ما الحلول الثورية التي قدّمها ساتوشي ناكاموتو ليجعل البيتكوين عملة قابلة للتداول والاستمرار؟

5 دقائق
ما الحلول الثورية التي قدّمها ساتوشي ناكاموتو ليجعل البيتكوين عملة قابلة للتداول والاستمرار؟
حقوق الصورة: shutterstock.com/RSplaneta

في مقالتي السابقة حول البلوك تشين ذكرتُ الوثيقة التي بدأت بها شرارة الثورة التكنولوجية، وهي من أفكار ساتوشي ناكاموتو المجهول الهوية حتى الآن. أهم ما في هذه الوثيقة هو الطرق التي شرحها لحل معضلات أساسية حتى نتمكن من تطوير عملة مشفرة مثل البيتكوين. ومن المنطقي هنا أن نذكر أن البيتكوين هي عملة رقمية مشفرة أي تعتمد على أسلوب التشفير ما يجعلها آمنة ويحقق لها الكثير من الصفات التي تجعلها سهلة التداول، وهذا الوصف لا ينطبق على ما يُسمّى العملات الرقمية التي يمكن أن تكون أي عملة يمكن استخدامها مثلاً للشراء من موقع أمازون، حيث يمكنك استخدام البطاقة البنكية بشكل إلكتروني رقمي، وهو يعتبر تمثيلاً رقمياً للأموال في بطاقتك الائتمانية.

ما المشكلات التي تغلب عليها ساتوشي ناكاموتو؟

لنسأل أولاً، ما المشكلات التي استطاع ساتوشي ناكاموتو التغلب عليها لكي يجعل عملة البيتكوين قابلة للوجود والتداول والاستمرار؟

 دعونا نتطرق للمشكلات بالشرح والتحليل:

  1. الإنفاق المزدوج (Double Spending): من المشكلات الأساسية في العملات الإلكترونية بشكلٍ عام (سواء رقمية أو مشفرة)، وتتلخص في إنفاق الأصول الرقمية أكثر من مرة بسبب سهولة تكرار المعلومات الرقمية. فعلى سبيل المثال، يمكنك إرسال صورة من هاتفك آلاف المرات وإلى ملايين الأشخاص، بحيث تكون كل النسخ مماثلة للصورة التي على هاتفك، ويمكن لأيٍّ كان ممن وصلتهم الصورة أن يدعي أنها صورته في الأساس. 

فشلت الأنظمة السابقة للنقود الإلكترونية في معالجة هذه المسألة دون اللجوء إلى طرف ثالث موثوق. لكن كان الحل الذي اقترحه ناكاموتو هو استخدام شبكة موزعة من الحواسيب التي يحتوي كل منها على نسخة من دفتر الأستاذ العام، وهو في مفهوم المحاسبين الدفتر الذي يحتوي على الحركات المالية كافة، وبذلك تكون هناك آلاف وربما ملايين النسخ الموزعة والمتطابقة، ويتم بث وحفظ كل معاملة إلى هذه الشبكة وإضافتها إلى دفتر الأستاذ العام في جميع الحواسيب بشكلٍ متزامن، وذلك فقط بعد التحقق من صحتها من قِبل غالبية الحواسيب. هذا يجعل إمكانية الإنفاق المزدوج مستحيلة حيث ستُكتشف أي محاولة بسرعة وتُرفض من قِبل الشبكة، فإذا حاول شخص إنفاق عملة مشفرة تم إنفاقها مسبقاً، قد ينجح في تمرير ذلك في إلى حاسوب واحد، ولكنه لن يستطيع تأكيده في الحواسيب الأخرى كافة حيث إن الأغلبية ستمنع ذلك.

اقرأ أيضاً: هل يمكن لشركات تدقيق العقود الذكية حماية أنظمة العملات المشفرة من الأخطاء البرمجية؟

  1. المركزية: قبل البيتكوين، كانت أنظمة المعاملات المالية تعتمد على سلطة مركزية مثل البنوك، وبمعنى أشمل البنوك المركزية. كانت هذه البنوك أو السلطات تسهّل المعاملات وتتأكد من سلامتها، إلّا أنها أيضاً تعتبر نقطة فشل مركزية، وفي حال حدوث أي مشكلة في تلك السلطات أو إذا تم تجاوزها أو التحايل على قوانينها، يصبح النظام بأكمله في خطر. هذا ما حدث في الانهيار المالي العالمي عام 2008 والأعوام التالية، وكان له تأثير غير مسبوق على معظم دول العالم. ومن هنا اقترح ساتوشي ناكاموتو نظاماً غير مركزي، حيث لا يمتلك كيان واحد السلطة المطلقة على المعاملات وتتم معالجة معاملات البيتكوين والتحقق منها من خلال شبكة موزعة من العقد (الحواسيب)، ما يقلل من خطر الفشل الذي يمكن أن يحدث للأنظمة المركزية، كما يحمي من إمكانية ضياع المعلومات أو التغيير فيها.
  2. الأنظمة المعتمدة على الثقة: تتطلب النُظم التقليدية للمعاملات المالية الثقة الكاملة في السلطة المركزية مثل البنك مثلاً، فالبنك هو الذي يضمن سلامة المعاملات ودقة تنفيذها ويقوم بدور حلقة الوصل الموثوق بها بين المتعاملين. ولنشرح مثالاً يوضّح كيف تم بناء النظام المالي الحالي على الثقة:

لنفترض أنك ذهبت إلى السوبرماركت لشراء بعض الاحتياجات، واستخدمت البطاقة الائتمانية في الدفع، وتم الدفع بنجاح، دعونا نحلل ما حدث في هذه الحالة:

  1. البطاقة الائتمانية التي استخدمتها في الدفع هي بطاقة تم إصدارها من بنك يُسمّى (Issure) أو البنك المصدر للبطاقة، وهي عبارة عن وعد من البنك وضمان بأنه سيُتيح لك استخدامها على نقاط الدفع بحد مالي معين.
  2. حين استخدامك تلك البطاقة، قام العامل بالسوبرماركت باستخدام جهاز الدفع POS الذي أرسل المعلومات للبنك المصدر للبطاقة (يسبق ذلك خطوات كثيرة خارج إطار هذا المقال)، وقام البنك بالتأكد من أحقيتك في استخدام البطاقة وأنك تمتلك الحق في دفع مبلغ مشترياتك، وذلك وفاء لوعده لك بالقيام بذلك وثقتك بهذا الوعد.
  3. ما حدث إنك أخذت ما اشتريت مهما كان ثمنه وخرجت من السوبرماركت مع ورقة صغيرة تمت طباعتها على جهاز الدفع POS توضح المبلغ الذي من المفترض أنك دفعته (لم تدفعه فعلاً).
  4. هذا الإيصال هو الدليل على مجموعة من الوعود من البنك الذي تتعامل معه بأنه سيقوم بتحويل المبلغ إلى البنك الذي يتعامل معه السوبرماركت الذي وعد مالك السوبرماركت أن يضع المبلغ في حسابه، وهذا بالتزامن مع وعد البنك الذي أصدر البطاقة بخصم المبلغ من حساب العميل.
  5. بناءً على الثقة بينك وبين البنك وبناءً على الأنظمة التي يشرف عليها البنك المركزي (جهة مركزية)، ولثقتك بكل هذه الأطراف، يقوم البنك بناءً على وعده لك بتنفيذ عمليات بطاقتك.

من الخطوات السابقة لاحظ كم مرة تم ذكر كلمة (ثقة) وكلمة (وعد)، وهذا بالتحديد الذي يمكن أن نُطلق عليه النظام المالي المعتمد على الثقة. الثقة بالسلطة المركزية، والثقة بصحة المعاملات، والثقة بأن النظام لن يتم التلاعب به. وهذا ما قام ساتوشي ناكاموتو بالتغلب عليه، حيث خلق نظاماً لا يعتمد على الثقة، إذ يقوم بروتوكول بيتكوين من خلال آلية التوافق الفريدة الخاصة به ببناء نظام لا يعتمد على الثقة والوعود، فحتى المشاركين الذين لا يثقون ببعضهم بعضاً يمكنهم التعامل بأمان.

 يتم تحقيق ذلك من خلال آلية تُعرف بإثبات العمل (PoW)، حيث يقوم عدد لا محدود من الحواسيب (العقد) بحل معضلة رياضية معقدة لإضافة كتلة جديدة إلى البلوك تشين، علماً أن كل كتلة تحتوي على الكثير من المعاملات ضمنها. من خلال جعل هذه العملية والتي تُعرف (بالتعدين) باهظة الثمن من ناحية العمل الكبير والطويل الذي يقوم به الكمبيوتر لحل المعضلة، يقدّم النظام مكافأة لمَن يتوصل إلى الحل أولاً، وبذلك تضمن آلية PoW أن يكون من مصلحة الجميع اللعب وفقاً للقواعد.

اقرأ أيضاً: كيف تتمكن الحكومات من ضبط واستعادة ملايين الدولارات من العملات المشفرة المسروقة؟

  1. الشفافية والسرية معاً: تجمع تكنولوجيا البلوك تشين، كما اقترحها ناكاموتو، بين الشفافية والسرية. فجميع المعاملات شفافة ويمكن تتبعها حتى الوصول إلى أصلها من البداية على سلسلة الكتل (البلوك تشين)، لكن هويات الأطراف المشاركة في المعاملات مخفية خلف العناوين المشفرة الرمزية، فمثلاً ممكن أن يكون عنواني الرمزي المشفّر على هذا النحو (71bd35f74473ebdc8a79f642696373d9e83e73c4df56d3224e1efe9dc743e5ff) وبالتالي يمكن تتبع العمليات الخاصة بهذا الرمز، ولكن لا يمكن معرفة من هو صاحب هذا الرمز، وهذا يوازن بين الحاجة إلى الخصوصية وضرورة المساءلة.
  2. الأمان: أحد أكثر جوانب حل ناكاموتو الابتكارية هو نهجه للأمان، فهيكل البلوك تشين آمن بطبيعته. تحتوي كل كتلة على رمز من الكتلة السابقة تم إنشاؤه من المعلومات الموجودة في الكتلة السابقة، ما يخلق سلسلة مرتبطة. فإذا أراد أحد المحتالين أن يغيّر في أي معلومة موجودة في أي كتلة في السلسلة، سيتعين عليه إعادة حساب الرمز في هذه الكتلة وفي جميع الكتل التي تلي هذه الكتلة، وهو أمر غير عملي من الناحية الحوسبية، وكذلك لا بُدّ من تغيير المعلومات على غالبية الحواسيب الموزعة في أماكن متفرقة (العقد) والتي تحتوي على نسخ من البلوك تشين، حيث إن النسخ عليها متطابقة. هذا يجعل البلوك تشين آمن ويتم بسهولة الكشف عن التلاعب به.

بروتوكول بيتكوين لساتوشي ناكاموتو هو الحل العملي الأول لهذه المشكلات، وأشعل ثورة البلوك تشين. واليوم، تجاوزت تكنولوجيا البلوك تشين حدود استخداماتها في العملات المشفرة بكثير، وتتم الاستفادة منها في العديد من المجالات؛ من إدارة سلاسل الإمداد والتوريد إلى أنظمة التصويت وفي الأنظمة الصحية والتعليمية والمعاملات الحكومية وغيرها، وذلك لتوفير اللامركزية والشفافية وإدارة البيانات الآمنة. وقد خلقت طريقة جديدة للتفكير في كيفية عمل الأنظمة دون الحاجة إلى سلطة مركزية. 

اقرأ أيضاً: ما ملامح المرحلة المقبلة في مجال العملات المشفرة؟

مع ذلك، على الرغم من إمكاناتها، تواجه البلوك تشين تحديات كبيرة مثل القابلية للتوسع واستهلاك الطاقة، وهي مواضيع تخضع للبحث والتطوير المستمر. أمّا المبادئ الأساسية التي وضعتها ورقة البيتكوين وصاحبها ساتوشي ناكاموتو فتظل الأساس في توجيه تطور هذه التكنولوجيا الرائدة.

المحتوى محمي