منذ فترة وجيزة، شهدت مدينة سان فرانسيسكو زيارات مفاجئة من أحد الأشخاص المؤثرين في مجال التكنولوجيا، وهو الرئيس التنفيذي لشركة مايكروسوفت، ساتيا ناديلا.
ففي لقاء ديف داي (DevDay) الذي نظّمته أوبن أيه آي (OpenAI)، وهو أول لقاء تنظّمه الشركة للمطورين الذين يبنون المشاريع والأدوات على منصتها، اتجه ناديلا نحو المنصة للانضمام إلى الرئيس التنفيذي لأوبن أيه آي، سام ألتمان، ما زاد درجة الحماسة عند الجمهور الذي كان متحمساً أصلاً. قال ناديلا للجمهور بعاطفة متدفقة: "أنتم تبنون هنا شيئاً أشبه بالسحر".
بعد يومين، وعلى منصة أخرى، في قاعة أخرى، وفي إطار مؤتمر آخر للمطورين، ظهر ناديلا على نحو مفاجئ مرة ثانية خلال أسبوع، وهذه المرة في لقاء غيت هاب يونيفيرس (GitHub Universe). وهناك، كان الرئيس التنفيذي لمنصة غيت هاب (GitHub)، توماس دومكي، يستعرض نسخة جديدة من أداة برمجة الذكاء الاصطناعي الخاصة بالشركة، كوبايلوت (Copilot)، التي تستطيع توليد الرموز البرمجية من اللغة الطبيعية. وأطلق ناديلا عبارة تفيض بالحماسة، وقال متعجباً: "لقد أصبحت قادراً على البرمجة مرة أخرى!"
بعد ذلك، صعد ناديلا إلى المنصة للتحدث مع المطورين في لقاء مايكروسوفت إغنايت (Microsoft Ignite)، حيث أعلنت الشركة مزيداً من أدوات التطوير التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، بما فيها آزور أيه آي ستوديو (Azure AI Studio)، التي تسمح للمطورين بالاختيار بين عدة قوائم للنماذج من تصميم مايكروسوفت وعدة شركات أخرى، مثل ميتا (Meta) وأوبن أيه آي (OpenAI) وهاغينغ فيس (Hugging Face)، وأدوات جديدة لتخصيص كوبايلوت لاستخدامها مع مايكروسوفت 365 (Microsoft 365).
اقرأ أيضاً: كيف ستُعيد مايكروسوفت تشكيل مستقبل الذكاء الاصطناعي بنموذجها اللغوي الصغير أوركا 2؟
اهتمام كبير بالمطورين
إذا بدا لك أن ناديلا يولي المطورين اهتماماً كبيراً، فأنت محق؛ لقد كان ناديلا يزور لقاءات المطورين للتحدث عن كل الطرق التي يستطيعون بها استخدام جيل جديد من الأدوات التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، مثل غيت هاب كوبايلوت (استحوذت مايكروسوفت على غيت هاب في 2018)، أو المجموعة الجديدة من أدوات المطورين من أوبن أيه آي، الشركة التي تقول التقارير إن مايكروسوفت استثمرت فيها ما يقارب 13 مليار دولار.
خلال تلك الفترة من النشاط، قرر ناديلا أخذ استراحة مدة 20 دقيقة من الظهور على منصات اللقاءات لصالح جلسة مع إم آي تي تكنولوجي ريفيو للتحدث عن (أجل، تخمينكم صحيح) المطورين. وأكد بصورة متكررة تركيز مايكروسوفت على المطورين منذ فترة طويلة. لكنه أطلق رسالة أيضاً: إن الطريقة التي نتبعها في بناء البرمجيات تشهد تغيرات جذرية.
يعتقد ناديلا أن هناك تحولاً مرتقباً ستشهده المنصات، وسيكون تحولاً مهماً للغاية ويضاهي التحولات من الحواسيب المركزية إلى الحواسيب المكتبية، أو من الحواسيب المكتبية إلى الهواتف الخلوية. في هذه المرة، ستتجه النقلة نحو أدوات ذكاء اصطناعي تعمل باللغات الطبيعية، ويقول إن بعضها سيؤدي إلى خفض صعوبة الحواجز القائمة أمام الدخول في مجال التطوير البرمجي، ويجعل المطورين الحاليين أكثر إنتاجية، وسيؤدي في المحصلة إلى حقبة جديدة من الإبداع.
اقرأ أيضاً: تعرّف إلى كوبايلوت: أداة الذكاء الاصطناعي الجديدة المدمجة في ويندوز 11
العلاقة مع أوبن أيه آي
من الانتقادات التي تتعرض لها أوبن أيه آي إمكانية التعامل معها عبر مايكروسوفت فقط، ما أتاح للشركة الناشئة الحصول على مليارات الدولارات، إضافة إلى الموارد التي تحتاج إليها لتشغيل نموذجها اللغوي الذي يتطلب إمكانات حوسبة كبيرة. لكن مايكروسوفت، من ناحية أخرى، تعتمد إلى درجة كبيرة على تكنولوجيا أوبن أيه آي لتشغيل خدماتها، مثل غيت هاب كوبايلوت وبينغ (Bing) وأوفيس 356 (Office 365) بل إن ألتمان أطلق مزحة حول هذه الشراكة على المنصة. وقد سألنا ناديلا عن هذه الشراكة.
لطالما شعرت بأن مايكروسوفت شركة تمنح الأولوية للمنصة والشريك أولاً، وهذا ليس أمراً جديداً علينا. ولهذا، من الطبيعي أن كلاً منا يعتمد على الآخر، أليس كذلك؟ هم يعتمدون علينا لبناء أفضل الأنظمة، ونحن نعتمد عليهم لبناء أفضل النماذج، وندخل الأسواق سوية.
اقرأ أيضاً: مايكروسوفت تكشف عن رقاقات حاسوبية جديدة توسّع آفاق استخدامات الذكاء الاصطناعي
حول مهمته لتوجيه المطورين
يقول ناديلا إن هذه النقلة في المنصات مختلفة بما يكفي عن النقلات السابقة إلى درجة تدفعه إلى الشعور بأن الشركة يجب أن تزود المطورين بالأدوات اللازمة، ويجب أيضاً أن تعبر بوضوح عما تفكر فيه، وموقع المطورين في مستقبلها.
عند حدوث نقلة في المنصات، فإن أهم شيء هو الحرص على فتح المجال في المنصة بالكامل أمام المطورين لبناء جميع أنواع الأدوات الجديدة. ولهذا، فإننا نعتقد أن أهم مهمة هي جعل أدوات المطورين ومنصات المطورين متاحة للجميع على نطاقٍ واسع.
أمّا مهمتنا الأخرى فهي توجيه الجميع، أليس كذلك؟ وسواء كانت أوبن أيه آي تبني تشات جي بي تي (ChatGPT) وتقدّم بعد ذلك عدة ابتكارات تعتمد عليه، أو كنا نبني كوبايلوت ثم نقدّم عدة ابتكارات تعتمد عليه، فإن هذا العمل سيمنح المطورين الفرصة لتوزيع تطبيقاتهم. ولهذا، فإن أهم شيء في الإبداع على أي منصة هو فتحها أمام الجميع، ومساعدة المطورين بعد ذلك على الوصول إلى جمهورهم.
هذان هما الهدفان اللذان أعلنا عنهما في تلك المؤتمرات واللقاءات كافة.
اقرأ أيضاً: «مايكروسوفت» تعلن تعيين سام ألتمان ليقود فريقها الجديد للذكاء الاصطناعي
السمات المميزة لهذه النقلة والإنتاجية
كانت زيادات الإنتاجية في الولايات المتحدة تعاني التباطؤ على مدى السنوات الخمسة عشر الماضية. ولم تحقق النقلة الضخمة السابقة -أي ظهور تطوير أدوات الأجهزة المحمولة- مساهمة تذكر في تحقيق الرفاهية على نطاقٍ واسع. يقول ناديلا إن هذه المرة ستكون مختلفة، ويُعزى هذا بنسبة كبيرة إلى أن الانتقال إلى استخدام الذكاء الاصطناعي سيؤدي إلى إطلاق ثورة إبداعية، حيث سيجعل توليد أعمال جديدة، بما في ذلك الرموز البرمجية، سهلاً بالنسبة للجميع.
من ناحية أخرى، تمثّل البرمجة عملاً يتطلب مهارة عالية ويتميز بمردود ممتاز، وثمة بعض المخاوف من أن يؤدي الذكاء الاصطناعي عملياً إلى أتمتة هذا العمل. يقول ناديلا إن الطلب سيبقى موجوداً على المبرمجين المهرة، لكن طبيعة عملهم ستتغير، إضافة إلى ظهور المزيد من الوظائف. وقد قال ناديلا إنه يتخيل وجود مليار مطور يقدمون إبداعاتهم على المنصة، دون أن يمتلك الكثيرون منهم خبرة تذكر، أو حتى أي خبرة على الإطلاق، في مجال البرمجة.
عند حدوث زعزعة مماثلة، لا بُدَّ من التفكير في فقدان الوظائف والأسباب التي أدّت إلى ذلك. وهذا يعني أننا يجب أن نركّز في الفترة المقبلة على تحسين المهارات والتدريب عليها من جديد، ومن المثير للاهتمام أن هذا يماثل ما حدث عندما بدأت برامج معالجة النصوص وبرامج تنظيم الجداول بالظهور. فمن الواضح أن هذه البرمجيات أدّت إلى تغيير كبير بالنسبة لمَن يعملون في مجال الطباعة على الآلات الكاتبة. غير أن هذا أدّى أيضاً إلى فتح المجال أمام مليار شخص لاستخدام معالجات النصوص وكتابة المستندات ومشاركتها.
اقرأ أيضاً: أين وصلنا في سباق وضع قواعد لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي؟
ولهذا، لا أعتقد أن المطورين المحترفين سيصبحون أقل أهمية مقارنة بوضعهم الحالي. لكن ما سيحدث هو ظهور أعداد كبيرة من المطورين بمستويات كثيرة للغاية من المهارة. ففي كل مرة تلقم بينغ تشات أو تشات جي بي تي بمعلومات نصية، يمثّل ما تفعله شكلاً من أشكال البرمجة عملياً. ويمكن للحوار نفسه أن يوجّه عمل النموذج.
أعتقد أننا سنشهد ظهور أعداد كبيرة للغاية من الوظائف الجديدة، وسنشهد ظهور أنواع جديدة ومتعددة من العمل المعرفي، أو العمل الذي يتضمن التعامل المباشر مع العملاء، التي سيصبح أداؤها ممكناً دون بذل جهود مضنية.
أعتقد أن حقبة الأجهزة المحمولة كانت رائعة. فقد جعلت استهلاك الخدمات منتشراً على نطاقٍ واسع، لكن هذا الانتشار لم يتحول إلى انتشار واسع في ابتكار الخدمات.
في المرة الأخيرة التي شهدت فيها الولايات المتحدة وغيرها انتشاراً واسعاً للإنتاجية بسبب تكنولوجيا المعلومات، كان السبب ظهور الحاسوب الشخصي. في الواقع، فإن منتقدي فكرة الترابط بين تكنولوجيا المعلومات والإنتاجية حتى، مثل روبرت غوردن من جامعة نورث ويسترن، يعترفون بأن الحاسوب الشخصي، عندما ظهر في ميدان العمل أول مرة، أدّى فعلياً إلى تغيرات واسعة النطاق في الإنتاجية.
ولهذا، أعتقد أن هذه الأدوات مثل كوبايلوت، ستُتيح لمهندس برمجيات مبتدئ في ديترويت، على سبيل المثال، كتابة الرموز البرمجية، ما سيؤدي إلى تغيير حقيقي في الإنتاجية في صناعة السيارات في ديترويت. ينطبق هذا أيضاً على مجال التجارة بالتجزئة، وينطبق على مجال العمل المباشر مع العملاء ومجال العمل المعرفي.
اقرأ أيضاً: بيل غيتس يطمئنك: لا تقلق من الذكاء الاصطناعي
لقد أصبحت متطلبات الدخول في هذا المجال بسيطة للغاية. وبما أن النماذج قادرة على معالجة اللغة الطبيعية، يستطيع الخبراء في المجال بناء تطبيقات أو تدفقات سير عمل. وهذا، كما أعتقد، أكثر ما يثير حماستي. فلم يعد توجيه العمل يعتمد على الاستهلاك، ولم يعد الإبداع مقتصراً على النخبة، بل أصبح الإبداع مفتوحاً أمام نطاقٍ واسع من المساهمين. أشعر بتفاؤل كبير للغاية بأننا سنشهد مكتسبات الإنتاجية على نطاقٍ واسع.
حماية المطورين
شهدت المحاكم الأميركية العديد من الدعاوى القضائية الفردية والجماعية المتعلقة بالملكية الفكرية بسبب مشكلات الاستخدام العادل. وتشير إحداها على الأقل إلى غيت هاب كوبايلوت تحديداً، حيث تدعي أن أدوات التوليد من مايكروسوفت وأوبن أيه آي، التي دُرِّبت على رموز برمجية مفتوحة المصدر، تمثّل انتهاكاً يصل إلى القرصنة البرمجية. وثمة مخاوف من أن يتعرض مستخدمو هذه الأدوات أنفسهم إلى مشكلات قانونية بسبب ادعاءات انتهاك حقوق الملكية الفكرية أيضاً. تحاول مايكروسوفت معالجة هذه المشكلات من خلال سياسة تعويض واسعة النطاق. كما أعلنت أوبن أيه آي أيضاً سياسة تعويض خاصة بها، باسم كوبي رايت شيلد (Copyright Shield)، وذلك في مؤتمر ديف داي.
تعمل هذه النماذج، بصورة أساسية، على مسح مواقع الإنترنت وجمع المحتوى منها في إطار عملية تُسمَّى "الزحف" (crawl)، ثم تتدرب على هذا المحتوى، أليس كذلك؟ إذا كان شخص ما غير راغب في تعريض محتواه إلى الزحف، فنحن نوفّر أنظمة دقيقة للغاية للتحكم في عمل هذه البرامج الزاحفة بحيث نُتيح لأي شخص إمكانية منعها من الزحف. في الواقع، فإن درجة التحكم تصل إلى إمكانية السماح بالزحف فقط لأغراض البحث، لكن دون تدريب النماذج اللغوية الكبيرة. هذا متاح حالياً. ويستطيع أي شخص يرغب في ضمان حماية محتواه من الجمع لأغراض إعادة التدريب أن يفعل هذا حالياً.
أمّا المسألة الأخرى، بطبيعة الحال، فأنا أعتقد أن اتخاذ القرار حول التمييز بين الاستخدام العادل والاستخدام غير العادل يجب أن يُترك للعمل المشترك، على نحو ما، بين المحاكم والمشرّعين.
اقرأ أيضاً: كيف أثّر الصراع الأخلاقي حول سلامة الذكاء الاصطناعي في إقالة سام ألتمان من منصبه؟
لقد صممنا أنظمة تحكم على مستوى عالٍ من الدقة حتى نضمن أننا ندرب النماذج فقط، وأننا نستخدم في عملية التدريب البيانات المسموح لنا باستخدامها والتي نعتقد أننا نستطيع استخدامها دون انتهاك أي قوانين.
وعند الحاجة، سنلجأ إلى المحاكم، وسنتحمل العبء القانوني بالكامل حتى لا يضطر مستخدمونا إلى الشعور بالقلق إزاء هذه المسائل. هذا ما سنفعله ببساطة: سننقل المسؤولية من مستخدمينا إلينا، وسنتحملها بالكامل. وبالطبع، سنبذل جهوداً كبيرة حتى نحرص على الالتزام بالقوانين على أفضل وجه ممكن.