غالباً ما يكون تشخيص الأمراض النادرة رحلة طويلة وشاقّة، يُطلق عليها البعض "أوديسة التشخيص". هذا ما واجهه خوليان إيسلا وزوجته لوسيا، عندما بدأ ابنهما سيرخيو، المولود عام 2008، يُعاني أعراضاً حادة بعد أشهر من ولادته. خلال حمّام روتيني، بدأت أطراف الطفل ترتجف وجسده يتصلّب، ما استدعى نقله إلى المستشفى بشكلٍ عاجل.
تبع ذلك أكثر من عشرة أشهر من القلق والغموض وزيارات متكرّرة للأطباء، قبل أن يُشخَّص أخيراً بمتلازمة درافيت، وهي حالة عصبية نادرة وشديدة تُصيب الأطفال.
معاناة شخصية تُشعل شرارة الابتكار
كان إيسلا، مهندس برمجيات في مايكروسوفت بمدريد، مذهولاً من قصور النظام الطبي في الاستفادة من التكنولوجيا لتسريع عملية التشخيص. بعد أن شُخِّص ابنه بشكلٍ خاطئ وتلقى علاجاً غير ملائم، تعرّض لنحو 20 نوبة صرع في يوم واحد. ومنذ ذلك الحين، أصبح هاجس إيسلا البحث عن إجابة لسؤال واحد: لماذا لا تُستخدم التكنولوجيا، وبالأخص الذكاء الاصطناعي، لتقصير هذه الرحلة المؤلمة؟
رؤيته كانت واضحة: تطوير أداة تُمكّن الأطباء من الحصول على تشخيص دقيق في غضون دقائق.
يعاني أكثر من 300 مليون شخص حول العالم أمراضاً نادرة. وقد وُثِّق ما بين 6,000- 8,000 مرض نادر، 80% منها ذات جذور وراثية وتبدأ بمرحلة الطفولة. طبيعة هذه الحالات تجعل التعرف عليها صعباً، إذ يتطلب التشخيص تحليل كميات ضخمة من الأعراض والبيانات الطبية، وهو أمر يفوق قدرة الطبيب وحده.
في عام 2017، أسّس إيسلا "مؤسسة 29"، وهي منظمة غير ربحية تهدف إلى تسخير الذكاء الاصطناعي لتطوير حلول للرعاية الصحية. وفي العام نفسه، تواصل مع ساتيا ناديلا، المدير التنفيذي لمايكروسوفت، الذي تأثر برسالة إيسلا وتاريخه الشخصي، وربطه بفرق متخصصة في الذكاء الاصطناعي الطبي داخل الشركة.
اقرأ أيضاً: السكر الذكي: استخدام التكنولوجيا الحيوية لصنع بدائل طبيعية وأكثر صحة
كيف تعمل أداة دي إكس جي بي تي (DxGPT)؟
نجح إيسلا مع فريقه في تطوير الأداة التشخيصية (DxGPT) باستخدام النماذج اللغوية الكبيرة (LLMs)، مثل (GPT-4o)، على منصة مايكروسوفت آزور (Microsoft Azure). تُتيح الأداة للمستخدمين إدخال وصف للأعراض، لتوليد قائمة مختصرة بأكثر التشخيصات احتمالاً. النموذج مدرّب على بيانات طبية مفتوحة المصدر، بالإضافة إلى معلومات حصلوا عليها من شركات خاصة.
تكمن قوة الأداة في قدرتها على تقديم نتائج دقيقة بسرعة عالية، لتكون نقطة انطلاق للطبيب الذي يُكمل التشخيص بناءً على تحاليل وفحوص إضافية.
الجدير بالذكر أن أداة (DxGPT) تولي اهتماماً بالغاً للخصوصية، حيث:
- لا تطلب الأداة أي معلومات شخصية مثل الاسم أو العنوان.
- لا تُخزن بيانات المستخدم.
- خضعت لتقييمات صارمة من لجان الأخلاقيات في المستشفيات.
- تم التأكّد من توافقها مع قوانين حماية البيانات الأوروبية (GDPR).
هذه الإجراءات كلّها تجعلها أداة موثوقة وآمنة للاستخدام خصوصاً في المراحل الأولى من التشخيص.
من الاستخدام الفردي إلى الدعم المؤسسي
منذ أواخر عام 2023، بدأت عيادات في النظام الصحي العام في مدريد باستخدام نسخة متخصصة من أداة (DxGPT)، حيث يستفيد منها أكثر من 6,000 طبيب في تشخيص الحالات النادرة للأطفال والبالغين. حتى الآن، استُخدِمت الأداة من قِبل أكثر من 500,000 شخص حول العالم.
كما دعمت مايكروسوفت "مؤسسة 29" تقنياً وتنظيمياً، وقدّمت لها منحاً سنوية لاستخدام خدمات آزور (Azure). وقد أشار ساتيا ناديلا إلى أن الأداة باتت قيد الاستخدام الكامل في مدريد، قائلاً إنها تُمكّن الأطباء من تقليص وقت التشخيص من سنوات إلى دقائق.
A great example of what's possible when someone connects their passion with their purpose to make a real difference.
DxGPT, a rare disease diagnostic tool, is now live, showing how AI can be applied to help truly improve lives. شاهد على إكس
— Satya Nadella (@satyanadella) April 22, 2025
الذكاء الاصطناعي أداة داعمة وليس بديلاً عن الطبيب
رغم أن بعض الدراسات بيّنت أن أداء الذكاء الاصطناعي ما زال أقل من أداء الأطباء المتخصصين بنسبة 15.8%، فإن أداءه يُماثل أداء الأطباء غير المتخصصين. ويُظهر ذلك إمكانات الذكاء الاصطناعي مساعداً فعّالاً، خاصة في البيئات التي تفتقر إلى الموارد، وفي الحالات المعقدة كتشخيص الأمراض النادرة.
اقرأ أيضاً: 5 نصائح لتقييم دقة المعلومات الصحية التي توفّرها مواقع الويب وأدوات الذكاء الاصطناعي
سيرخيو، الدافع خلف كل شيء
يبلغ سيرخيو الآن 16 عاماً، ويحتاج إلى رعاية دائمة. وعلى الرغم من أنه قد لا يُدرك تماماً ما فعله والده، فإن تجربته كانت الشعلة التي أنارت طريق الابتكار.
يطمح إيسلا إلى توسيع نطاق استخدام أداة (DxGPT) داخل أنظمة الرعاية الصحية الأوروبية، وطرحها عبر (Azure Marketplace) ليتمكن الأطباء في أنحاء العالم كافة من استخدامها. هذه الأداة ليست مجرد مشروع تقني، بل هي قصة إنسانية تُجسّد كيف يمكن لمعاناة شخصية أن تتحول إلى حلّ يُغيّر حياة الآخرين.