ثورة رياضية وصناعية قادمة: ما الذي تغيّره «ألفا إيفولف»؟

6 دقيقة
مصدر الصورة: ستيفاني آرنيت/إم آي تي تكنولوجي ريفيو | روبيكسل

استخدمت شركة جوجل ديب مايند (Google DeepMind) مجدداً نماذج لغوية كبيرة لاكتشاف حلول جديدة لمسائل طال أمدها في الرياضيات وعلوم الكمبيوتر. وقد أظهرت الشركة هذه المرة أن نهجها لا يمكن أن يعالج الألغاز النظرية التي لم تُحل فحسب، بل يمكن أن يحسن مجموعة من العمليات المهمة في العالم الحقيقي أيضاً.

تستخدم الأداة الجديدة من جوجل ديب مايند، التي تُسمى "ألفا إيفولف" (AlphaEvolve)، عائلة "جيميناي 2.0" (Gemini 2.0) من النماذج اللغوية الكبيرة لإنتاج رموز برمجية لمجموعة واسعة من المهام المختلفة. من المعروف أن النماذج اللغوية الكبيرة تُعرف بأنها تصيب وتخطئ في البرمجة. تكمن المفارقة هنا في أن ألفا إيفولف تقيّم كل اقتراح من اقتراحات جيميناي، وتتخلص من السيئ منها وتعدل الجيد منها، في عملية تكرارية، حتى تنتج أفضل خوارزمية ممكنة. في كثير من الحالات، تكون النتائج أكفأ أو أدق من أفضل الحلول الحالية (المكتوبة بواسطة البشر).

 ألفا إيفولف: منظومة وكيلة خارقة للبرمجة

يقول نائب رئيس جوجل ديب مايند، بوشميت كوهلي، الذي يقود فرق الذكاء الاصطناعي للأغراض العلمية: "يمكنك أن تعدها بمثابة منظومة وكيلة خارقة للبرمجة. فهي لا تقترح فقط جزءاً من الرموز البرمجية أو تعديلاً ما فيها، بل تتوصل في الواقع إلى نتيجة ربما لم يكن أحد على علم بها".

وعلى وجه الخصوص، توصلت ألفا إيفولف إلى طريقة لتحسين البرنامج الذي تستخدمه جوجل لتوزيع المهام على خوادمها التي يبلغ عددها بالملايين حول العالم. وتزعم جوجل ديب مايند أن الشركة تستخدم هذا البرنامج الجديد في مراكز بياناتها كافة منذ أكثر من عام، ما أدى إلى تحرير 0.7% من إجمالي موارد الحوسبة التي تستخدمها جوجل. قد لا يبدو ذلك كثيراً، ولكنه ضخم على نطاق شركة جوجل.

أبدى عالم الرياضيات في جامعة ووريك (University of Warwick) في المملكة المتحدة، جاكوب موسباور، إعجابه بهذا الأمر. ويقول إن الطريقة التي تبحث بها ألفا إيفولف عن الخوارزميات التي تنتج حلولاً محددة -بدلاً من البحث عن الحلول نفسها- تجعلها قوية للغاية. ويقول: "إنها تجعل هذا النهج قابلاً للتطبيق على نطاق واسع من المسائل. فالذكاء الاصطناعي يتحول شيئاً فشيئاً إلى أداة أساسية في الرياضيات وعلوم الكمبيوتر". 

تمثل ألفا إيفولف محطة جديدة في مسار العمل الذي دأبت جوجل ديب مايند على اتباعه منذ سنوات. وتتمثل رؤيتها في أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يساعد على تطوير المعرفة البشرية في الرياضيات والعلوم. في عام 2022، طوّرت الشركة ألفا تنسور (AlphaTensor)، وهو نموذج وجد طريقة أسرع لحل عمليات ضرب المصفوفات -ومسألة أساسية في علوم الكمبيوتر- محطمةً بذلك رقماً قياسياً ظل صامداً أكثر من 50 عاماً. وفي عام 2023، كشفت الشركة عن ألفا ديف (AlphaDev)، الذي اكتشف طرقاً أسرع لإجراء عدد من العمليات الحسابية الأساسية التي تجريها أجهزة الكمبيوتر تريليونات المرات في اليوم. يحوّل كل من ألفا تنسور وألفا ديف المسائل الرياضية إلى نوع من الألعاب، ثم يبحثان عن سلسلة من الحركات الرابحة.

اقرأ أيضاً: إليك كلَّ ما تريد معرفته عن أداة إنشاء الأكواد البرمجية Gemini Code Assist من جوجل

 إنتاج برامج بآلاف الأسطر البرمجية

أما النموذج فن سيرش (FunSearch)، الذي صدر في أواخر عام 2023، فقد استعاض عن الذكاء الاصطناعي الذي يلعب الألعاب بالنماذج اللغوية الكبيرة التي يمكنها توليد الرموز البرمجية. ونظراً لأن النماذج اللغوية الكبيرة يمكنها تنفيذ مجموعة من المهام، يمكن للأداة فن سيرش أن تتعامل مع مجموعة متنوعة من المسائل أكبر من الأدوات التي سبقتها، والتي جرى تدريبها على لعب نوع واحد فقط من الألعاب. استُخدمت هذه الأداة لحل مسألة شهيرة لم يسبق حلها في الرياضيات البحتة.

تمثل ألفا إيفولف الجيل الجديد من فن سيرش، فبدلاً من الخروج بمقتطفات قصيرة من الرموز البرمجية لحل مسألة معينة، كما فعلت فن سيرش، يمكنها إنتاج برامج بطول مئات الأسطر. وهذا يجعلها قابلة للتطبيق على مجموعة أكبر بكثير من المسائل.

من الناحية النظرية، يمكن تطبيق ألفا إيفولف على أي مسألة يمكن وصفها باستخدام الرموز البرمجية ولها حلول يمكن تقييمها بواسطة الكمبيوتر. يقول الباحث في جوجل ديب مايند، ماتي بالوغ، الذي يقود فريق اكتشاف الخوارزميات: "تدير الخوارزميات العالم من حولنا، لذا فإن تأثير ذلك كبير".

البقاء للأصلح

إليك كيفية عملها: يمكن أن توجه الأوامر النصية إلى ألفا إيفولف مثل أي نموذج لغوي كبير. أعطها وصفاً للمسألة وأي تلميحات إضافية تريدها، مثل الحلول السابقة، وستطلب من "جيميناي 2.0 فلاش" (Gemini 2.0 Flash) (أصغر وأسرع نسخة من النموذج اللغوي الكبير الرائد الذي تملكه جوجل ديب مايند) توليد كتل متعددة من الرموز البرمجية لحل المسألة.

ثم تأخذ هذه الحلول المرشحة وتنفذها لمعرفة مدى دقتها أو كفاءتها، ثم تعمل على تقييمها وفقاً لمجموعة من المقاييس ذات الصلة. حيث تختبر إن كانت كل كتلة من كتل الرموز البرمجية تقدم النتيجة الصحيحة،  ومدى سرعة تنفيذها مقارنة بالحلول السابقة، وهكذا دواليك.

ثم تأخذ ألفا إيفولف أفضل مجموعة من الحلول الحالية وتطلب من النموذج جيميناي (Gemini) تحسينها. في بعض الأحيان، تعيد ألفا إيفولف إدخال حل سابق إلى المجموعة كي تمنع جيميناي من الوصول إلى طريق مسدود.

عندما تدخل ألفا إيفولف في حالة من الاستعصاء للتوصل إلى حل، يمكنها أيضاً استدعاء النموذج "جيميناي 2.0 برو" (Gemini 2.0 Pro)، وهو أقوى النماذج اللغوية الكبيرة التي طورتها جوجل ديب مايند. تكمن الفكرة في توليد العديد من الحلول باستخدام نسخة "فلاش" الأسرع من غيرها، ولكن مع إضافة حلول من نسخة "برو" الأبطأ عند الحاجة.

تستمر هذه الجولات من التوليد والتقييم والتوليد مجدداً حتى يفشل جيميناي في التوصل إلى أي حل أفضل مما لديه بالفعل.

ألعاب الأرقام

اختبر الفريق ألفا إيفولف على مجموعة من المسائل المختلفة. على سبيل المثال، درسوا مسألة ضرب المصفوفات مجدداً ليقارنوا بين أداء أداة موجهة للأغراض العامة مثل ألفا إيفولف وأداء أداة ألفا تنسور المتخصصة. المصفوفات هي شبكات من الأعداد. وضرب المصفوفات هو عملية حسابية أساسية تدعم العديد من التطبيقات، بدءاً من الذكاء الاصطناعي وصولاً إلى الرسومات الحاسوبية، ومع ذلك لا أحد يعرف أسرع طريقة لتنفيذ هذه العملية الحسابية. يقول بالوغ: "من المذهل أن هذا الأمر لا يزال سؤالاً مفتوحاً".

قدم الفريق إلى ألفا إيفولف وصفاً للمسألة ومثالاً على خوارزمية قياسية لحلها. لم تنتج الأداة خوارزميات جديدة يمكنها حساب 14 حجماً مختلفاً من المصفوفات أسرع من أي نهج موجود فحسب، بل تمكنت أيضاً من تحسين نتيجة ألفا تنسور التي حطمت الرقم القياسي في ضرب مصفوفتين كل منهما مكون من أربعة أسطر وأربعة أعمدة.

يقول بالوغ إن ألفا إيفولف قيّمت 16,000 حل مرشح اقترحها جيميناي للعثور على أفضل حل، لكن هذا لا يزال أكفأ من أداء ألفا تنسور. كما إن حل ألفا تنسور لم ينجح إلا عند ملء المصفوفة بالأصفار والوحدان. في حين أن ألفا إيفولف يمكنه حل المسألة عند استخدام أرقام أخرى أيضاً.

يقول موسباور: "النتيجة التي تحققت في ضرب المصفوفات رائعة للغاية. هذه الخوارزمية الجديدة لديها القدرة على تسريع العمليات الحسابية عملياً".

ويتفق عالم الرياضيات في جامعة يوهانس كبلر (Johannes Kepler University) في مدينة لينتس بالنمسا، مانويل كاورز، مع هذا الرأي: "من المرجح أن يكون للتحسن في المصفوفات أهمية عملية".

الجدير بالذكر، أن كاورز وزميل له تمكنا مؤخراً، وبمحض الصدفة، من استخدام تقنية حسابية مختلفة لاكتشاف بعض عمليات التسريع التي توصلت إليها ألفا إيفولف، وقد نشرا  ورقة بحثية على الإنترنت توضح نتائجهما خلال الثلث الأول من شهر مايو/أيار الحالي.

يقول كاورز: "من الرائع معرفة أننا نحرز تقدماً في فهم ضرب المصفوفات. وكل تقنية تساعد على ذلك تُعد إسهاماً قيّماً".

اقرأ أيضاً: ما هي الموجة الثانية من البرمجة باستخدام الذكاء الاصطناعي التي نعيشها حالياً؟ 

مسائل العالم الحقيقي

كان ضرب المصفوفات مجرد إنجاز واحد فقط. وفي المجمل، اختبرت جوجل ديب مايند ألفا إيفولف على أكثر من 50 نوعاً مختلفاً من الألغاز الرياضية المعروفة، بما في ذلك مسائل في تحليل فورييه (الرياضيات الكامنة وراء ضغط البيانات، وهي أساسية بالنسبة إلى تطبيقات مثل بث الفيديو)، ومسألة الحد الأدنى من التداخل (Minimum Overlap Problem) (مسألة مفتوحة في نظرية الأعداد اقترحها عالم الرياضيات بول إيردوس في عام 1955)، وأعداد التقبيل (Kissing Numbers) (وهي مسألة قدمها إسحاق نيوتن ولها تطبيقات في علوم المواد والكيمياء والتشفير). تمكنت ألفا إيفولف من مطابقة أفضل الحلول الموجودة في 75% من الحالات ووجدت حلولاً أفضل في 20% من الحالات.

ثم استخدمت جوجل ديب مايند الأداة ألفا إيفولف في حل عدد من المسائل الواقعية. وبالإضافة إلى التوصل إلى خوارزمية أكفأ لإدارة الموارد الحاسوبية في مراكز البيانات، وجدت الأداة طريقة لتقليل استهلاك الطاقة في رقاقات وحدة المعالجة تنسور (Tensor Processing Unit) المتخصصة من جوجل.

حتى إن ألفا إيفولف وجدت طريقة لتسريع تدريب جيميناي نفسه، وذلك من خلال إنتاج خوارزمية أكفأ لإدارة نوع معين من العمليات الحسابية المستخدمة في عملية التدريب.

تخطط جوجل ديب مايند لمواصلة استكشاف التطبيقات المحتملة لأداتها. ويتمثل أحد القيود في أنه لا يمكن استخدام ألفا إيفولف في المسائل ذات الحلول التي تحتاج إلى شخص بشري يقيّمها، مثل التجارب المختبرية التي تخضع للتفسير. 

يشير موسباور أيضاً إلى أنه على الرغم من أن ألفا إيفولف قد تُولد نتائج جديدة وباهرة في مجموعة واسعة من المسائل، فإنها لا تقدم سوى القليل من المعلومات النظرية حول كيفية توصلها إلى تلك الحلول، وهذا يمثل عائقاً أمام تطوير الفهم البشري.

ومع ذلك، من المتوقع أن تُحدث أدوات مثل ألفا إيفولف تغييراً جذرياً في طريقة عمل الباحثين. يقول كوهلي: "لا أعتقد أننا انتهينا بعد، فهناك الكثير مما يمكننا تحقيقه في ضوء القدرات الهائلة للنهج الذي نتبعه".

المحتوى محمي