هل جائحة الرنين التي ضربت المملكة المتحدة جيدة أم سيئة؟

6 دقائق
جائحة الرنين تضرب المملكة المتحدة
مصدر الصورة: يوي موك/ برس أسوسييشن عبر صور أسوشييتد برس

كان أوسكار ماونج هايلي، البالغ من العمر 24 عاماً، يعمل بدوام جزئي في إحدى مقاهي مدينة مانشستر بإنجلترا عندما رن هاتفه فجأة. كان تطبيق "خدمة الاختبار والتتبع الوطني" (Test and Trace app) الذي أطلقته هيئة الخدمات الصحية الوطنية في المملكة المتحدة (NHS) يحذره من أنه يحتمل أن يكون قد تعرض للإصابة بكوفيد-19 ويحتاج إلى عزل نفسه. أثار هذا النبأ المشاكل على الفور. يقول هايلي: "وثب الناس بشكل جنوني من المكان، وظهر مديري قائلاً إنني يجب أن أنصرف".

كان هذا التنبيه واحداً من مئات الآلاف من التنبيهات التي يتم إرسالها أسبوعياً فيما تكافح المملكة المتحدة أحدث موجة من موجات فيروس كورونا، ما يعني أن المزيد من الناس يواجهون نفس الصعوبات اللوجستية والعاطفية والمالية. وتشير التقديرات إلى أن واحداً من كل خمسة أشخاص قد لجأ إلى حذف التطبيق تماماً؛ ففي نهاية المطاف لا يمكن أن تتلقى إشعاراً ما لم يكن التطبيق على هاتفك. وقد أطلق مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي على هذه الظاهرة اسم "جائحة الرنين" (pingdemic)، حيث يُلقى عليها باللوم في كل شيء؛ بدءاً من النقص في الغاز الطبيعي إلى رفوف المتاجر الخاوية.

يعكس هذا العدد الكبير من الإشعارات تصادم العديد من المستجدات التي وقعت في آن واحد. فقد اجتاحت سلالة دلتا -التي يبدو أن انتشارها أسهل بكثير من باقي السلالات- جميع أنحاء المملكة المتحدة. وفي الوقت نفسه، قامت أعداد قياسية من البريطانيين بتحميل التطبيق الذي أطلقته هيئة الخدمات الصحية الوطنية. وفي غضون ذلك، رفعت المملكة المتحدة العديد من قيود الإغلاق التي كانت تفرضها، لذا زاد الاختلاط بين الأشخاص أكثر مما كان عليه في السابق. وبالطبع، فإن تزايد الإصابة بالعدوى وتزايد مستخدمي التطبيق وتزايد الاختلاط لا يعني سوى تزايد عدد مرات الرنين. 

بيد أن إيموجين باركر مديرة السياسات في معهد آدا لوفلايس، والمتخصصة في مجال الذكاء الاصطناعي والسياسات المتعلقة بالبيانات، تقول إن هذا هو ما يفترض بالتطبيق أن يفعله تماماً. بل إنه -وبالرغم من إرسال هذا الكم الكبير من الإشعارات- لا تزال هناك العديد من حالات الإصابة التي لا يلتقطها النظام. 

وتضيف باركر: "على مدار الأسبوع الذي بدأ في 8 يوليو الماضي، طلبت هيئة الخدمات الصحية الوطنية -عبر تطبيق كوفيد-19- من أكثر من 600 ألف شخص في إنجلترا وويلز عزل أنفسهم، وهو ما يزيد قليلاً عن ضعف عدد الحالات الإيجابية الجديدة التي تم اكتشافها في نفس تلك فترة. وبالرغم من المخاوف التي ساورتنا إزاء مسوغات تطبيق تتبع الاحتكاك، إلا أن انتقاده بسبب "جائحة الرنين" هو انتقاد في غير محله، فالتطبيق يعمل أساساً كما كان دائماً".

من جانبه، يقول كريستوف فريزر عالم الأوبئة في معهد البيانات الضخمة بجامعة أكسفورد -المعهد الذي أجرى أهم الدراسات حول فعالية التطبيق- إنه بالرغم من أن التطبيق يؤدي الغرض الذي صُمم من أجله، إلا أن هناك مشكلة أخرى: حدث تفسخ ملحوظ في العقد الاجتماعي. وأضاف "يمكن للناس أن يروا -على شاشة التلفزيون- أن ثمة حفلات صاخبة تُقام وأن النوادي الليلية مستمرة في العمل. فلماذا يطلب مني إذن البقاء في المنزل؟ ولنكون صادقين، هذا سؤال وجيه". 

ويشير فريزر إلى أن هذا الافتقار إلى قواعد واضحة وعادلة يؤدي إلى إحباط واسع النطاق عندما يُطلب من الناس عزل أنفسهم. وكما رأينا طوال فترة انتشار الجائحة، فإن تكنولوجيا الصحة العامة تتشابك بشكل وثيق مع كل ما يحدث حولها، بدءاً بطريقة تسويقها، مروراً بطريقة الحديث عنها في وسائل الإعلام، والطريقة التي يتناولها بها طبيبك المعالج، وانتهاءً بالطريقة التي تحصل (أو لا تحصل) بها على الدعم من المشرعين. 

ويضيف: "يريد الناس أن يفعلوا الشيء الصحيح. لذا، ينبغي أن نساعدهم في منتصف الطريق".

كيف وصلنا إلى هذه المرحلة؟

كانت التطبيقات التي تتيح للمستخدمين تلقي إشعارات التعرض أحد التكتيكات الرقمية الرائدة في مجال الصحة العامة أثناء الجائحة. وقد صمدت بالفعل في وجه الانتقادات الكثيرة التي وجهها أولئك الذين يقولون إنها لم تُستغل بالقدر الكافي. وقد طورت عشرات الدول تطبيقات لتنبيه المستخدمين لاحتمالية تعرضهم لعدوى كوفيد، وتشاركت التعليمات البرمجية فيما بينها، واستخدمت الإطار الذي طورته شركتي جوجل وأبل بشكل مشترك. ولكن في خضم الانتقادات التي أثيرت حول المخاوف على الخصوصية ومواطن الخلل التقني، ادعى المنتقدون بأن إطلاق التطبيقات قد تأخر للغاية، بعدما ارتفعت أعداد الحالات بشدة لدرجة لا تسمح لتلك التقنية بعكس اتجاه الأمور.

أليس من المفترض إذن أن تمثل هذه اللحظة -بعدما تم التغلب على الاختلالات التقنية، وارتفعت نسبة تبني التطبيق، وتصاعدت موجة الإصابات الجديدة بشكل حاد- الوقت المناسب لكي يُحدِث التطبيق فرقاً حقيقياً في المملكة المتحدة؟

"لا يشكل العلم الجزء الأكبر من التحدي... التحدي يتعلق بالسلوك. فأصعب مراحل المنظومة هي المراحل التي تحتاج فيها لإقناع الناس للقيام بشيء ما". 

- جيني وانجر، مؤسسة لينكس للصحة العامة

تقول جيني وانجر، التي تقود المبادرات التقنية المتعلقة بكوفيد-19 في مؤسسة لينكس للصحة العامة: لن يحدث هذا ما لم يتبع الناس تعليمات العزل طواعية.

وتضيف أنه بعد مرور 18 شهراً على بداية الجائحة "لا تمثل التكنولوجيا تحدياً في العادة. لا يشكل العلم الجزء الأكبر من التحدي... نحن نعرف في هذه المرحلة كيف ينتقل الفيروس. وإنما التحدي يتعلق بالسلوك. فأصعب مراحل المنظومة هي المراحل التي تحتاج فيها لإقناع الناس للقيام بشيء ما، وذلك استناداً إلى أفضل الممارسات بالطبع". 

ويقول فريزر من جامعة أكسفورد إنه يفكر في الأمر من منظور الحوافز. فبالنسبة إلى الشخص العادي، لا تبدو حوافز الالتزام بقواعد تتبع الاحتكاك -الرقمية أو غير الرقمية- منطقية دائماً. 

إذا كانت نتيجة استخدام التطبيق هي أن "ينتهي بك الأمر في الحجر الصحي، بينما جارك الذي لم يقم بتثبيت التطبيق لا يخضع للحجر، فلن تشعر بأن الأمر عادل بالضرورة، أليس كذلك؟"

ولتزداد الأمور تعقيداً، أعلنت المملكة المتحدة أنها على وشك تغيير قواعدها. ففي منتصف شهر أغسطس الجاري لن يحتاج الأشخاص الذين تلقوا جرعتين من اللقاح إلى عزل أنفسهم بسبب التعرض لكوفيد، وإنما سيتوجب عليهم القيام بذلك فقط في حال كانت نتيجة اختبارهم إيجابية. وقد تلقي حوالي نصف السكان البالغين في البلاد اللقاح بشكل كامل بالفعل.

ويرى فريزر أن هذه قد تكون اللحظة المناسبة لجعل الحوافز أكثر اتساقاً مع ما قد يرغب الناس في القيام به، مضيفاً: "ربما ينبغي أن تتاح للناس إمكانية إجراء الاختبار حتى يتمكنوا من الاستمرار في الذهاب إلى العمل ومواصلة حياتهم، بدلاً من عزل أنفسهم لعدة أيام".

وفي غضون ذلك، شجعت حفنة من قادة الشركات -مثل أحد رؤساء شركات الطيران منخفض التكلفة- الموظفين على حذف التطبيق لتجنب الرنين. وحتى السياسيان الأقوى في البلاد، وهما رئيس الوزراء بوريس جونسون ومستشار الخزانة ريشي سوناك، حاولا الالتفاف على شرط الخضوع للعزل الذاتي بعدما رن هاتفيهما (قالا إنهما يشاركان في تجربة تدابير بديلة) قبل أن يجبرهما الغضب الشعبي العارم على الالتزام بالحجر الصحي.

عندما تسبب الحماية الارتباك

زادت الرسائل المتضاربة بسبب أدوات حماية الخصوصية التي يحتوي عليها التطبيق. فلا يتم إخبار المستخدمين بهوية الشخص الذي قد يكون أصابهم بالعدوى من بين المخالطين لهم، ولا يتم إخبارهم بمكان حدوث هذا الأمر. بيد أن هذا ليس من قبيل الصدفة، فقد صُممت التطبيقات بهذه الطريقة لحماية معلومات الأشخاص.

ويقول فريزر: "في علم الأوبئة تُعد المراقبة أمراً نبيلاً، ولكن في التكنولوجيا الرقمية الأمر أكثر قتامة.  أعتقد أن بروتوكول الحفاظ على الخصوصية قد حقق التوازن الصحيح، حيث يتوجب على العلم توصيل المعلومات للناس مع الحفاظ على تلك الخصوصية". 

وأياً كان الأمر، فإن أدوات حماية الخصوصية هذه تسبب الآن المزيد من الارتباك.

يعيش أليستر سكوت (38 عاماً) مع خطيبته في شمال لندن. وبالرغم من أن الشريكين قاما بكل شيء معاً خلال فترة الإغلاق، فقد تلقى سكوت مؤخراً إشعاراً يخبره بأنه يجب أن يعزل نفسه، بينما لم تتلق شريكته إشعاراً مماثلاً. ويقول إن الأمر "تحول على الفور إلى لعبة 'لماذا رن هاتفي ولم يرن هاتفك؟'" 

ما الخطوة التالية؟

يقول الخبراء إن هناك بضعة سبل للمضي قدماً، وأحد تلك السبل هو تعديل الخوارزمية: يمكن أن يتضمن التطبيق المعلومات العلمية الجديدة حول طول فترة التعرض للفيروس التي قد تجعل الأمر يستحق إرسال التنبيه حتى لو كنت قد تلقيت اللقاح.  

وتقول باركر من معهد آدا لوفلايس: "يبدو أن الأدلة الجديدة تشير إلى أن التطعيم الكامل يفترض أن يُقلل من خطر انتقال الفيروس من الشخص إلى النصف تقريباً. ويمكن أن يكون لهذا الأمر تأثير كبير على التنبيهات إذا تم تضمينه في النموذج". 

وهذا يعني إمكانية تقليل وتيرة التنبيهات التي يتلقاها الأشخاص الذين حصلوا على اللقاح.

من ناحية أخرى، تقول وانجر إن مسؤولي هيئة الخدمات الصحية الوطنية يمكنهم ضبط الإعدادات لتكون أكثر حساسية، لتعكس زيادة خطر انتقال العدوى بالسلالات المختلفة مثل سلالة دلتا. ولكن لا يوجد ما يشير إلى أن هذه التغييرات قد تم إجراؤها حتى الآن.

وتوضح أن المهم في كلتا الحالتين أن يستمر التطبيق في أداء وظيفته.

وتضيف وانجر: باعتبارها هيئة للصحة العامة، تجد نفسها في وضع صعب للغاية، فهي تنظر إلى الحالات التي ترتفع بشكل هائل في البلاد، وتسعى في الوقت نفسه لتحقيق الأهداف الاقتصادية عن طريق رفع قيود الإغلاق. تريد دفع الناس لتغيير سلوكياتهم، ولكن يجب أن تراعي هذا الجانب النفسي بالكامل لتصل إلى نتيجة. فإذا شعر الناس بالإرهاق من الإشعارات، فلن يغيروا سلوكهم.

في غضون ذلك، لا تزال هواتف الناس ترن، ولا يزالون يشعرون بالحيرة، ولا يزالون يتلقون رسائل مختلطة.

قامت شارلوت ويلسون (39 عاماً) وزوجها بتحميل التطبيق على هاتفيهما بمجرد إطلاقه تقريباً. ولكن حدث انقسام داخل الأسرة، لا سيما بعدما شوهد المشرعين وهم يحاولون على ما يبدو الالتفاف على القواعد. وإزاء احتمال أن يُطلب منهما عزل نفسيهما، قالت ويلسون إنها ستتبع النصيحة بينما فكر شريكها بشكل مختلف وحذف التطبيق تماماً. 

وتضيف ويلسون: "قال زوجي [خلال عطلة نهاية الأسبوع] 'هل تعلمين؟ هذا أمر سخيف'".  كما أن التغيير المرتقب في بروتوكول العزل الذاتي جعله يبدو عديم الجدوى بشكل خاص.

ومع ذلك فهي تتفهم وجهة نظره، حتى بالرغم من احتفاظها بالتطبيق على هاتفها. 

وتقول: "أنا لا أعرف حقاً ما هي الإجابة بالنسبة للمجتمع. إننا فقط محاطون بالفيروس". 

تمثل هذه المقالة جزءاً من مشروع تكنولوجيا الجائحة، الذي تدعمه مؤسسة روكفيلر.

المحتوى محمي