أثبتت الأشهر المنصرمة أنها أقرب ما تكون إلى برهان مباشر حول مخاطر العالم فائق الترابط. وعلى الرغم من الجهود المبذولة لتقييد السفر الدولي والمحلي، تصاعدت أعداد الإصابات بشكل مطرد، وتزايدت التفاوتات بين دول العالم بوتيرة لم نكن حتى لنتخيلها في بدايات العام 2020. غير أن الطبيعة الرقمية لهذا العالم فائق الترابط قد تحمل بعض الحلول بالغة الأهمية التي نحتاجها لتوسيع نطاق المقاربات الجديدة للمشاكل المتعلقة بالوباء، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وهي حلول تحمل بشكل متزايد طابعاً رقمياً. بطبيعة الحال، فإن المشكلة لا تكمن في الفيروس نفسه، بل في ردود الأفعال التي يؤدي إليها؛ حيث إن الزيادة غير المتوقعة مستقبلاً في عدد الإصابات تؤثر على مصادر المعلومات لمعرفة ما يجري، وهو ما يشكل ضغطاً على آليات تقييم المخزونات، ويؤدي إلى عواقب واسعة النطاق بالنسبة للأعمال التي تحاول الاستجابة لهذا الوباء قدر الإمكان.
وتُعتبر الحلول التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي من بين أفضل الحلول الرقمية التي تؤخذ بعين الاعتبار أو تعد بتقديم نتائج إيجابية. وعلى الرغم من أن هذه التكنولوجيا تتصف حالياً بمسحة من الحداثة، إلا أنها في الواقع ليست جديدة على الإطلاق. ويعود صعودها في الفترة الأخيرة إلى اجتماع عدة عوامل خلال العقود المنصرمة، وعلى وجه الخصوص، ظهور وحدات المعالجة الرسومية الملائمة بشكل استثنائي لإنجاز المهام الحاسوبية، للشبكات العصبونية والتعلم العميق، وظهور مجموعات البيانات الضخمة المفتوحة على الإنترنت، إضافة إلى توسيع نطاق خوارزميات جديدة بفضل التطور الذي تم تحقيقه في أساليب التعلم الإحصائي، وغير ذلك. وإن الزيادة الملحوظة في إجراء التجارب المتعلقة بالوباء -وما تلا ذلك من اهتمام الحكومات والشركات على حد سواء بهذه المسألة- تمثل حالةً سائدة جديدة في الحوار العالمي الدائر حول الذكاء الاصطناعي. وهناك بالفعل جو جديد من الارتياح في أوساط الشركات الراسخة في هذا المجال.
حالياً، تشهد وسائل الإعلام العالمية انتشاراً سريعاً للإعلان عن حالات استخدام جديدة للذكاء الاصطناعي، مثل: التقييم السريع للصور الطبية للمرضى على نطاق واسع لتحسين الكشف عن كوفيد-19؛ وتحسين الدقة في تتبع الحالات والتنبؤ بها على المستوى الدولي، واستعراض وجمع المقالات العلمية المتعلقة بالوعي والتقييم على الإنترنت على نطاق واسع، والتحليل الكيميائي المتقدم الذي يساعد على تصنيع اللقاحات. ما رأيكم ببعض الأمثلة؟ بدءاً من التوعية التنبؤية من شركة بلودوت؛ إلى التشخيص بالذكاء الاصطناعي من شركة علي بابا، وصولاً إلى مجال النقل مع أنظمة التنظيف الروبوتية ذاتية التحكم في وسائل النقل العام في هونج كونج؛ وظهور أنظمة الرعاية الصحية التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي مع برنامج هيلث ماب في مستشفى بوسطن للأطفال، أثبتت هذه البرامج أنها تمثل شكلاً متطوراً من أشكال استخدام التعلم الآلي لدعم أحد التطبيقات الملحَّة في مجال الصحة العامة. ولكن توجد أنظمة واسعة الانتشار من الناحية الجغرافية تستحق الذكر أيضاً، مثل الطائرات المسيرة من شركة مايكرومالتي كوبتر في شنجن بالصين. وهذا ليس كل شيء. فعلينا ألا ننسى أيضاً ألفا أنها فولد من شركة ديب مايند، إضافة إلى بوت التقييم الصحي من مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها في الولايات المتحدة، وانتهاء بالرقابة على سلامة شبكات التواصل الاجتماعي من فيسبوك. أما أبرز هذه التكنولوجيات فتقوم على تطبيق الذكاء الاصطناعي وفق معايير أخلاقية مدمجة، مثل برنامج الكشف عن المخدرات من شركة بينيفولينت إيه آي.
قد يهمك: ما هي إنترنت الأشياء؟
قد تبدو هذه القائمة الكبيرة من التطبيقات المثيرة للدهشة، ولكنها تخدم في نهاية المطاف نفس الهدف، وهو إثبات زيادة الأمل العام والوعي لدى القطاع التجاري بإمكانات الذكاء الاصطناعي باعتباره جزءاً أساسياً من عالم التكنولوجيا الحديثة.
ومع كل هذا، وبغض النظر عن كل الضجيج الإعلامي، لا بد من أن نتعامل مع الأمور بشيء من الواقعية، خصوصاً مع تحول الطلب على إجراء التجارب والاختبارات بالتدريج إلى طلب على توسيع النطاق والتعميم. ليس الذكاء الاصطناعي بالضرورة حلاً لجميع المشاكل، كما أن الحلول الموجودة حالياً -التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي- ليست على مستوى جميع المشاكل الغامضة؛ لكن الأهم من ذلك كله، هو أن هناك الكثير من الشركات والمؤسسات التي لا تتمتع بما يكفي من التطور لتطبيق هذه الحلول والاستفادة منها، من دون التسبب في ظهور آثار جانبية. وعلى الرغم من الحاجة إلى حلول واسعة النطاق، وبدء اختبار الممارسات والأدوات الجديدة، يجب أن نحرص على أن تكون المؤسسات التي تسعى إلى إجراء هذه التجارب مدركة بالكامل لطبيعة المهمة التي يجب أن تقوم بها. وكما في معظم التحولات الرقمية، فإن هذه الأجندات لا تتمحور في بعض الأحيان حول التكنولوجيا بقدر ما تتمحور حول الثقافة والعمل والنماذج العقلية التي يجب تغييرها، لتحقيق مفهوم جديد للإنتاجية، وفرص جديدة، وتحقيق تطورات اجتماعية جديدة بشكل فعلي وجعلها مستدامة.
يمتد هذا الموضوع الحساس إلى التساؤل حول كيفية سعي الحكومات الوطنية والأطراف الفاعلة المحلية إلى الاستفادة من الجيل الجديد من التكنولوجيات الناشئة للمساعدة في تحسين سرعة ونطاق ومستوى تطور الاستجابات للأحداث غير المتوقعة عالية التأثير، مثل الصدمات التي تصيب الأنظمة على نطاق واسع. في واقع الحال، لا بد أن تظهر مخاوف مماثلة سواء لدى الحكومات التي تسعى إلى تحديد قطاعات جديدة للاستثمار الإستراتيجي لاستخدام الذكاء الاصطناعي بشكل تنافسي، أو الشركات التي تسعى إلى استكشاف الأسواق بحثاً عن حلول فعالة تعتمد على الذكاء الاصطناعي. وحتى نخوض حواراً أكثر نضجاً، يجب أن ننتقل من الحوار حول ما نرغب في تحقيقه باستخدام الذكاء الاصطناعي، إلى حوار أكثر واقعية وعمقاً حول ما نحتاج إلى تحقيقه باستخدام الذكاء الاصطناعي من أجل الاستجابة إلى الأزمات التي نواجهها دون التسبب في إحداث مزيد من الفراغ الجوهري والعميق على مستوى الحقوق.
لكننا في الواقع نحتاج إلى المضي قدماً، على الرغم من الطابع الابتكاري للاستخدامات المذكورة أعلاه، فإن ما نحتاجه فعلاً هو إستراتيجيات أكثر شمولية تتعامل مع رؤية مستقبلية فعالة للتحديات التي أحدثها الذكاء الاصطناعي على مستوى المبادئ والفوائد المرجوة. مثل كيفية بناء حوارات فعالية حول سبل الموازنة بين الخصوصية من جهة وتوفير إمكانات الرعاية الصحية من جهة أخرى (أو مدى صحة هذا التضارب من الأساس)، وحول ما إذا كان يتوجب إخضاع ملكية البيانات لإدارة خاصة أو عامة، وحول احتمال ظهور عدم المساواة نتيجة تطبيق بعض حلول الذكاء الاصطناعي وما إذا كانت هذه المشكلة تفوق الفوائد المرجوة بالنسبة لمن يستطيعون الوصول إليها، إضافة إلى غير ذلك.
ومع دراسة الدول لتأثير الذكاء الاصطناعي على شكل استجاباتها بعد انتشار الوباء، ونظراً لكونه يمثل عنصراً أساسياً في استجاباتها حول مسائل الصحة العامة في المستقبل، ونظراً لتوسع الأجندات التنافسية، يجب أن نتمكن من إجراء حوارات جدية حول الفائدة الحقيقية للذكاء الاصطناعي. لقد بدأ كل هذا بفضل الإدراك الحقيقي لحدود قدرات الذكاء الاصطناعي فيما يتعلق بالحاجة إلى تحسين العمليات على نطاق واسع. يجب أن تحدث هذه الحوارات بشكل متزامن، ويجب أن تحدث اليوم لبناء أطر أفضل لاستغلال الإمكانات الضخمة لهذه التكنولوجيات، وإلا فإنها ستذهب سدىً خلال سعينا إلى تحسين المجتمع حيث نكون في ذروة حاجتنا إليها.