كيف ستؤثر قضايا حقوق النشر لمنتجات الذكاء الاصطناعي في الإبداع والابتكار؟

6 دقيقة
إبداع
مصدر الصورة: ستيفاني آرنيت/إم آي تي تكنولوجي ريفيو |عمل خاضع للملكية العامة

في الخريف الماضي، في أثناء حضوري اجتماع مجلس الإدارة في أمستردام، كان لدي بضع ساعات فراغ وأجريت زيارة مرتجلة لمتحف فان جوخ. كثيراً ما أستغل وقتي لإجراء زيارات كهذه، وهي ميزة من مزايا رحلات العمل العالمية وأنا ممتن لها. بينما كنت أتجول في صالات العرض، وجدت نفسي أمام لوحة "المحظية" (استناداً إلى عمل الفنان الياباني آيزن) التي رسمت عام 1887. كان فان جوخ قد استوحى رسمها من لوحة يابانية مطبوعة على الخشب للفنان كيساي آيزن، والتي صادفها في مجلة باريس إلوستريه. وقد استنسخ عمل آيزن وأعاد تقديمه بأسلوب صريح، بعد أن أحاطه بحدود زاهية رسم فيها الضفادع وطيور الكركي والخيزران.

وبينما كنت واقفاً هناك، تخيلت اللوحة على أنها نتاج نموذج ذكاء اصطناعي توليدي مدفوعاً بالسؤال التالي: كيف يمكن لفان جوخ أن يعيد تقديم لوحة خشبية يابانية بأسلوب كيساي آيزن؟ وتساءلت: لو كان فان جوخ قد استخدم أداة الذكاء الاصطناعي هذه لتحفيز خياله، هل كان سيكون لدى آيزن -أو ورثته- حجة قوية لإقامة دعوى قانونية؟ لو كان فان جوخ يعمل اليوم، ربما كان الأمر كذلك. قبل عامين، وجدت المحكمة العليا في الولايات المتحدة أن أندي وارهول قد انتهك حقوق التأليف والنشر للمصورة لين غولدسميث باستخدام صورتها للموسيقار المعروف باسم "برنس" في سلسلة من اللوحات الحريرية. وقالت المحكمة إن الأعمال لم تشهد تغييرات جذرية بما فيه الكفاية لتمثل استخداماً عادلاً، وهو بند في القانون يسمح للآخرين بالاستخدام المحدود للمواد المحمية بموجب حقوق التأليف والنشر.

اقرأ أيضاً: مَن يمتلك حقوق الملكية الفكرية في الإنتاج المعرفي للنماذج اللغوية؟

بعد بضعة أشهر، زرت معرضاً لسلفادور دالي في متحف الفنون الجميلة في مدينة بوسطن. لطالما اعتبرت دالي عبقرياً أصيلاً حقيقياً يستحضر الرؤى السريالية من العدم. لكن المعرض تضمن العديد من النقوش الهولندية، بما في ذلك لوحة "الخطايا السبع المميتة" (1558) للفنان بيتر بروخل الأكبر، التي تأثرت بها لوحة دالي "مجموعة الخطايا الثماني المميتة" (1966) بوضوح. الاختلافات الأسلوبية كبيرة، ولكن لا يمكن إنكار مدى الاستلهام من اللوحة الأصلية. وقد أشار دالي نفسه إلى بروخل بصفته رائداً سريالياً، وشخصاً استفاد من منطق الأحلام نفسه والأشكال الغريبة التي احتفى بها دالي. وفجأة، أصبحت أرى دالي ليس بصفته فناناً أصيلاً فقط، بل أيضاً بصفته فناناً يعيد تقديم الأفكار من جديد. هل كان ينبغي لبروخل أن يشعر بالإطراء لأن دالي اعتمد على عمله، أم كان ينبغي له أن يقاضيه لأنه جعله يبدو "بشعاً وشاذاً"؟

خلال زيارة لاحقة إلى معرض لبيكاسو في ميلانو، صادفت مخططاً تثقيفياً شهيراً لمؤرخ الفن ألفريد بار يبين فيه كيف تطورت الحركات الحداثية كالتكعيبية مقارنة بالتقاليد الفنية السابقة. غالباً ما يعتبر بيكاسو واحداً من أكثر الشخصيات أصالة وتأثيراً في الفن المعاصر، لكن مخطط بار أوضح العديد من الفنانين الذين استقى منهم، غويا وإل غريكو وسيزان والنحاتين الأفارقة. وهذا ما جعلني أتساءل: لو لقمنا أحد نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي بكل هذه المدخلات، هل كان من الممكن أن ينتج أسلوب الفن التكعيبي؟ هل كان من الممكن أن يبتكر أسلوباً فنياً رائعاً غير مسبوق؟

حقوق النشر والإبداع

هذه التجارب -التي توزعت على ثلاث مدن وتمحورت حول ثلاثة من أساطير الفن- شكلت معاً جزءاً من بحث أوسع كنت قد بدأته بالفعل. كنت قد تحدثت مؤخراً مع مؤسس شركة سبوتيفاي، دانيال إيك، عن مدى تقييد قوانين حقوق التأليف والنشر في مجال الموسيقى. حيث تتمتع ترتيبات الأغاني وكلماتها بحماية قانونية تدوم مدة أطول من العديد من براءات الاختراع الخاصة بالأدوية. يعد إيك من رواد هذا النقاش، ولاحظ أن الذكاء الاصطناعي التوليدي ينتج بالفعل مجموعة مذهلة من الأعمال الموسيقية. بعضها جيد، والكثير منها سيئ للغاية. ولكن معظمها يستعير من أنماط الأعمال الفنية الموجودة حالياً وبنيتها التكوينية.

يقاضي الموسيقيون بالفعل بعضهم بعضاً بصورة روتينية بسبب الاستعارة من أعمال سابقة. كيف سيتكيف القانون مع شكل من أشكال الفن الذي يعتمد على الأوامر النصية والأعمال السابقة، والمبني بالكامل استناداً إلى مجموعة من المواد الموجودة؟

ولا تتوقف الأسئلة عند هذا الحد. فكيف يمكن بدقة تحديد هوية من يملك مخرجات النموذج التوليدي؟ هل هو المستخدم الذي صاغ الأوامر النصية؟ هل هو مطور البرمجيات الذي بنى النموذج؟ هل هم الفنانون الذين وفرت أعمالهم البيانات اللازمة لتدريب النموذج؟ هل ستظل القوى الاجتماعية التي لطالما شكلت المكانة الفنية -كالنقاد والقيمين والمشاهير من ذواقي الفن- هي التي تسيطر على هذا النموذج؟ أم هل سيظهر تسلسل هرمي جديد في عصر الذكاء الاصطناعي؟ إذا كان كل فنان يستعير دائماً من الآخرين، فهل إعادة تركيب المحتوى بالطرق التوليدية التي يتبعها الذكاء الاصطناعي مختلفة حقاً؟ وفي مثل هذه الثقافة المشحونة بالتقاضي، إلى متى يمكن لقانون حقوق التأليف والنشر أن يحافظ على شكله الحالي؟ بدأ مكتب حقوق التأليف والنشر الأميركي يعالج القضايا الشائكة المتعلقة بالملكية ويقول إن المخرجات التوليدية يمكن أن تكون محمية بموجب حقوق التأليف والنشر إذا كانت تتضمن حداً كافياً من الجهد البشري في التأليف. ولكنه يحاول اللحاق بالركب في مجال سريع التطور.

اقرأ أيضاً: دليلك لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي دون انتهاك حقوق الملكية الفكرية والنشر

تطور حقوق التأليف والنشر في زمن الذكاء الاصطناعي

وتختلف أساليب الاستجابة لهذا التطور  باختلاف القطاع المعني. فقد أعلنت أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة مؤخراً أن استخدام صانعي الأفلام للذكاء الاصطناعي التوليدي لن يستبعدهم من المنافسة على جائزة الأوسكار، ولن يطلب منهم الإفصاح عن وقت استخدامهم للتكنولوجيا. وقد أدرجت أفلام مشهورة عديدة، بما فيها فيلم "الوحشي" الحائز جائزة الأوسكار، الذكاء الاصطناعي في عمليات الإنتاج.

وفي الوقت نفسه، لا يزال عالم الموسيقى يتصارع مع تعريفاته لمفهوم "الأصالة". ولنأخذ على سبيل المثال الدعوى القضائية الأخيرة ضد إد شيران. ففي عام 2016، رفع ورثة إد تاونسند، المؤلف المشارك لأغنية "Let's Get It On" لمارفين غاي، دعوى قضائية ضده، زاعمين أن أغنية شيران "Thinking Out Loud" قد استنسخت لحن الأغنية السابقة وتناغمها وإيقاعها. عندما وصلت القضية أخيراً إلى المحكمة في عام 2023، أحضر شيران غيتاراً إلى منصة الشهود. وبدأ بعزف التتابع الموسيقي المتنازع عليه المكون من أربعة أوتار -I-iii-i-IV-V- ونسج مزيجاً من الأغاني المبنية على الأساس نفسه. كانت وجهة نظره واضحة: هذه هي الوحدات الأساسية لكتابة الأغاني. بعد مداولات قصيرة، وجدت هيئة المحلفين أن شيران غير مسؤول قانونياً.

وبعد المحاكمة، قال شيران متأملاً ما جرى: "هذه الأوتار هي لبنات بناء مشتركة، لا أحد يمتلكها أو يمتلك طريقة عزفها، بالطريقة نفسها التي لا يمتلك بها أحد اللون الأزرق".

إنه كلام دقيق فعلاً. سواء كان التعبير عن الفن باستخدام الغيتار، أو فرشاة الرسم، أو الخوارزميات التوليدية، فإن الإبداع دائماً ما يبنى على ما سبق.

لا أعتبر هذا المقال عملاً فنياً عظيماً. لكن يجب أن أكون صريحاً، فقد اعتمدت إلى حد كبير على النموذج تشات جي بي تي في أثناء صياغته. بدأت بمخطط تقريبي، وملاحظات كتبتها على هاتفي عندما كنت في صالات العرض ضمن المتاحف التي زرتها، ونصوص من محادثاتي مع بعض الزملاء. حملت نماذج كتابية قديمة لإعطاء النموذج فكرة عن أسلوبي، ثم استخدمت الأداة لصياغة مسودة عملت على مراجعتها مراراً وتكراراً -سواء يدوياً أم بمساعدة محرر للنصوص- على مدى عدة أسابيع.

ربما لا تزال ثمة عبارات أو جمل في هذا المقال مستمدة مباشرة من النموذج. لكنني كررت عملية المراجعة مرات كثيرة لدرجة أنني لم أعد أميزها. ولا أظن أنه يمكن لأي قارئ -أو أي أداة تكشف عمل الذكاء الاصطناعي- أن يعرفها. (في الواقع، وجدت أداة غرامرلي أن هذا النص لا يبدو أنه من إنتاج الذكاء الاصطناعي على الإطلاق)

لا يزال الكثير من الناس اليوم غير مرتاحين لاستخدام هذه الأدوات. إذ يخشون أن يكون ذلك نوعاً من أنواع الغش، أو يشعرون بالحرج من الاعتراف بأنهم طلبوا مثل هذه المساعدة. لقد تجاوزت ذلك، وأفترض أن طلابي كلهم في كلية هارفارد للأعمال يستخدمون الذكاء الاصطناعي. أفترض أن معظم الأبحاث الأكاديمية تبدأ بأدبيات مرجعية خضعت للمسح والتجميع بواسطة هذه النماذج. وأفترض أيضاً أن العديد من المقالات التي أقرؤها اليوم في المنشورات الرائدة قد صاغتها، جزئياً على الأقل، الأدوات التوليدية.

 الأدوات تعزز الاحتراف لم لا تستخدمها؟

وما يدفعنا إلى هذا، هو أننا محترفون. والمحترفون يتبنون الأدوات التي تعزز الكفاءة في وقت مبكر. ينضم الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى سلسلة طويلة من الأدوات تشمل معالج النصوص، ومحركات البحث، وأدوات التحرير مثل غرامرلي. لم يعد السؤال المطروح هو "من يستخدم الذكاء الاصطناعي بعد الآن؟" بل "لماذا لا تستخدمه أنت؟".

أنا أدرك الحجة المعارضة التي طرحها الرئيس التنفيذي لمجلة ذي أتلانتيك، نيكولاس طومسون، وهي أن المحتوى الذي ينتجه البشر بمساعدة الذكاء الاصطناعي لا يستحق الحماية بموجب حقوق التأليف والنشر، لأنه يطمس حدود التأليف. أتفهم هذه الحجة، فالذكاء الاصطناعي يعيد تجميع مجموعة كبيرة من الأعمال الموجودة مسبقاً، وقد تبدو النتائج غير أصيلة أو تحمل طابعاً شبيهاً بأسلوب الآلة.

ولكن عندما أتأمل تاريخ الإبداع -فان جوخ يعيد صياغة أعمال آيزن، ودالي ينقل عن بروغل، وشيران يدافع عن الحمض النووي الموسيقي المشترك- أتذكر أن إعادة التركيب كانت دائماً جوهر الإبداع. فقد كتب خبير الاقتصاد، جوزيف شومبيتر، مقولته الشهيرة إن الابتكار لا يتعلق بالاختراع بقدر ما يتعلق بـ "إعادة تجميع الأفكار الموجودة بطريقة مبتكرة". لو حاولنا تتبع كل عمل مؤثر من الأعمال السابقة وتحديد ملكيته، لتسببنا بإيقاف الإبداع تماماً.

اقرأ أيضاً: مَن يملك حقوق ملكية الأعمال الفنية التي يولّدها الذكاء الاصطناعي؟

كنت أعلم منذ البداية أن هذه الأدوات تنطوي على إمكانات قادرة على إحداث تغيير جذري. لكن ما استهنت به هو مدى سرعة انتشارها في مختلف القطاعات وفي عملي اليومي.

لم يشترط نظام حقوق التأليف والنشر لدينا أصالة مطلقة، بل يتطلب مساهمة بشرية فعالة. يجب تطبيق هذا المعيار في عصر الذكاء الاصطناعي أيضاً. فعندما يتفاعل الناس مع هذه النماذج بطريقة مدروسة وواعية -اختيار الأوامر النصية وتنسيق المدخلات وصياغة النتائج- فإنهم يبدعون. لقد تغيرت الوسيلة، ولكن يبقى الدافع هو نفسه: بناء شيء جديد من المواد التي نرثها.

المحتوى محمي