روسيا ترغب بأن تفصل نفسها عن شبكة الإنترنت العالمية، وهذا ما سيحصل إثر ذلك

7 دقائق
مصدر الصورة: ميكيل جاسو

في الفترة المقبلة، تخطط روسيا لتجربة شيء لم يسبق لأية دولة أن جربته من قبل، حيث ستختبر إمكانية فصل نفسها عن بقية العالم إلكترونياً مع إبقاء الإنترنت في حالة عمل لدى مواطنيها. وهذا يعني أنها ستضطر إلى إعادة توجيه كل بياناتها داخلياً بدلاً من الاعتماد على مخدمات خارجية.

يمثل هذا الاختبار مسألة هامة بالنسبة لمقترح قانون "الإنترنت السيادي" الذي يشق طريقه حالياً عبر أروقة الحكومة الروسية. ويبدو أنه سيصل في نهاية المطاف إلى التصويت بالموافقة، والتحول إلى قانون بشكل رسمي بعد أن يوقع عليه الرئيس فلاديمير بوتين، على الرغم من أنه ما زال عالقاً في البرلمان حالياً.

قد يبدو إسدال ستار حديدي على الإنترنت فكرة بسيطة، ولكن لا تدع هذه البساطة الظاهرية تخدعك، فهذا تحدٍّ تقني شديد الصعوبة، كما أنه سيكون باهظ التكلفة. فقد حددت جهات الرقابة المالية الروسية التكلفة الأولية للمشروع بقيمة 38 مليون دولار، ولكن من المرجح أن المشروع سيتطلب قدراً أكبر بكثير من التمويل. ويقول أحد المخططين إن التكلفة الحقيقية ستكون أقرب إلى 304 مليون دولار، كما أوردت بلومبيرج، غير أن خبراء التكنولوجيا يقولون إنه حتى لو كان هذا هو الرقم الحقيقي، فهو لن يكون كافياً لتجهيز وإطلاق النظام، ناهيك عن المحافظة على عمله وصيانته.

إضافة إلى هذا، فقد أثبت المشروع منذ الآن أنه نجح في إثارة امتعاض العامة. فقد نزل حوالي 15,000 إلى شوارع موسكو منذ فترة قريبة للاعتراض على القانون في مظاهرات تُعتبر الأكبر منذ سنوات.

عملية الانفصال

إذاً، كيف ستفصل روسيا نفسها عن شبكة الإنترنت العالمية؟ يقول آندرو سوليفان، رئيس جمعية الإنترنت ومديرها التنفيذي: "ليس من الواضح ما قد ينتج عن اختبار الفصل هذا". ولكننا نعرف أنه إذا نجح هذا الاختبار، فإن القانون الجديد سيلزم مزودي الإنترنت في روسيا بالاقتصار على استخدام نقاط التبادل الموجودة داخل البلاد والحائزة على موافقة روسكومنادزور، الهيئة الناظمة لقطاع الاتصالات في روسيا.

إن نقاط التبادل هذه هي مكان اتصال مزودي الخدمة مع بعضهم البعض، حيث تلتقي كابلاتهم في أماكن فيزيائية حتى تتبادل حركة نقل المعلومات. وتشرف على هذه المواقع منظمات معروفة باسم مزودي تبادل الإنترنت (IXP). يقع أكبر هذه المواقع الروسية في موسكو، حيث يصل المدن في شرق روسيا، وأيضاً مدينة ريجا في دولة لاتفيا المجاورة.

يطلق على هذه النقطة اسم MSK-IX، وتُعتبر واحدة من أكبر النقاط في العالم، حيث تصل أكثر من 500 مزود خدمة مختلف، وتتعامل مع تدفق معلومات بغزارة تصل إلى 140 جيجابت خلال ساعات الذروة في أيام الأسبوع. توجد ست نقاط تبادل إنترنت أخرى في روسيا، تغطي معظم مناطقها الزمنية الإحدى عشر. كما يستخدم الكثير من مزودي الخدمة نقاط تبادل موجودة فيزيائياً في بلدان مجاورة أو تمتلكها شركات أجنبية، وستصبح جميعها محظورة. وما أن يتم استكمال هذه المرحلة، سيصبح لدى روسيا مفتاح تشغيل وإطفاء حقيقي وفيزيائي، بكل ما تحمله هذه الكلمات من معنى، بحيث تستطيع أن تقرر حجب الإنترنت عن العالم الخارجي أو إبقاءه مفتوحاً.

ماذا عن الأسماء؟

إضافة إلى تغيير عمل مزودي خدمة الإنترنت، يجب على روسيا أيضاً أن تنفصل عن النظام العالمي لأسماء النطاقات (DNS) بحيث لا يمكن إعادة توجيه حركة البيانات عبر أية نقاط تبادل خارج روسيا.

يمكن أن ننظر إلى نظام أسماء النطاقات على أنه دليل هاتف للإنترنت. فعندما تكتب google.com مثلاً في متصفح الإنترنت، يستخدم الحاسوب نظام أسماء النطاقات لترجمة اسم النطاق إلى عنوان IP، والذي يحدد المخدم الصحيح على الإنترنت لإرسال الطلب إليه. وإذا لم يستجب أحد المخدمات للطلب، سيحل واحد آخر محله. ويمكن القول إن حركة البيانات على الإنترنت أشبه بتدفق الماء الذي سيبحث عن أي فجوة يمكنه أن يجري عبرها.

يقول براد كارب، وهو عالم حاسوب في جامعة لندن: "لقد رغب مصممو نظام أسماء النطاقات ببناء نظام قادر على العمل حتى عند تعطل بعض أجزائه، سواء بشكل متعمد أو عرضي". ويمثل هذا التماسك الداخلي لبينة الإنترنت صعوبة إضافية في وجه تنفيذ الخطة الروسية.

إن الآليات الفعلية لعمل نظام أسماء النطاقات خاضعة لإشراف مجموعة كبيرة من المنظمات، غير أن أغلب "المخدمات الأساسية"، والتي تُعتبر بمثابة الطبقة الأساسية التي يقوم عليها النظام، خاضعة لإشراف مجموعات في الولايات المتحدة. وتنظر روسيا إلى هذا الأمر على أنه يمثل نقطة ضعف استراتيجية، وترغب بأن تحصل على بديل خاص بها، وبناء شبكة جديدة خاصة بها من المخدمات الأساسية.

يقول أميت نايك، وهو خبير في مراقبة الإنترنت في شركة البرمجيات ثاوزند آيز: "يمكن استخدام نظام أسماء نطاقات بديل لإنشاء واقع بديل بالنسبة لأغلبية مستخدمي الإنترنت الروس. ومن يتحكم بهذا الدليل، يتحكم بالإنترنت". ولهذا، إذا تمكنت روسيا من إنشاء نظام أسماء نطاقات خاص بها، فسوف يصبح لديها على الأقل شكل من أشكال السيطرة على الإنترنت ضمن حدودها.

يقول سوليفان أن هذا لن يكون سهلاً. فهو يتطلب إعداد وتوافق عشرات الآلاف من الأنظمة، وسيكون من الصعب –إن لم يكن من المستحيل- تحديد جميع نقاط الوصول التي يستخدمها المواطنون للدخول إلى الإنترنت، مثل الحواسيب المحمولة والهواتف الذكية والألواح الذكية وغير ذلك. سيستخدم بعضهم مخدمات خارجية، مثل مخدم نظام أسماء النطاقات العام لجوجل، والذي لن تتمكن روسيا من تقليده ببساطة، ولهذا سيفشل الاتصال عندما يحاول مستخدم روسي الوصول إلى هذه المخدمات.

إذا نجحت روسيا في إعداد البنية التحتية اللازمة لنظام أسماء النطاقات الخاص بها داخل البلاد، وألزمت مزودي خدمة الإنترنت باستخدامه، فمن المرجح ألا يلاحظ مستخدمو الإنترنت الروس أي تغيير يذكر، إلا إذا حاولوا الوصول إلى موقع محظور. وعلى سبيل المثال، إذا حاول مستخدم روسي الوصول إلى facebook.com، فسوف يُعاد توجيهه إلى vk.com، وهو خدمة تواصل اجتماعي روسية تشبه فيسبوك إلى حد كبير.

سيبين لنا هذا الاختبار المقبل –والذي لم يُحدد موعده رسمياً- مدى استكمال الاستعدادات الضرورية. ويجب على الغرب ألا يقلل من قدر إرادة الدولة الروسية، أو قدرتها، على تحقيق هذا الأمر.

التماسك والسيطرة

يقول الكرملين أن الهدف هو ضمان استقلال شبكة الإنترنت الروسية، وسهولة الدفاع عنها في وجه الهجمات الخارجية. من الطبيعي أن هذا الإجراء سيساعد روسيا على مقاومة العقوبات الحالية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وأية إجراءات محتملة في المستقبل. كما يبدو من المنطقي جعل شبكة الإنترنت داخل البلاد قادرة على العمل في حال فُصلت فيزيائياً عن باقي العالم. وعلى سبيل المثال، فقد وقعت في 2008 ثلاثة حوادث تعرضت فيها كابلات الإنترنت تحت البحر إلى أضرار كبيرة، قيل أنها ناجمة عن مراسي السفن، وأدت إلى قطع الاتصال عن مستخدمين في الشرق الأوسط والهند وسنغافورة. ولو تمكنت البلدان التي تأثرت بهذا الحادث من إعادة توجيه حركة البيانات، لربما تمكنت من تفادي هذه المشكلة.

يعتبر الكثير من المراقبين هذا الإجراء جزءاً من تقليد روسي عريق في محاولة السيطرة على انتقال المعلومات بين المواطنين. فقد أصدرت روسيا قوانين تفرض على محركات البحث إلغاء بعض النتائج، وفي 2014، فرضت على شبكات التواصل الاجتماعي تخزين بيانات المستخدمين الروس على مخدمات ضمن البلاد، كما حظرت تطبيقات التراسل المشفر مثل تيليجرام. ومنذ فترة قريبة، أصدرت الحكومة الروسية قانونين جديدين غامضي التعابير يجرمان "إهانة الدولة" ونشر "الأخبار المزيفة" على الإنترنت. يقول سيرجي سانوفيتش، وهو باحث روسي مختص في الرقابة على الإنترنت في ستانفورد، أن الخطة الجديدة لإعادة توجيه حركة البيانات الروسية تمثل "تصعيداً"، ويضيف: "إنه تصعيد خطر للغاية".

مصدر الصورة: الأسوشييتد برس

إذا كان هذا صحيحاً، فهو تصعيد متوقع منذ فترة طويلة. فقد بدأ الحوار بين مزودي خدمة الإنترنت والجهات الأمنية منذ أكثر من عقدين، وذلك وفقاً لكيير جايلز، وهو خبير في الأمن الروسي ويعمل في مجموعة الدراسات تشاثام هاوس. ولطالما اعتبر مسؤولو الأمن الروس أن الإنترنت تمثل تهديداً أكثر من كونها فرصة. يقول جايلز: "ترغب روسيا بتحقيق هذا الأمر بدون تعريض نفسها إلى العواقب، وذلك عن طريق عزل نفسها عن البنية التحتية العالمية بشكل استباقي".

إذا كانت روسيا تبحث عن الإلهام في توجهها هذا، فيكفي أن تنظر شرقاً. فقد حققت الصين نجاحاً مرعباً في تغيير تجربة الإنترنت لمواطنيها بشكل يناسب مصلحتها. غير أن الصين قررت أن تطبيق درجة أكبر من السيطرة على تطوير الإنترنت عندما كانت في مراحلها الأولية، على حين كانت روسيا مشغولة في ذلك الوقت بانهيار الاتحاد السوفييتي، ما يعني أنها تأخرت كثيراً عن البدء بهذا العمل. قامت الصين بإنشاء بنيتها التحتية الضرورية لمزودي خدمة الإنترنت ونظام أسماء النطاقات -التي تأمل روسيا ببنائها- منذ بداية القرن الجديد، غير أن فرض هذه البنية التحتية الجديدة الآن على هيكلية الإنترنت الموجودة مسبقاً امر أكثر صعوبة بكثير. يقول نايك: "أخذت الصين زمام المبادرة مبكراً، وقررت أن تسيطر وتنظم كامل حركة تدفق المعلومات الداخلة والخارجة".

السقوط

على العكس من هذا، فإن الشركات الروسية والمواطنين الروس مندمجون بشكل راسخ في الإنترنت العالمية، ويستخدمون خدمات أجنبية أكثر من المواطنين الصينيين، مثل أدوات الحوسبة السحابية من مايكروسوفت. ليس من الواضح حتى الآن تأثير هذا الفصل عليهم، ولكن من المحتمل أن يفقد المواطنون الروس إمكانية الوصول إلى هذه الخدمات عند قطع تحويل حركة السير الخارجية. وعلى الرغم من أن الكثير من خدمات الحوسبة السحابية قادرة على "نسخ" محتواها في مناطق مختلفة، فلم تقم أي من خدمات الحوسبة السحابية الكبيرة (التابعة لشركات مايكروسوفت أو جوجل أو أمازون) بإنشاء مراكز بيانات في روسيا، أي أن استنساخ هذه الخدمات ضمن الحدود الروسية ليس بالأمر السهل، وسيتطلب استثمارات كبيرة ويستغرق وقتاً طويلاً، وفقاً لنايك. ويضيف سوليفان أن الاختبار المقبل قد يكون مخصصاً للتعامل مع هذه المسألة.

توجد مشكلة محتملة أخرى. حيث أن الكثير من مزودي خدمة الإنترنت الروس ينقلون جزءاً من البيانات نيابة عن شركات أو مزودي خدمة آخرين، على أن يقوموا بنقل بيانات للمزودين الروس أيضاً وفق اتفاقيات متبادلة. وإذا نُفذت الخطة الروسية بشكل سيء، فقد يؤدي هذا إلى "اختفاء كميات كبيرة من البيانات الداخلة والخارجة من روسيا" كما يقول نايك.

إذا أُجريت التجربة بشكل خاطئ وأصيبت الإنترنت في روسيا بأعطال كبيرة، فقد تكلف الدولة ثمناً فادحاً من الناحية الاقتصادية، كما حدث لبلدان أخرى تعرضت إلى خسائر كبيرة بسبب تعطل خدمة الإنترنت، سواء بشكل متعمد أو عرضي. غير أن جايلز يعتقد أن هذا لن يكون كافياً لردع الكرملين عن إجراء التجربة على أية حال.

ولكن إذا حدث هذا، فلا تتوقع أن يتخلى الروس عن حقوقهم في استخدام الإنترنت بسهولة. وكما في الصين، من المرجح أن المواطنين العنيدين ممن يتمتعون بالمعرفة التكنولوجية سيكونون قادرين على استغلال أية نقطة ضعف في النظام للالتفاف حوله. وعلى سبيل المثال، أثناء المظاهرات في تركيا، شارك الناس فيما بينهم وسائل للوصول إلى نظام أسماء النطاقات بشكل مباشر، ما أفشل محاولة الحكومة حظر مواقع التواصل الاجتماعي.

من الأحدث التي وقعت مؤخراً، والتي يحتمل أنها أعطت الحكومة الروسية دافعاً إضافياً للعمل على هذه الخطة، عملية الاختراق التي نفذتها القيادة السبرانية الأميركية لوكالة أبحاث الإنترنت، وهي "مصنع نشر الكراهية" الروسي الشهير الذي يُقال إنه استخدم وسائل التواصل الاجتماعي لزرع الشقاق في الولايات المتحدة أثناء انتخابات 2016.

يقول كيريل جوسوف، وهو صحفي وخبير سياسي في موسكو: "إن الخطر حقيقي، ويتمثل بتصاعد عدد الأشخاص الذين يطلعون على محتوى مضاد للحكومة على الإنترنت". تتحكم الحكومة بالإعلام والتلفاز، ولكن الإنترنت ما زال خارج قبضتها. يضيف جوسوف: "لن أتفاجأ إذا ما قدمت إف إس بي (التي حلت محل كي جي بي) إلى الرئيس بوتين تقريراً عن هذا الهجوم، والذي يتزامن مع رغبتهم في قمع حرية الإنترنت لأنهم يفقدون سيطرتهم على المجتمع".

ليس من الواضح ما إذا كان هذا القانون سيتحول إلى حقيقة واقعة حتى، ولكن المؤكد أن الحكومة الروسية لا تشتهر بمرونتها أو استجابتها للضغط الشعبي، ومن المرجح أن يتم تأجيل هذا القانون بدلاً من إلغائه تماماً.

المحتوى محمي