في صيف 2018، تلقت شركة ناشئة صغيرة مختصة بالروبوتات في بيركلي تحدياً جديداً. فقد كانت شركة ناب، وهي من كبار مزودي التكنولوجيا اللوجستية للمستودعات، تبحث عن ذراع روبوتية جديدة تعمل بالذكاء الاصطناعي وتستطيع أن تلتقط أكبر عدد ممكن من الأنواع المختلفة من الأغراض. وعلى مدى شهرين، كانت ترسل أسبوعياً إلى الشركة الناشئة قائمة متزايدة الصعوبة من الأغراض -صناديق عاتمة، صناديق شفافة، علب أقراص أدوية، جوارب- تغطي نطاقاً من منتجات عملائها. كان فريق الشركة الناشئة يشتري الأغراض محلياً، ويرسل خلال الأسبوع مقطع فيديو للذراع الروبوتية وهي تقوم بنقل الأغراض من مستوعب رمادي إلى آخر.
بحلول نهاية التحدي، كان المديرون التنفيذيون في ناب مصابين بالذهول؛ فقد تحدوا الكثير من الشركات الناشئة على مدى 6 أو 7 سنوات من دون جدوى، ولم يتوقعوا نتيجة مختلفة هذه المرة. ولكن بدلاً من ذلك، أظهر كل مقطع أن الذراع الروبوتية التي صممتها الشركة تمكنت من نقل كل غرض بدقة مثالية وسرعة كافية للتشغيل الإنتاجي. يقول بيتر بوشوين، نائب رئيس شركة ناب –التي تتخذ مقرها الرئيسي في النمسا- في مجال الابتكار: "في كل مرة، كنا نتوقع رؤية الفشل مع المنتج التالي، فقد كان التعامل معها يزداد صعوبة، ولكنهم حققوا النجاح من جميع النواحي في نهاية المطاف. لم نر هذا المستوى من الجودة والإتقان في الذكاء الاصطناعي من قبل".
الذراع الروبوتية لشركة ناب، التي تعتمد على تكنولوجيا كوفاريانت، في بيئة مستودع حقيقية في برلين بألمانيا.
مصدر الفيديو: جينيس كيل
والآن، خرجت كوفاريانت عن صمتها وأعلنت عن عملها مع ناب. فقد وُضعت خوارزمياتها في روبوتات ناب في اثنين من مستودعاتها الاستهلاكية. وقد كان أحد هذين المستودعين، وهو مستودع تقوم بتشغيله شركة أوبيتا لتزويد المعدات الكهربائية، في حالة إنتاج كامل منذ سبتمبر. ويقول المؤسسون إن كوفاريانت تقترب أيضاً من عقد صفقة أخرى مع إحدى الشركات العملاقة في مجال الروبوتات الصناعية.
تبين هذه الأخبار التغير الذي حصل في مجال الروبوتات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي. فقد كانت هذه الأنظمة شبه مقتصرة على البيئات الأكاديمية ذات القيود الصارمة، ولكن كوفاريانت تقول الآن إن نظامها يستطيع التعامل بشكل عام مع تعقيد العالم الحقيقي، وإنه جاهز لاكتساح المستودعات على أنواعها.
هناك فئتان من المهام في المستودع: الأشياء التي تتطلب استخدام الساقين، مثل نقل الصناديق من القسم الأمامي للمستودع إلى القسم الخلفي، والأشياء التي تتطلب استخدام اليدين، مثل التقاط الأشياء ووضعها في المكان الصحيح. وعلى الرغم من تواجد الروبوتات في المستودعات منذ زمن طويل، فقد حققت النجاح بشكل أساسي في أتمتة النوع الأول من العمل فقط. يقول بيتر تشين، أحد المؤسسين في كوفاريانت ورئيسها التنفيذي: "إذا نظرت إلى المستودعات الحديثة، ستلاحظ أن الناس لا يتحركون من مكانهم تقريباً. إن نقل الأشياء بين نقاط محددة يمثل مشكلة يمكن معالجتها بشكل رائع بتكنولوجيا الميكاترونيكس".
ولكن أتمتة حركة اليدين تتطلب أكثر من مجرد عتاد صلب مناسب؛ حيث إن التكنولوجيا يجب أن تتمكن من تحقيق تكيف سريع مع التنوع الكبير في أشكال وأحجام المنتجات في وضعيات تتغير باستمرار. يمكن برمجة ذراع روبوتية تقليدية لتنفيذ نفس الحركات الدقيقة مراراً وتكراراً، ولكنها ستفشل في عملها عند أول تغير تصادفه. ولذلك ستحتاج إلى الذكاء الاصطناعي حتى "ترى" وتعدل طريقة عملها، وإلا فليس هناك أدنى فرصة في مجاراة البيئة المتغيرة باستمرار. يقول تشين: "إن مهارة الحركة هي الناحية التي تحتاج فعلياً إلى الذكاء".
في السنوات الأخيرة، حققت المختبرات البحثية إنجازات مذهلة في الجمع ما بين الذكاء الاصطناعي والروبوتات لتحقيق هذه المهارة الحركية، ولكن إدخالها في بيئة العالم الحقيقي كان مسألة مختلفة تماماً. تستطيع المختبرات أن تتسامح مع نسبة دقة لا تتجاوز 60% أو 70%، ولكن الروبوتات على خط الإنتاج يجب أن تكون أكثر دقة بكثير. وحتى مع وثوقية بنسبة 90%، يمكن أن تتحول الذراع الروبوتية إلى "مصدر للخسائر"، كما يقول بيتر أبيل، أحد مؤسسي كوفاريانت والعالم الرئيسي فيها.
ووفقاً لتقديرات أبيل وتشين، يجب أن تصل دقة الروبوت إلى 99% -وربما حتى 99.5%- على الأقل حتى يمثل استثماراً ناجحاً، وسيتمكن في هذه الحالة فقط من العمل من دون تدخل بشري يذكر أو وجود مخاطرة في إبطاء خط الإنتاج. ولكن هذا المستوى من الدقة لم يصبح ممكناً إلا بفضل التطورات الأخيرة في التعلم العميق، والتعلم المعزز تحديداً.
الذراع الروبوتية لشركة ناب، التي تعتمد على تكنولوجيا كوفاريانت، في بيئة مستودع حقيقية في برلين بألمانيا.
مصدر الفيديو: جينيس كيل
يقع مكتب كوفاريانت على مسافة قريبة من الواجهة المائية لخليج سان فرانسيسكو، قرب موقف سيارات متهالك بين مجموعة من المباني التي لا تحمل أية علامات مميزة. وفي الداخل، توجد بضعة روبوتات صناعية وروبوتات تعاونية مصممة للعمل بشكل آمن قرب البشر، وتتدرب بشكل متواصل على جميع المنتجات الممكنة.
يذهب أعضاء فريق كوفاريانت، وبشكل منتظم، في رحلات تسوق إلى المتاجر لشراء أية أشياء يمكن العثور عليها. وتتراوح هذه المشتريات بين زجاجات مستحضرات البشرة والملابس المغلفة وصولاً إلى المماحي التي تُركب على الأقلام والمعبأة ضمن صناديق شفافة. ويبحث الفريق على وجه الخصوص عن الأِشياء التي يمكن أن تتسبب بالإرباك للروبوت: سطوح معدنية شديدة العاكسية، مواد بلاستيكية شفافة، وسطوح عالية القابلية للتشوه ستبدو مختلفة للكاميرا في كل مرة، مثل الملابس وأكياس شرائح البطاطا.
توجد فوق كل روبوت مجموعة من الكاميرات التي تلعب دور الأعين. وتنتقل هذه البيانات البصرية، إضافة إلى بيانات الحساسات من جسم الروبوت، إلى الخوارزمية التي تتحكم بالحركة. يعتمد الروبوت في عملية التعلم بشكل أساسي على تركيبة من التقليد وطرق التعلم المعزز. يتضمن التقليد قيام شخص ما بتوجيه الروبوت يدوياً لالتقاط الأجسام المختلفة، ويقوم الروبوت بعد ذلك بتسجيل وتحليل سلاسل الحركيات لفهم كيفية تعميم هذا السلوك. أما التعلم المعزز فيقوم على إجراء الروبوت لملايين المحاولات من التجربة والخطأ. وفي كل مرة يحاول الروبوت التقاط الغرض، يجرب طريقة مختلفة قليلاً. وبعد ذلك، يقوم بتسجيل المحاولات التي أدت إلى عمليات التقاط أكثر سرعة ودقة بالمقارنة مع المحاولات الفاشلة، بحيث يحسن أداءه باستمرار. وبما أن عملية التعلم تصب في الخوارزمية نفسها في نهاية المطاف، فإن منصة كوفاريانت البرمجية، المسماة دماغ كوفاريانت، تستطيع التعامل مع جميع أنواع العتاد الصلب. وبالفعل، يحتوي المكتب على أكثر من دزينة من الروبوتات من نماذج مختلفة، كما أن العمل المباشر مع أوبيتا يعتمد على العتاد الصلب من ناب.
على مدى ساعة كاملة، شاهدت ثلاثة روبوتات مختلفة تقوم بعمل متقن في التقاط جميع أنواع منتجات المتاجر. ففي ثوانٍ معدودة، تقوم الخوارزمية بتحليل مواضع الأشياء، وحساب زاوية الاقتراب والتسلسل الصحيح للحركات، وتمد الذراع لتحقيق الالتقاط بواسطة كأس للشفط. تتحرك الذراع بدقة ودون تردد، وتغير سرعتها اعتماداً على حساسية الغرض المُلتقط. وعلى سبيل المثال، فإن الحبوب المغلفة بالرقاقات المعدنية تتلقى معاملة أكثر لطفاً لتجنب تشويه الغلاف أو سحق الدواء داخله. وفي عرض مثير للإعجاب على وجه الخصوص، قام الروبوت أيضاً بعكس تدفق الهواء من كأس الشفط لنفخ أحد الأكياس وإبعاده عن جدار المستوعب إلى المركز من أجل الإمساك به بسهولة أكبر.
يقول بوشوين من ناب إن استخدام منصة كوفاريانت أدى إلى رفع دقة الروبوتات في التقاط منتجات أوبيتا من 10%-15% إلى حوالي 95%، وتتألف نسبة 5% الأخيرة من أشياء حساسة للغاية كالأغراض الزجاجية، التي ما زالت الشركة تتعامل معها بشكل خاص عن طريق العمال البشر. يضيف بوشوين: "هذه ليست مشكلة؛ ففي المستقبل، يمكن أن يتضمن نظام العمل العادي 10 روبوتات ومحطة واحدة للعمل اليدوي. هذه خطتنا بالضبط". وفي إطار هذا التعاون، ستوزع ناب روبوتاتها التي تعتمد على تكنولوجيا كوفاريانت على جميع مستودعاتها الاستهلاكية في السنوات القليلة المقبلة.
على الرغم من أن هذه الأرقام مثيرة للإعجاب من الناحية الفنية، فإنها أيضاً تثير التساؤلات حول تأثير هذه الروبوتات على أتمتة العمل. ويعترف بوشوين أنه يتوقع أن تستحوذ الروبوتات خلال السنوات الخمس المقبلة على مئات الآلاف من المهام التي كان البشر يقومون بها بشكل تقليدي. ولكنه يضيف أن البشر لم يعودوا راغبين بالقيام بهذا العمل على أية حال؛ ففي أوروبا، على وجه الخصوص، تعاني الشركات في الكثير من الأحيان للعثور على ما يكفي من الموظفين للمستودعات: "هذا ما يبلغنا به جميع عملائنا. إنهم يواجهون صعوبة في العثور على الموظفين، ولهذا فهم في حاجة إلى المزيد من الأتمتة".
جمعت كوفاريانت حتى الآن 27 مليون دولار، ويتضمن الممولون بعض أهم الشخصيات في مجال الذكاء الاصطناعي، مثل جيفري هينتون ويان ليكون الفائزين بجائزة تيورينج. وإضافة إلى عمليات الالتقاط في خطوط الإنتاج، ترغب الشركة الناشئة بالتوسع في نهاية المطاف إلى جميع وظائف المستودعات، بدءاً من تفريغ الشاحنات وصولاً إلى توضيب الصناديق وترتيب الرفوف. كما أنها تدرس إمكانية التوسع إلى مجالات وصناعات أخرى خارج نطاق المستودعات. ولكن في نهاية المطاف، فإن أبيل وضع هدفاً أسمى للشركة: "تقوم الرؤية بعيدة الأمد للشركة على حل جميع مشاكل الذكاء الاصطناعي للروبوتات".