قد يمثل قسم العناية المشددة في المستشفى مكاناً مرعباً للمرضى، وهو أمر متوقع بطبيعة الحال، نظراً لارتفاع نسبة الوفيات فيه مقارنة مع باقي أقسام المستشفى، حيث تتراوح بين 8% و 19%، أي حوالي 500,000 وفاة سنوياً. أما من لا يموتون فقد يعانون بطرق أخرى، مثل الإعاقات الجسدية والعقلية طويلة الأمد. وبالنسبة للممرضات، فإن العمل في هذا القسم قد يؤدي إلى الإرهاق الشديد بسهولة، حيث يتطلب تقديم الرعاية على مدار الساعة قدرة كبيرة على تحمل المصاعب العاطفية والجسدية.
نُشر مؤخراً بحث جديد في مجلة Nature Digital Medicine يبين أن الذكاء الاصطناعي قد يكون مفيداً في هذا المجال. كما يقدم – وفي الوقت المناسب – مثالاً عن السبب الذي يدعو باحثي الذكاء الاصطناعي إلى العمل جنباً إلى جنب مع ممارسي الاختصاصات الأخرى، وأسلوب هذا العمل.
يقول إيريك توبول، وهو من الأطباء المهمين ومؤلف الكتاب الذي تم إصداره حديثاً: " Deep Medicine: How Artificial Intelligence Can Make Healthcare Human Again "، كما يشغل منصب المحرر المساعد للمجلة: "لقد كانت هذه الدراسة رائدة فعلاً، فقد تمكن الباحثون من التعامل مع مسائل لم يسبق لأحد أن تعامل معها".
تمثل هذه الدراسة حصيلة 6 سنوات من التعاون بين باحثي الذكاء الاصطناعي والعاملين في المجال الطبي في جامعة ستانفورد ومستشفى إنترماونتن إل دي إس في سولت ليك سيتي في يوتاه. وقد اعتمدت الدراسة على الرؤية الآلية لمراقبة مرضى قسم العناية المشددة بشكل متواصل خلال المهام اليومية. وكان الهدف اختبار إمكانية تتبع حركاتهم عن بعد من حيث التكرار والمدة. أظهرت دراسات سابقة لمرضى العناية المشددة أن الحركة يمكن أن تسرع من الشفاء، وتخفف من الهذيان، وتمنع ضمور العضلات، غير أن هذه الدراسات كانت محدودة بسبب صعوبة مراقبة أعداد كبيرة من المرضى.
تم تركيب مجموعة من حساسات العمق في سبع غرف إفرادية للمرضى، وقامت هذه الحساسات بجمع بيانات إسقاطات أخيلة الأجسام ثلاثية الأبعاد على مدار الساعة طوال شهرين. قام الباحثون بعد ذلك بتطوير خوارزمية لتحليل هذه البيانات، وذلك لمساعدتهم على تحديد لحظة نهوض المرضى من السرير أو الكرسي أو عودتهم إليه، إضافة إلى عدد أفراد الطاقم الطبي المتواجدين في الغرفة خلال كل واحد من هذه النشاطات.
أظهرت النتائج نجاحاً مبدئياً، فقد تمكنت خوارزمية كشف النشاطات الحركية من تحديد النشاطات الحركية التي كان يقوم بها المريض بدقة وسطية تساوي 87%، أما خوارزمية تتبع عدد الأشخاص فقد كانت أقل فعالية بشكل ملحوظ، فلم تتجاوز دقتها 68%. يقول الباحثون أنه يمكن تحسين القياسين على الأرجح باستخدام عدة حساسات في كل غرفة، وذلك لمعاكسة أثر وجود شخص أمام شخص آخر أمام الحساس المنفرد.
على الرغم من أن النتائج لم تكن راسخة كما يظهر عادة في المجلات العلمية، فإن هذه الدراسة تعتبر من أولى الدراسات التي تبين إمكانية استخدام الحساسات والخوارزميات لمعرفة ما يجري في قسم العناية المشددة. يقول توبول: "لم يكن الكثيرون ليعتقدوا أن هذا الأمر ممكن حتى. إن غرفة المريض أشبه بمحطة قطار مركزية، حيث تحدث أشياء كثيرة في نفس الوقت".
تشير هذه الدراسة إلى أن هذه الأنظمة قد تعزز من عمل طاقم المستشفى. فإذا كانت الخوارزميات قادرة على كشف وقوع مريض على الأرض، أو حتى توقع حدوث مشكلة من أي نوع، فسوف تكون قادرة على إنذار الطاقم بوجوب تقديم المساعدة فورياً. وهو ما قد يوفر على الممرضات الكثير من القلق لدى ترك مريض لوحده لتقديم الرعاية لمريض آخر.
غير أن ما يميز الدراسة أيضاً هو أسلوبها. حيث تركز الكثير من أبحاث الذكاء الاصطناعي حالياً على تطوير الخوارزميات بشكل خارج عن أي سياق، مثل تحسين الرؤية الحاسوبية في بيئة افتراضية بدلاً من العمل في بيئة حقيقية. ولكن عند التعامل مع تطبيقات حساسة مثل الرعاية الصحية، يمكن أن يؤدي هذا إلى الحصول على خوارزميات غير آمنة للتطبيق أو لا تتعامل مع المشاكل المطلوبة، على الرغم من دقتها.
على العكس من هذا، فقد عمل فريق ستانفورد مع محترفين في المجال الطبي منذ بداية البحث، وذلك لفهم حاجاتهم وترجمتها إلى مشاكل في الرؤية الحاسوبية. وعلى سبيل المثال، فقد استنتج باحثو الذكاء الاصطناعي بعد نقاشات مع الممرضات وغيرهن من أفراد الطاقم أن استخدام حساسات العمق بدلاً من الكاميرات العادية سيحمي خصوصية المرضى والطاقم. تقول سيرينا يونج، وهي من المؤلفين الأساسيين للبحث، وستشغل منصب بروفسور مساعد في علوم البيانات الطبية الحيوية قريباً: "لقد خضت نقاشات مع هؤلاء الأخصائيين الطبيين لسنوات حول الرؤية الحاسوبية والذكاء الاصطناعي. وعبر هذه العملية، تمكنا من اكتشاف مجالات تطبيقية جديدة يمكن أن تستفيد من هذه التكنولوجيا".
غير أن هذه الطريقة أدت أيضاً إلى بطء في سير الدراسة. فقد احتاج الباحثون إلى بعض الوقت للحصول على الموافقة والدعم من جميع مستويات المستشفى، كما كان تحليل بيئة قسم العناية المشددة الذي يضج بالعشوائية والنشاط صعباً من الناحية الفنية، خصوصاً عند الاعتماد على بيانات إسقاط أخيلة الأجسام فقط، لا صور الكاميرات العادية. ولكن هذه الفترة الطويلة كانت ضرورية إلى حد بعيد لتصميم نموذج أولي آمن وفعال لنظام قد يكون يوماً ما نافعاً بالفعل للمرضى وأفراد الطاقم، كما تقول يونج.
من سوء الحظ، فإن الثقافة والمحفزات الحالية لدى باحثي الذكاء الاصطناعي لا تشجع على الدخول في مشاريع مشتركة بهذا الشكل. حيث أن الضغوط التي يخضعون لها لإجراء العمل والنشر بسرعة تقودهم إلى تجنب المشاريع التي لا تعطي نتائج فورية، كما أن خصخصة قسم كبير من تمويل أبحاث الذكاء الاصطناعي يعني مشكلة بالنسبة للمشاريع التي لا تحمل تطبيقات تجارية واضحة. تقول تيمنيت جيبرو، وهي أحد المسؤولين عن فريق أخلاقيات الذكاء الاصطناعي في جوجل، ولم تكن مشاركة في البحث: "من النادر أن نرى أشخاصاً يعملون على نظام متكامل في العالم الحقيقي، ويمضون أيضاً عدة سنوات في هذا العمل المضني المطلوب للحصول على نتيجة مؤثرة من هذا النوع".
من حسن الحظ أن عدداً متزايداً من خبراء الذكاء الاصطناعي يسعون إلى تغيير هذا الوضع. فقد ظهرت في إم آي تي وستانفورد تجمعات بحثية جديدة متعددة الاختصاصات بهدف التركيز على أبحاث الذكاء الاصطناعي الأخلاقية التي تتمحور حول البشر في العالم الحقيقي. كما أن يونج تعتقد أنه توجد فرصة كبيرة في عقد شراكة ما بين مؤتمرات الذكاء الاصطناعي التي تركز على الخوارزميات، مثل نيور آي بي إس وآي سي إم إل، والباحثين الذين يركزون على الأثر الاجتماعي.
يشعر توبول بالتفاؤل إزاء ظهور معيار جديد في الرعاية الصحية مع استمرار وتعمق التعاون ما بين العاملين في الذكاء الاصطناعي والرعاية الصحية: "لم تتمحور الرعاية من قبل حول المريض. وآمل أننا سنحقق هذا الأمر بهذه التكنولوجيا".