق، وقد يدعم بدوره أسعار العملات المشفرة مثل البيتكوين".
اقرأ أيضاً: ما أسباب الانهيار غير المسبوق في أسعار العملات الرقمية المستقرة؟
هل الارتفاع الأخير في أسعار العملات المشفرة سيكون مستداماً أمْ مقدمة لانهيار جديد؟
عندما ارتفعت أسعار العملات الرقمية المشفرة عام 2021، كان ارتفاعها مدفوعاً بشكلٍ جزئي على الأقل بحالات الإغلاق التي رافقت انتشار جائحة كوفيد-19 مع تحول العديد من مستخدمي الإنترنت الذين حُبسوا في منازلهم إلى الاستثمار في العملات الرقمية المشفرة كهواية جديدة، حيث تحولوا إلى مستثمرين نشطين في سوق العملات الرقمية لمجابهة العوامل النفسية التي رافقت حالات الإغلاق.
على سبيل المثال استثمر العديد من مستخدمي الإنترنت فيما يُسمَّى عملات الميم كوينز (Meme Coins) التي اكتسبت شعبية هائلة بسبب طبيعتها الفريدة، بالإضافة إلى ذلك أسهم ظهور الرموز غير القابلة للاستبدال (NFT) والجنون الذي صاحبه في ارتفاع كبير في أسعار العملات الرقمية المشفرة بشكلٍ كبير.
هذه العوامل كلها زادت الثقة في العملات الرقمية المشفرة، وعلى رأسها العملات الأكثر شعبية مثل البيتكوين والإيثريوم وسولانا، وفي أن صناعة العملات الرقمية لديها مستقبل واعد من حيث المرونة وإمكانات النمو، حيث تجددت الثقة والاهتمام بسوق العملات المشفرة، ما جذب انتباه المستثمرين في أنحاء العالم كافة، بالإضافة إلى تسليط الضوء على إمكانية تحقيق مكاسب كبيرة والفرص التي تقدمها للمستثمرين.
ومع ذلك يرى العديد من الخبراء أنه من الضروري أن يتوخى المستثمرون الحذر والانتباه إلى التقلبات المتأصلة في سوق العملات الرقمية، حيث تُعدّ التجارب السابقة مثل التقلبات الكبيرة في الأسعار التي شهدتها السوق عام 2021، بمثابة تذكير بالمخاطر المرتبطة بالاستثمار في العملات المشفرة.
ويوصى الخبراء بأنه ينبغي للمستثمرين التعامل مع السوق بحذر وتنويع محافظهم وتنفيذ استراتيجيات حكيمة لإدارة المخاطر، للتنقل في تقلبات السوق المحتملة بشكلٍ فعّال، حيث إن أسعار العملات الرقمية المشفرة الحالية ليست غير مسبوقة، وليس هناك ما يضمن أن الارتفاع المستمر سيستمر إلى أجل غير مسمى.
اقرأ أيضاً: ما إيجابيات وسلبيات الدفع بالعملات المشفرة بدلاً من العملات التقليدية؟
فقد وصلت القيمة السوقية لصناعة العملات الرقمية المشفرة إلى نحو 3 تريليونات دولار في نوفمبر من عام 2021، ومنذ ذلك الحين شهدت صعوداً وهبوطاً وصل إلى نحو 2.8 تريليون دولار، ما يؤكد الطبيعة الديناميكية للسوق التي على أساسها ينبغي على المستثمرين البقاء على اطلاع وقابلية للتكيُّف للتنقل في تقلبات السوق بشكلٍ فعّال.