كشفت شركة أوبن أيه آي (OpenAI) في شهر مارس/آذار من العام الحالي عن الإصدار الجديد من نموذجها اللغوي الكبير جي بي تي 4 (GPT-4)، ومن المثير للاهتمام أن الشركة جعلته متاحاً على الفور للجمهور من خلال خدمة الاشتراك المدفوعة تشات جي بي تي بلس (ChatGPT+)، ويقدّم النموذج الجديد مجموعة من التحسينات مقارنة بالإصدارات السابقة.
يتضمن ذلك المزيد من الإبداع والمعالجة الأكثر تقدماً، والأداء الأقوى عبر لغات متعددة، والقدرة على قبول الإدخال المرئي، والقدرة على التعامل مع المزيد من النصوص بشكلٍ ملحوظ، ولكن لماذا فشل حتى الآن في تقليد السلوك البشري؟
جي بي تي 4: تطور مهم حتى الآن ولكنه ليس ثورياً
على الرغم من أن التقرير الفني لنموذج جي بي تي 4 لا يقدّم أي تفاصيل حول كيفية تطويره، فإن الدلائل جميعها تشير إلى أنه في الأساس نسخة موسعة من الإصدار السابق جي بي تي 3.5 (GPT 3.5) مع تحسينات تتعلق بالسلامة، وبمعنى آخر لا يعتبر النموذج جديداً بالكامل، وليس اختراقاً ثورياً في أبحاث الذكاء الاصطناعي.
حيث ذكرت تقارير متعددة أن الإصدار الجديد يخضع للقيود نفسها التي تخضع لها النماذج اللغوية الكبيرة السابقة، بما في ذلك أنه لا يقدّم دائماً مخرجات موثوقة مثل إنتاجه ردوداً متحيزة واختلاق معلومات كاذبة، ومع ذلك تشير نتائج العديد من الاختبارات التي أجرتها جهات خارجية إلى أن نموذج جي بي تي 4 أكثر موثوقية على الأقل من النماذج السابقة.
بالإضافة إلى ذلك، استخدمت شركة أوبن أيه آي ردود الفعل البشرية لضبط نموذج جي بي تي 4 لإنتاج مخرجات أكثر فائدة وأقل جدلاً، حيث يعد النموذج الآن أفضل بكثير في رفض الطلبات غير المناسبة وتجنب المحتوى الضار مقارنة بالنماذج الأولى.
اقرأ أيضاً: جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي تغيّر مشهد النماذج اللغوية الكبيرة في المنطقة
تفوّق جي بي تي 4 على البشر أصبح ملحوظاً ولكن في مهام معينة فقط
وفقاً للعديد من الدراسات، يتفوق نموذج جي بي تي-4 على البشر في مهام معينة؛ مثل تصنيف البيانات والإجابة عن الأسئلة الواقعية، ومع ذلك من المهم الإشارة إلى أنه لا يزال قيد التطوير وليس قادراً دائماً على التفوق على البشر في المهام جميعها.
على سبيل المثال، تبين أن نموذج جي بي تي 4 يواجه صعوبة في أداء المهام التي تتطلب المنطق السليم أو فهماً عميقاً للعالم وتعقيداته، بالإضافة إلى ذلك قد يكون النموذج متحيزاً في بعض الأحيان في مخرجاته ما يعكس التحيزات الموجودة في البيانات التي دُرِّب عليها.
فيما يلي بعض الأمثلة للمهام المعينة التي أثبت جي بي تي 4 تفوقه فيها على البشر:
- في دراسة أجراها باحثون من جامعة مونتانا الأميركية توافَق نموذج جي بي تي 4 مع أفضل 1% من المفكرين البشريين في اختبارات تورانس للتفكير الإبداعي، متجاوزاً أداء الإنسان في مقاييس الطلاقة والمرونة والأصالة، وهو ما يشير إلى أن النموذج يمتلك معالجة متطورة لعمليات التفكير البشري ويمكنه توليد أفكار إبداعية تنافس أفكار البشر.
- في دراسة نشرت في مجلة ساينتفيك ريبورتس (Scientific Reports)، قُيّم أداء نموذج جي بي تي 4 في الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بأخلاقيات الطب والمهارات الشخصية، وقد أظهر النموذج الجديد أداءً فائقاً حيث أجاب بشكلٍ صحيح على 90% من الأسئلة، ما يشير إلى أن النموذج الجديد يمكنه فهم المعضلات الأخلاقية المعقدة بشكلٍ فعّال وتقديم استجابات متعاطفة ما يمكن أن يساعد المهنيين الطبيين على رعاية المرضى بشكلٍ أفضل.
- في محاكاة اختبار المحامين، حلّ النموذج جي بي تي 4 بين أفضل 10% من المتقدمين للاختبار، ما يشير إلى إمكاناته في فهم المفاهيم القانونية وتطبيق المنطق القانوني لحل المشكلات المعقدة.
- نموذج جي بي تي 4 يتفوق في إنشاء تنسيقات نصية إبداعية متنوعة، بما في ذلك القصائد والرموز والنصوص والمقطوعات الموسيقية ورسائل البريد الإلكتروني والرسائل، ما يُسلّط الضوء على قدرته في التكيُّف مع أساليب الكتابة المختلفة وإنتاج المحتوى الإبداعي.
اقرأ أيضاً: قدرات غير متوقعة «تنبثق» من النماذج اللغوية الكبيرة
على الرغم من هذه الإمكانات المتطورة لماذا فشل جي بي تي 4 في التفوق على البشر؟
إذا كانت القدرة المعرفية البشرية عبارة عن مشهد طبيعي فقد استولى الذكاء الاصطناعي بشكلٍ متزايد على مساحات كبيرة من هذه المنطقة، حيث يمكنه الآن أداء العديد من المهام المعرفية المنفصلة بشكلٍ أفضل من البشر في مجالات مثل الرؤية، والتعرف على الصور، والتفكير، وفهم القراءة، وممارسة الألعاب، ومن المحتمل أن تؤدي مهارات الذكاء الاصطناعي المتطورة هذه إلى إعادة ترتيب جذرية لسوق العمل العالمي في أقل من عشر سنوات.
تكشف الاختبارات المقدمة من شركة أوبن أيه آي ومراكز الأبحاث أن النموذج اللغوي الكبير جي بي تي 4 أصبح قادراً بالفعل على أداء العديد من المهام المعقدة مثل تفسير الصور بناءً على المدخلات المرئية، ومن الممكن أن توفّر هذه القدرة للنموذج صورة أكثر شمولاً لكيفية عمل العالم، تماماً كما يكتسب البشر المعرفة المعززة من خلال المراقبة.
وبصورة عامة يُعتقد أن هذا عنصر مهم لتطوير الذكاء الاصطناعي المتطور الذي يمكنه سد الفجوة بين النماذج الحالية والذكاء على المستوى البشري، ومع ذلك يبدو من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن تتفوق النماذج اللغوية الكبيرة مثل جي بي تي 4 على القدرات البشرية، وهذا يعود إلى العديد من العوامل منها:
1- الذكاء البشري معيار معقد
تُتيح النماذج اللغوية الكبيرة مثل جي بي تي 4 إنشاء نصوص شبيهة بالنص البشري من خلال التنبؤ بناءً على المطالبات التي يدخلها الإنسان، وتأتي إجاباتها متوافقة مع المدخلات التي دُرِّب عليها وتشمل مجموعات ضخمة من البيانات، ما يمكّنها من الإجابة عن الأسئلة وكتابة المقالات وحتى كتابة التعليمات البرمجية، ومع ذلك فإن وظيفتها متجذرة في التعرف على الأنماط والتحليل الإحصائي بدلاً من الفهم الواعي.
بينما من ناحية أخرى فإن الذكاء البشري معقد ويشمل قدرات عاطفية واجتماعية وإبداعية إلى جانب حل المشكلات وخفة الحركة في التعلم، وهو بناء ديناميكي متعدد الأوجه لا يستطيع الذكاء الاصطناعي حتى الآن محاكاته بشكلٍ كامل، حيث يتفوق البشر في المجالات التي تتطلب حكماً دقيقاً وتعاطفاً واعتبارات أخلاقية، وهي المجالات التي لا يعمل فيها جي بي تي 4.
اقرأ أيضاً: أوبن أيه آي: «جي بي تي-4» تمكن من تخطي اختبار «كابتشا»
2- محدودية الوصول إلى الحس السليم
يعاني نموذج جي بي تي 4 بصورة واضحة صعوبة في فهم وتطبيق المعرفة السليمة، وهو أمر بالغ الأهمية للتنقل في العالم الحقيقي واتخاذ قرارات مستنيرة، وفي حين أنه يمكنه الوصول إلى كميات هائلة من المعلومات فإنه غالباً ما يفتقر إلى القدرة على دمج هذه المعلومات وتطبيقها بطريقة مجدية.
3- معضلة الفهم الدقيق للغة
يمكن لنموذج جي بي تي 4 إنشاء نصوص تضاهي الجودة البشرية لكنه غالباً ما يفشل في فهم الفروق الدقيقة في اللغة، وهذا يمكن أن يؤدي إلى سوء الفهم والتفسيرات الخاطئة، أو إنشاء نص غير صحيح أو لا معنى له أو غير حقيقي، وهو ما يُطلق عليه الهلوسة في النماذج اللغوية الكبيرة (Hallucinations in Large Language Models).
4- الحس الإبداعي المحدود
يمكن أن ينتج نموذج جي بي تي 4 ردوداً وتنسيقات نصية إبداعية لمجموعة واسعة من المجالات، مثل إنشاء القصائد وكتابة الأكواد البرمجية بناءً على النص وتأليف المقطوعات الموسيقية وإنشاء رسائل البريد الإلكتروني بأنواعها كافة، لكن إبداعه يقتصر إلى حد كبير على إعادة ترتيب الأنماط الحالية وإعادة تجميعها، حيث يفتقر إلى القدرة على توليد أفكار أو مفاهيم أصلية.
اقرأ أيضاً: ما هو «جي بي تي-4»؟ ولماذا قد يمثل علامة فارقة في تاريخ الذكاء الاصطناعي؟
5- الاستدلال المجرد
يمكن أن يُبلي نموذج جي بي تي 4 بلاءً حسناً في المهام التي تتضمن معلومات محددة وتفكيراً منطقياً، لكنه يواجه صعوبات في التعامل مع المفاهيم المجردة والأسئلة الفلسفية، حيث إنه يفتقر إلى القدرة على التفكير بعمق وبطريقة نقدية حول ما يحصل في العالم.
6- الافتقار إلى التجسيد والوعي
جي بي تي 4 هو نموذج حسابي بحت يفتقر إلى التجسيد المادي وتجارب العالم الحقيقي، وهذا الأمر يحد من قدرته على الفهم والتفاعل مع العالم المادي بالطريقة نفسها التي يفعلها البشر، بالإضافة إلى أنه ليس كياناً واعياً، بمعنى أنه ليست لديه تجارب أو مشاعر ذاتية ويفتقر إلى القدرة على الاستبطان أو التفكير في وجوده.
اقرأ أيضاً: الذكاء الاصطناعي لا يهدد وظيفتك بالضرورة لكنه سيغيرها
7- قابلية التحيز وتقديم معلومات خاطئة
تُدَّرب النماذج اللغوية الكبيرة مثل جي بي تي 4 على مجموعات بيانات ضخمة تُجمع عبر الإنترنت والتي يمكن أن تتضمن معلومات خاطئة كتبها البشر أنفسهم، وهذا يمكن أن ينعكس في إجاباته التي يمكن أن تعكس أو تُضخِّم التحيزات المجتمعية القائمة، أو تنتج نصوصاً تمييزية أو مسيئة أو خاطئة.
اقرأ أيضاً: أداة ذكاء اصطناعي جديدة لحماية النماذج اللغوية الكبيرة من الأوامر الضارة
8- التعلم المحدود والقدرة على التكيُّف
يستطيع نموذج جي بي تي 4 التعلم والتكيُّف وتقديم معلومات جديدة بناءً على بيانات التدريب التي تتم تغذيته بها، ولكن هذه العملية قد تكون بطيئة ومقيدة نسبياً مقارنة بالتعلم البشري، ومن ثَمَّ قد يواجه صعوبة في التعلم من التجارب أو المواقف الجديدة التي تقع خارج نطاق بيانات التدريب الخاصة به.