تكافح شركات وسائل التواصل الاجتماعي للسيطرة على المعلومات الصحية التي تصنف بأنها إما خاطئة أو مضلِّلة خلال انتشار أحد الأوبئة، وهو أمرٌ عايشنا جميعاً مثالاً حياً عليه في ظل تفشي وباء كوفيد-19 منذ مطلع العام 2020.
ومؤلفو الروايات عادة ما يجدون مكاناً لهم على الإنترنت في مساحات افتراضية ذات صبغة مجتمعية، والتي تشكل جزءاً من التكوين البنيوي لمنصات افتراضية مثل فيسبوك (مثل صفحات المعجبين بشخصية معينة على سبيل المثال)، وهو ما لا نجده في منصات أخرى مثل تويتر.
وهناك دراسات سابقة أشارت إلى أن ما ينقص هذه المسألة هو وجود فهم على مستوى المنظومة التي تدير هذه المنصات الافتراضية ضمن نطاق يشمل ملايين الأشخاص، في حين سلطت دراسة أخرى الضوء على الحاجة إلى فهم دور الخوارزميات والبوتات في تضخيم المخاطر بين حشود الجماهير غير المدركة لحقيقة ما يجري.
بحث جديد
تقول دراسة نُشرت مؤخراً في مجلة نيتشر إن مجموعات فيسبوك -التي تشكك في إرشادات المؤسسات الصحية- هي أكثر فعالية من الوكالات الحكومية الصحية وغيرها من المجموعات الصحية الموثوقة في الوصول إلى الأفراد "المترددين" والتفاعل معهم.
حيث قام الفريق البحثي، وهو من جامعة جورج واشنطن، بتطوير خريطة غير مسبوقة لتتبع الحوارات حول اللقاحات، التي تجري بين 100 مليون مستخدم على فيسبوك في ذروة جائحة مرض الحصبة في 2019. وتكشف الدراسة الجديدة، وخريطة "ساحات المعارك" فيها، كيف يمكن للتشكيك في إرشادات المؤسسات الصحية أن ينتشر ويهيمن على الحوارات خلال العقد المقبل، ما قد يشكل خطراً على الجهود الرامية إلى استخدام اللقاحات لحماية الناس من كوفيد-19 وغيره من الأوبئة التي قد تظهر لاحقاً.
عمل البروفيسور نيل جونسون وفريقه البحثي في جامعة جورج واشنطن، بما فيهم البروفيسور يوناتان لوبو والباحثون نيكولاس فيلاسكيز وريس ليهي ونيكو ريستريبو، بالتعاون مع باحثين من جامعة ميامي وجامعة ميشيغان الحكومية ومختبر لوس ألاموس الوطني، وذلك لتعزيز المعلومات حول تطور التشكيك في الخبرات العلمية على الإنترنت، خصوصاً فيما يتعلق باللقاحات. فقد تحولت مسألة الثقة بالعلم والخبرات الصحية -خصوصاً مع انتشار المعلومات المزيفة حول كوفيد-19- إلى ما يشبه حرباً عالمية جديدة على الإنترنت، علاوة على التشكيك في شركات الأدوية والحكومات، وهي ساحة معركة بقيت مجهولة حتى هذا البحث.
خلال جائحة الحصبة في 2019، قام الفريق بدراسة مجموعات فيسبوك -بعدد كلي من المستخدمين يصل إلى 100 مليون مستخدم- التي كانت نشطة في مسائل اللقاحات، والتي شكلت شبكات عالية المرونة والترابط عبر مختلف المدن والبلدان والقارات واللغات. تمكن الفريق من تحديد ثلاث فئات، وهي المجموعات المؤيدة للقاحات، والمجموعات المناهضة للقاحات، ومجموعات من الأفراد الحياديين المترددين الذين لم يحسموا موقفهم، مثل مجموعات الأهالي. وقد بدأ الباحثون بمجموعة واحدة، ومن ثم بحثوا عن مجموعة أخرى شديدة الترابط مع المجموعة الأولى، وهكذا دواليك، وذلك لفهم طريقة تفاعل هذه المجموعات مع بعضها البعض.
مفارقة مثيرة
اكتشف الفريق مفارقة مثيرة للاهتمام، فعلى الرغم من أن عدد الأفراد المناهضين للقاحات أقل من المؤيدين لها، فإن عدد المجموعات المناهضة للقاحات على فيسبوك أكبر من عدد المجموعات المؤيدة لها بحوالي ثلاثة أضعاف. وهو ما يسمح للمجموعات المناهضة للقاحات بأن تصبح شديدة التفاعل مع مجموعات الحياديين، في حين أن المجموعات المؤيدة تبقى ذات أثر ضعيف في أغلب الأحيان. إضافة إلى ذلك، فإن المجموعات المؤيدة التي تركز على مواجهة المجموعات المناهضة الكبيرة قد تعجز عن إدراك تنامي المجموعات المتوسطة خِفيةً عنها.
- لقطة توضح الخريطة اللحظية في 15 أكتوبر 2019، للعناصر المتصلة في البيئة المعقدة للحياديين (أخضر) والمناهضين للقاحات (أحمر) والمؤيدين للقاحات (أزرق)، وهي وجهات النظر لما يقارب 100 مليون فرد في مجموعات (صفحات) تتعامل مع موضوع اللقاحات على فيسبوك. أما الفصل اللوني فهو تأثير ناتج عن التوزع الطبيعي، وليس مفروضاً على الشكل، ويُحدَّد حجم المجموعة بعدد أفراد الصفحة على فيسبوك. أما الدوائر السوداء فهي تظهر المجموعات التي تنمو بالروابط الخارجية بنسبة أكثر من 50%.، وكل رابط بين عقدتين يحمل لون العقدة المصدر.
- الانتشار العالمي للصورة السابقة (a) بالنسبة لعدد صغير من المجموعات. يعبر "الوسط العالمي" عن العقد التي ما زالت عالمية (رمادي).
- تتمتع المجموعات المناهضة للقاحات بنمو أكبر من حيث حجم المجموعة. كل نقطة ملونة تمثل عقدة، وتعود البيانات إلى الفترة الممتدة من فبراير إلى أكتوبر من العام 2019.
- يمثل الأفراد المناهضون للقاحات أقلية مقارنة بالمؤيدين للقاحات، غير أن المناهضين للقاحات يشكلون عدداً أكبر من المجموعات المنفصلة.
هذا ليس كل شيء
وجد الباحثون أيضاً أن المجموعات المناهضة للقاحات تقدم روايات أكثر تنوعاً حول اللقاحات وغيرها من العلاجات الصحية المعروفة -حيث تروج لمخاوف السلامة ونظريات المؤامرة والخيارات الشخصية، على سبيل المثال- التي تستطيع جذب نسبة أكبر من إجمالي مستخدمي فيسبوك، الذين يبلغ عددهم 3 مليار مستخدم، ما يزيد فرص التأثير على الأفراد في المجموعات الحيادية. من ناحية أخرى، فإن المجموعات المؤيدة للقاحات تقدم عموماً رسائل أحادية الطابع تركز عادة على الفوائد المعروفة للقاحات في تعزيز الصحة العامة، كما لاحظ باحثو جورج واشنطن أن الأفراد في المجموعات الحيادية لم يكونوا مجرد متفرجين سلبيين، بل كانوا يتفاعلون بنشاط مع المحتوى المتعلق باللقاحات. وقد كان من المعتقد أن الكيانات الكبيرة التي تتعامل مع الصحة العامة، والدوائر الحكومية الصحية، ستكون في قلب هذه المعركة على الإنترنت، غير أن الباحثين وجدوا العكس تماماً، فقد كانت هذه المؤسسات تعمل في جانب واحد، وفي المكان الخطأ.
ما العمل إذن؟
مع اندفاع العلماء حول العالم نحو تطوير لقاح فعال لكوفيد-19، أصبح لانتشار المعلومات الزائفة والخاطئة آثار هامة على الصحة العامة، خصوصاً على منصات التواصل الاجتماعي، التي غالباً ما تلعب دور مضخّمٍ ومعدّلٍ للمعلومات. وفي هذه الدراسة، اقترح باحثو جورج واشنطن عدة إستراتيجيات مختلفة لمكافحة المعلومات المزيفة على الإنترنت، بما فيها التأثير على تباين هذه المجموعات المنفردة لتأخير ظهورها والتخفيف من نموها، والتلاعب بالروابط بين المجموعات لمنع انتشار وجهات النظر السلبية. فبدلاً من التركيز بشكل إفرادي على كل مجموعة في هذه الشبكة العالمية من المجموعات التي تستهلك وتنتج المعلومات المزيفة، يمكن أن تستفيد منصات التواصل الاجتماعي والحكومات من هذه الخريطة ومجموعة جديدة تماماً من الإستراتيجيات لتحديد النشاط الأكثر خطراً على الإنترنت، والعمل على تحييد هذه المجموعات التي تنشر معلومات زائفة شديدة الضرر بالعامة.
المرجع: DOI: 10.1038/s41586-020-2281-1
التنافس على الإنترنت بين وجهات النظر المؤيدة والمناهضة للقاحات.