يمثل الدماغ البشري أعجوبة هندسية، فهو يحتوي 86 مليار عصبون تنتشر بينها 100 تريليون وصلة تقريباً لبناء شبكة معقدة للغاية، ومن المفارقات أنها تحير العقل الذي يعتمد عليها للعمل.
مؤخراً، نشر بعض العلماء أدق الخرائط حتى الآن لجزء صغير من الدماغ، وهو عينة صغيرة من أنسجة الدماغ بحجم مليمتر مكعب واحد. وقد بلغ حجم البيانات الناتجة 1,400 تيرابايت. (لو بنى العلماء خريطة للدماغ البشري بأكمله، لبلغ حجم قاعدة البيانات 1 زيتابايت بالكامل (10 مرفوعة إلى القوة 21 من البايتات) أي مليار تيرابايت؛ وهو ما يكافئ تقريباً الحجم الإجمالي للمحتوى الرقمي المتولد خلال عام واحد على مستوى العالم). هذه الخريطة ليست سوى واحدة فقط من خرائط عديدة ظهرت في الأخبار خلال السنوات الأخيرة. (سبق لي أن كتبتُ عن خريطة دماغية أخرى العام الماضي). ولهذا؛ رأيت أننا يمكن أن نطلع على بعض الطرائق التي اتبعها الباحثون لإعداد هذه الخرائط والأساليب المأمولة لاستخدامها.
اقرأ أيضاً: بماذا تفوقت نيورالينك على غيرها من المنافسين في تطوير رقاقتها الدماغية؟
بعض الطرائق التي اتبعها الباحثون لإعداد خرائط الدماغ
لطالما حاول العلماء وضع خريطة للدماغ منذ أن بدؤوا يدرسونه. وقد وضع مختص التشريح كوربينيان برودمان إحدى أشهر الخرائط الدماغية. ففي بداية القرن الماضي، اقتطع شرائح من الدماغ ولوّنها لتسليط الضوء على بنيتها، ورسم الخرائط يدوياً؛ حيث تركز عمله على 52 منطقة مختلفة مقسّمة وفقاً لكيفية تنظيم العصبونات فيها. يقول مختص علم الأعصاب الحاسوبي في معهد ألين لعلم الدماغ (Allen Institute for Brain Science)، مايكل هاوريليتش: "لقد استنتج بالتأكيد أن هذه المناطق تتولى مهام مختلفة؛ لأن تراكيب أنماطها التلوينية مختلفة". ما زالت الإصدارات المحدثة من خرائطه قيد الاستخدام حتى اليوم. يقول هاوريليتش: "تمكنا بفضل استخدام التكنولوجيا الحديثة من إضافة قدرات كبيرة إلى عملية رسم الخرائط". وقد شهدنا على مدى العقدين الماضيين عدداً كبيراً من مشروعات رسم الخرائط الدماغية الضخمة التي حظيت بتمويل كبير.
فقد صدرت خريطة بيغ براين (BigBrain) في 2013، وهي تمثل عرضاً ثلاثي الأبعاد لدماغ متبرعة واحدة تبلغ من العمر 65 عاماً. ولبناء هذا الأطلس، شرّح الباحثون الدماغ إلى أكثر من 7,000 شريحة، والتقطوا صوراً دقيقة لكل منها، واستخدموا هذه الشرائح لبناء نموذج ثلاثي الأبعاد. في مشروع هيومان كونيكتوم (Human Connectome Project)، أجرى الباحثون عمليات مسح بآلات التصوير بالرنين المغناطيسي لأدمغة 1,200 متطوع لوضع خريطة للوصلات البنيوية والوظيفية المنتشرة في الدماغ. يقول هاوريليتش: "لقد تمكنوا من وضع خريطة للمناطق المحفزة في الدماغ في أوقات مختلفة وخلال نشاطات مختلفة".
التصوير الخارجي يوفر بيانات قيّمة لكنها منخفضة الدقة
يتيح هذا النوع من التصوير الخارجي غير الباضع الحصول على بيانات قيمة؛ لكن "دقته منخفضة للغاية" كما يضيف. ويوضح قائلاً: "فالعناصر الثلاثية الأبعاد، أو البيكسلات الثلاثية الأبعاد المسماة "الفوكسلات" (Voxels)، يتراوح مقاسها من مليمتر واحد إلى 3 مليمترات". ثمة مشاريع أخرى أيضاً، فمشروع المسرع الدوراني التزامني الضوئي لأبحاث علم الأعصاب (The Synchrotron for Neuroscience) التابع للمؤسسة الاستراتيجية في آسيا والمحيط الهادي، والذي يُعرف اختصاراً باسم "سينابس" (SYNAPSE)، يسعى إلى وضع خريطة لوصلات الدماغ البشري بأسره بدقة عالية للغاية من خلال التصوير المجهري بالأشعة السينية الذي يعتمد على المسرع الدوراني التزامني. أما أطلس الدماغ البشري إيبراينز (EBRAINS) فيحتوي معلومات حول تشريح الدماغ ووصلاته العصبية ووظائفه.
اقرأ أيضاً: الذكاء الاصطناعي قد يؤدي لأخطاء كارثية في التشخيص الطبي الشعاعي
يمثل العمل الذي كتبت عنه العام الماضي جزءاً من مبادرة أبحاث الدماغ من خلال تطوير التكنولوجيات العصبية المبتكرة التي تسمى اختصاراً "براين" (BRAIN) والتي أُطلِقَت في 2013 والممولة اتحادياً بقيمة 3 مليارات دولار. في هذا المشروع الذي يقوده معهد ألين لعلم الدماغ؛ الذي طور عدداً من الأطالس الدماغية، يعمل الباحثون على تطوير قائمة أجزاء توضح بالتفصيل المجموعة الهائلة من الخلايا في الدماغ البشري، وذلك عن طريق دراسة السلاسل الجينية للخلايا الإفرادية من أجل تفحص التعبير الجيني. تمكن الباحثون حتى الآن من تحديد أكثر من 3,000 نوع من الخلايا الدماغية، ويتوقعون العثور على أنواع أخرى كثيرة فيما يواصلون عملهم على مسح أجزاء إضافية من الدماغ.
بُنيت الخريطة الأولية بالاعتماد على الأنسجة الدماغية المأخوذة من متبرعين اثنين فقط. وفي السنوات المقبلة، سيضيف الفريق عينات مأخوذة من المئات من المتبرعين الآخرين. قد يبدو وضع خريطة لأنواع الخلايا الموجودة في الدماغ مهمة واضحة لا تنطوي على تعقيدات تستحق الذكر؛ لكنها ليست كذلك، فقد كانت أول عقبة واجهها الباحثون اتخاذ قرار حول كيفية تعريف نوع الخلية.
لماذا تعد عملية رسم خريطة للدماغ عمليةً معقدة؟
يحلو لعالم الأعصاب في جامعة ميريلاند، سيث أمينت، أن يعدد لطلاب الدراسات العليا لديه في مجال علم الأعصاب الطرق المختلفة كلها التي يمكن من خلالها تعريف الخلايا الدماغية وتصنيفها، وذلك وفقاً لشكلها، أو وفقاً لطريقة إطلاقها للسيالات العصبية، أو وفقاً لنشاطها المقترن بسلوكيات معينة. غير أنه من المحتمل أن يكون التعبير الجيني مفتاح حل اللغز الذي كان باحثو الدماغ يبحثون عنه، كما يقول: "إذا نظرنا إلى الخلايا من منظور الجينات النشطة ضمنها فقط، فهذا يحقق اقتراناً شبه مثالي مع الخصائص الأخرى كلها التي تميز هذه الخلايا". ويضيف قائلاً إن هذا الاكتشاف هو الأروع من بين أطالس الخلايا كلها.
لطالما افترضت أن الهدف من وراء هذه الأطالس كلها هو تحسين فهمنا للدماغ. لكن عالم الأعصاب في جامعة هارفارد، جيف ليتشمان، لا يعتقد أن كلمة "فهم" هي الكلمة المناسبة لهذا السياق. فهو يحلو له أن يشبه محاولة فهم الدماغ البشري بمحاولة فهم مدينة نيويورك. إنه أمر مستحيل. ويقول: "ثمة الملايين من الأشياء التي تحدث في الوقت نفسه، وكل شيء يعمل ويتفاعل بطرائق مختلفة؛ إنه أمر معقد للغاية".
اقرأ أيضاً: ما مخاطر غرس شريحة نيورالينك في الدماغ وما أبرز تطبيقاتها؟
لكن، كما تبين هذه الورقة البحثية الأحدث؛ من الممكن وصف الدماغ البشري بتفاصيل دقيقة للغاية. يقول ليتشمان: "إن وجود توصيف وافٍ يعني، ببساطة، أن النظر إلى الدماغ لم يعد مدعاة للدهشة". غير أن هذه المرحلة ما زالت بعيدة، فالبيانات التي نشرها ليتشمان وزملاؤه مؤخراً مليئة بالمفاجآت، وثمة مفاجآت كثيرة أخرى تنتظر من يكتشفها.