ما الذي تعلمناه حقاً من رائدَي الفضاء التوأمين؟

4 دقائق

عندما قارن الباحثون الحمض النووي لرائدي الفضاء الأميركيين التوأمين سكوت ومارك كيلي، بعد أن أمضى سكوت سنة في الفضاء في محطة الفضاء الدولية، وجدوا أمرين: أحدهما جدير بالملاحظة، والآخر عادي. خمّن أيهما انتهى به المطاف ليتصدر عناوين الأخبار هذا الأسبوع؟

اختلاف الحمض النووي لرائدَي الفضاء

دعنا أولاً نناقش الأمر العادي، باعتباره الخبر الذي انتشر في فضاء شبكة الإنترنت مثل النار في الهشيم. فقد أبلغت التقارير القراء بشكل غير دقيق، أن الحمض النووي لسكوت أصبح "مختلفاً بنسبة 7%" عن الحمض النووي لتوأمه الذي أمضى تلك المدة على الأرض. وبعد صدور تلك التقارير، قامت العديد من المنافذ الإعلامية بتحديث مقالاتها، ولكن عناوينها الأصلية كانت تؤكد أن "الحمض النووي لرائد الفضاء قد تغير بعد قضاء عام بعيداً عن الأرض" وأن "الحمض النووي لرائد الفضاء لم يعد يطابق الحمض النووي لتوأمه".

لم يكن هذا ما وجده الباحثون. ولكنه مع ذلك، ما تضمنه منذ البداية البيان الصحفي الصادر عن وكالة "ناسا"، بتاريخ 31 يناير/ كانون الثاني. تذكر الوكالة في الفقرة السابعة من البيان الغريب، أن إحدى النتائج "المثيرة" تتعلق بما يسميه البعض "المورث الفضائي". ثم تنتقل الفقرة الغريبة سريعاً من المورث الفضائي إلى القول "يعرف الباحثون الآن أن 93% من مورثات سكوت عادت إلى طبيعتها بعد عودته إلى الأرض. ومع ذلك، فإن نسبة 7% المتبقية تشير إلى إمكانية حدوث تغييرات طويلة المدى في المورثات المرتبطة بنظامه المناعي وبعض العمليات الأخرى.

من السهل لأي مراسل يتعجّل في نشر هاتين النتيجتين المترابطتين الغريبتين القادمتين من الفضاء، أن يقع في فخ الاستنتاج الخاطئ الذي مفاده أن بعض السلاسل الوراثية لسكوت كيلي قد تغيرت فعلياً. لكن البيان الصحفي كان قد ذكر بالفعل قبل بضع فقرات أن هذه التغييرات كانت في التعبير الوراثي، وليست في المورثات نفسها. ما يشير إلى عدم اختلاف التوأمين من حيث سلاسلهما الوراثية بل في كيفية استخدامهما لهذه السلاسل. بعد عودة كيلي من الفضاء، طرأت تغيرات لديه في كيفية استخدام خلاياه للمورثات المتعلقة بتحول العظام، والأكسجين المنخفض، وثاني أكسيد الكربون المرتفع، والالتهابات. وهي العوامل التي يتوقع المرء أن تتغير نتيجة العيش في الفضاء، حيث لا تشد الجاذبية عظامك بما فيه الكفاية، ولا يتوفر ما يكفي من الأكسجين بالمقارنة مع الأرض، وتعيش في مكان صغير حيث يزفر الجميع ثاني أكسيد الكربون طوال الوقت. لا يشكل أي مما ذُكر أمراً مفاجئاً.

أضافت وكالة "ناسا" يوم الخميس، نوعاً من تصحيح الخطأ إلى بيانها الأصلي بعد أن أساءت العديد من المنافذ الإعلامية نقل تقاريرها عن نتائج التعبير الوراثي. فقد أوضحت "ناسا" أن الحمض النووي لسكوت كيلي "لم يتغير جوهرياً". ثم تتابع القول بشكل أخرق "لاحظ الباحثون تغيرات في التعبير الوراثي، وهي الطريقة التي يتفاعل بها جسمك مع بيئتك".

حسناً، مثل ماذا؟ يتفاعل جسمك مع بيئتك بشتى الطرق، من بينها بالتأكيد كيفية استخدامه للمورثات. كما يشير البيان الصحفي أيضاً إلى أن ردود أفعال خلايا سكوت كيلي تشبه تماماً استجابة البشر للظروف الصعبة حيث يكون التوتر شديداً والأكسجين منخفضاً، كأن تتسلق جبل إيفرست مثلاً أو تغوص في أعماق البحار.

مدى صحة تدول الخبر

بعبارة أخرى، لا يشكل اختلاف الـ "7"% هذا أمراً يستحق تصدّر عناوين الأخبار. إذ إننا نعرف منذ سنوات عديدة أنه بمرور الوقت يتزايد الاختلاف بين التوائم من حيث استخدامها لسلاسلها الوراثية المتطابقة (بشكل كبير). وهو ما يشكل أحد التفسيرات لإصابة أحد التوأمين بمرض شديد الارتباط بنمط الحياة، مثل النوع الثاني من الداء السكري، في حين أن التوأم الآخر لا يعاني من هذا المرض مثلاً. تشير كلمة "متطابقة" عندما نقول "توائم متطابقة" إلى استخدام التوائم لقاموس جيني متطابق إلى حد كبير على أنه نقطة بداية. لكن تختلف خلايا التوائم المتطابقة في اختياراتها من هذا القاموس حتى منذ الولادة.

بعد أن أشبعنا هذا الجانب من الموضوع بحثاً كما فعلت العديد من المنافذ الإخبارية، دعنا ننظر إلى ما هو مثير للاهتمام حقاً حول الاختلافات بين التوأمين كيلي. لقد اختلف الحمض النووي بينهما حقاً، ولكن ليس من حيث سلاسل الترميز، بل من حيث الأطوال التيلوميرية. التيلوميرات هي نهايات خيوط الحمض النووي، أي المناطق التي تعاني من بعض التلف، تماماً كما يحدث مع النهاية المحمية بالبلاستيك من رباط الحذاء. تساعد التيلوميرات على حماية بقية أجزاء الحمض النووي من التلف، والحفاظ على حماية نهايات الكروموسومات من الارتطام ببعضها البعض والانصهار، كما أنها تشارك في مجموعة من الأنشطة الأخرى المهمة للخلايا.

تلعب التيلوميرات دوراً في الإصابة بالسرطان والشيخوخة والموت. وتمثل هذه الأجزاء الصغيرة في نهاية الحمض النووي الزمن للخلايا والحياة البشرية. يضطلع الإنزيم الذي يسمى تيلوميراز بمهمة الحفاظ على هذه النهايات، ولكن في الخلايا القابلة للموت، تصبح التيلوميرات قصيرة جداً بحيث لا تتمكن الخلايا من الاعتماد على الحمض النووي الخاص بها لتكون مستقرة. وفي النهاية، تنقسم الخلايا بشكل جامح خارج عن نطاق السيطرة بسبب الحمض النووي غير المستقر، أو تصبح هرمة وتموت. ما يعني موتنا نحن أيضاً.

لكن بعض الخلايا لدينا لا تهرم ولا تموت. إذ يحافظ فيها إنزيم التيلوميراز على التيلوميرات، مانحاً إياها نوعاً من الخلود. وهي التي تسمى الخلايا الجذعية، وهذا ما يجعلها تحافظ على نفسها يانعة وشابة لتواصل دعم الأنسجة المرتبطة بها.

لذا فإن الأنباء التي تفيد بأن تيلوميرات سكوت كيلي أصبحت "أطول بشكل كبير في الفضاء" هي حقاً مثيرة للاهتمام وهي تشكل فرقاً جذرياً في سلاسل الحمض النووي بين التوأمين بسبب الاختلاف بين بيئة الفضاء وبيئة الأرض. وصفت "ناسا" هذا الأمر بأنه "غير متوقع"، وقد أكد فريق البحث هذا التغيير من خلال اختبارات متعددة.

لقد أثّر العيش في محطة الفضاء على الخلايا بطريقة مشابهة لما يفعله نبع الشباب، وقد أغفلت العديد من المنافذ الإخبارية فرصة تسليط الضوء على هذا الأمر. قد تعطي استجابة التعبير الوراثي لسكوت كيلي على السنة التي أمضاها في الفضاء بعض التلميحات عن بعض العوامل التي تفسر استطالة التيلومير. وهذا بدوره يمكن أن يُحدث خرقاً في مجال الإصابة بالسرطان والشيخوخة والموت. إنه بالتأكيد أمر لا يمكن تجاهله، أليس كذلك؟

وفي نهاية الحديث عن رائدَي الفضاء التوأمين، تخفّف العودة إلى الأرض قليلاً من حدة السؤال "هل كان سكوت كيلي في طريقه إلى أن يكون مخلوقاً خالداً في الفضاء؟" إذ إن معظم التيلوميرات لديه عادت إلى قِصَرها من جديد في غضون أيام قليلة من عودته إلى كوكبه الأم.

المحتوى محمي