لم يعد القائد في عالم الأعمال السريع اليوم يعتمد على رد الفعل فحسب، بل على الرؤية الاستباقية. وهنا يبرز الذكاء الاصطناعي شريكاً استراتيجياً لا يُقدّر بثمن. تخيل أن تمتلك القدرة على توقع التحديات قبل ظهورها واقتناص الفرص قبل أن تصبح واضحة للجميع. هذه هي القوة التي يمنحها الذكاء الاصطناعي للقادة.
ففي عام 2024 أظهر استطلاع ماكنزي أن نحو 78% من الشركات عالمياً تستخدم الذكاء الاصطناعي بالفعل في جانب واحد على الأقل من أعمالها، ما يُمكّن قادتها من تحديد المخاطر والفرص مبكراً ووضع استراتيجيات استباقية وتكييف الخطط بسرعة مع المتغيرات.
الذكاء الاصطناعي: الشريك الاستراتيجي الجديد في عالم القيادة
معظم المدراء التنفيذيين والقادة أصحاب التطلعات المستقبلية أصبحوا يتعاملون الآن مع الذكاء الاصطناعي شريكاً استراتيجياً، إذ تُمكّنهم النماذج التنبؤية وأدوات المحاكاة من توقع التحولات وتحديد نقاط الضعف مسبقاً، فبدلاً من الاعتماد كُلياً على الحدس أو الإدراك المتأخر، يُنشئ القادة الآن استراتيجيات مرتكزة على البيانات مدعومة بخوارزميات تنبؤية.
ومن ثَمَّ، من خلال تحليل الاتجاهات التاريخية والبيانات الحالية معاً يُمكن للذكاء الاصطناعي توليد توقعات مستقبلية حول سير عمل الشركة وإنشاء تنبؤات دقيقة حول الإيرادات أو سلوك العملاء أو احتياجات التوريد، ما يُمكّن من تحديد الأهداف بشكلٍ أسرع وأدق وتوقع المخاطر التشغيلية، وهذا بدوره يؤدي إلى تحسن الأداء العام للشركة.
بالإضافة إلى ذلك، يساعد الذكاء الاصطناعي على كسر حواجز المعلومات من خلال تدفق البيانات من المصادر المختلفة ما يساعد القادة على الحصول على بيانات كافية لدعم اتخاذ القرارات. على سبيل المثال، تمسح الخوارزميات مجموعات البيانات من مصادر متعددة مثل التمويل والعمليات والعملاء بحثاً عن أنماط قد يغفلها البشر، من الاتجاهات الموسمية إلى المشتريات غير المنتظمة، ما يُحسّن دقة التنبؤات ويسمح للقادة بالاستجابة بشكلٍ أسرع للأحداث غير المتوقعة.
علاوة على ذلك، نجد أنه في الماضي كان القادة يتخذون القرارات بناءً على الأحداث الماضية، أمّا الذكاء الاصطناعي فيُغيّر هذا النموذج من خلال منحهم القدرة على الاستشراف باستخدام نمذجة السيناريوهات المدعومة بالذكاء الاصطناعي، وهذا يُتيح للقادة تصميم استراتيجيات مخصصة لكل سيناريو مستقبلي واكتساب رؤية أوسع للمستقبل تمكّنهم من موازنة تأثير خياراتهم عبر العديد من السيناريوهات، والنتيجة هي تخطيط أكثر مرونة وطويل الأمد مدعوماً بالبيانات.
اقرأ أيضاً: كيف يستفيد القادة من الذكاء الاصطناعي لاتخاذ قرارات أفضل؟
كيف يُفعّل القادة الذكاء الاصطناعي لاستباق المخاطر وتعزيز الأداء؟
1- تحليلات المخاطر التنبؤية
يتميز الذكاء الاصطناعي برصد الحالات الشاذة. على سبيل المثال، في سلاسل التوريد يمكن لمستشعرات أجهزة إنترنت الأشياء المدعومة بالذكاء الاصطناعي تحديد الأنماط التي تُشير إلى مشكلات محتملة قبل تفاقمها، إذ قد تُشير إلى تأخير في النقل أو تغير في درجة حرارة شحنة سلسلة التبريد، ما يُتيح للقادة معالجتها بطرق عدة مثل إعادة توجيه الشحنة قبل أن يتأثر العملاء.
2- الكشف عن الاحتيال المالي
تستخدم البنوك الحديثة التعلم الآلي لمراجعة ملايين المعاملات فوراً مع رصد السلوك المشبوه في الوقت الفعلي، مثلاً تستخدم البنوك في الإمارات وقطر أنظمة مكافحة الاحتيال المدعومة بالذكاء الاصطناعي كوسائل دفاع أساسية لمكافحة عمليات الاحتيال المالي.
ويلاحظ أحد التقارير أن الذكاء الاصطناعي في الخدمات المصرفية في بنوك الإمارات وقطر غيّر إجراءات الكشف عن الاحتيال بشكلٍ كبير، ما عزّز الكفاءة والدقة وأصبح بإمكان القادة التقليل من الخسائر من خلال اكتشاف المعاملات غير المشروعة في وقتٍ أسرع من أي وقتٍ مضى.
3- تخطيط السيناريوهات والمحاكاة
يُمكّن الذكاء الاصطناعي القادة من اختبار الضغوط بشكلٍ استباقي لاستراتيجياتهم، إذ يُمكن لأدوات المحاكاة المدعومة بالذكاء الاصطناعي تشغيل نماذج معقّدة بسرعة لإجراء تحليلات افتراضية على كل شيء، ما يُتيح للقادة مقارنة فورية بين تأثيرات خياراتهم سواء للأفضل أو الأسوأ وإنشاء رؤية واضحة بعيدة المدى تدخل شركاتهم مجالات جديدة مجهزة بخطط عمل مصممة مسبقاً لتخطي الاضطرابات.
4- الكشف عن التهديدات في الوقت الفعلي
من خلال دمج الذكاء الاصطناعي مع أجهزة إنترنت الأشياء وتدفقات البيانات الأخرى، يمكن للقادة استخدام أنظمة الكشف عن التهديدات في الوقت الفعلي لتجنب المخاطر قبل وقوعها أو التخفيف منها بسرعة. على سبيل المثال، قد يستخدم قادة الخدمات اللوجستية الذكاء الاصطناعي لإعادة توجيه الشحنات فوراً حول منطقة أزمة، أو قد تستخدمه شركات التمويل لإغلاق الحسابات تلقائياً عند اكتشاف هجوم سيبراني.
5- رؤى مخصصة لأداء الفريق
يمكن للقادة استخدام تحليلات القوى العاملة لتعزيز فاعلية الفريق، من خلال تطبيق تحليلات النصوص المتقدمة على استبيانات الموظفين والتواصل معهم لتحديد نقاط عدم الرضا واتخاذ إجراءات مستهدفة في الوقت المناسب حول الروح المعنوية، ما يُمكّن من اتخاذ إجراءات تُبقي الموظفين محفّزين.
اقرأ أيضاً: 20 وظيفة جديدة ستظهر بسبب الذكاء الاصطناعي وستطلبها غالبية الشركات في العالم
تطبيقات عملية: كيف يُحدِث الذكاء الاصطناعي أثراً في توقع المخاطر وتحسين الأداء؟
الخدمات المالية: تعزيز الأمان والكفاءة
كانت البنوك والمؤسسات المالية في طليعة القطاعات التي تبنَّت الذكاء الاصطناعي لتحسين كفاءة العمليات وتقليل المخاطر، ففي منطقة الخليج تُستخدم البنوك الذكاء الاصطناعي لنمذجة مخاطر الائتمان ومنع الاحتيال. على سبيل المثال، أطلق بنك الإمارات دبي الوطني مؤخراً منصة مدعومة بالذكاء الاصطناعي لتعزيز فحوص الامتثال للمدفوعات والمعاملات التجارية، لكشف مخاطر العقوبات المحتملة والاستجابة لها آنياً، ما أدّى إلى تقليل عمليات الفحص اليدوية التي يمكن أن تؤثّر في العملاء.
الرعاية الصحية: رؤى تنقذ الأرواح وتُحسّن الرعاية
يستفيد قادة الرعاية الصحية من المنصات المدعومة بالبيانات للتنبؤ بالمخاطر السريرية وتخصيص خطط الرعاية للمرضى. على سبيل المثال، تعاون المستشفى الأميركي في دبي مع شركة سيرنر (Cerner) لبناء نماذج تنبؤية خلال جائحة كوفيد -19 للتنبؤ بمَن يحتاج إلى رعاية في وحدة العناية المركزة أو مَن الأكثر عرضة لخطر الوفاة لتحديد أولويات الرعاية قبل تدهور حالة المرضى.
تجارة التجزئة: فهم أعمق للعملاء وتوقعات دقيقة للطلب
يُسخّر تجار التجزئة حول العالم الذكاء الاصطناعي في المخزون والتسويق ورؤى العملاء، والمنطقة العربية ليست استثناءً، إذ تعتمد متاجر التجزئة الفاخرة في دول مجلس التعاون الخليجي على الذكاء الاصطناعي لتحسين عروضها، كما تستخدم مراكز التسوق في دبي تحليلات حركة الزوار لتحسين تصميمات المتاجر، ما يُتيح المرونة اللازمة لتوقع احتياجات العملاء والتنبؤ بالطلب بدقة أكبر وتعديل استراتيجياتها في الوقت الفعلي تقريباً، وهذا يُبقيها في صدارة المنافسين ويرضي العملاء.
اقرأ أيضاً: كيف أثّر الصراع الأخلاقي حول سلامة الذكاء الاصطناعي في إقالة سام ألتمان من منصبه؟
مستقبل القيادة في عصر الذكاء الاصطناعي: نمو مفهوم القيادة المُحسّنة وصعودها
مع التطلع إلى المستقبل من المتوقع أن يجمع القائد المستقبلي بين البراعة التقنية والقدرات البشرية الأصيلة، ما سيؤدي إلى تغيير تعريف مفهوم القيادة بشكلٍ كامل، بمعنى أن القائد لن يكون هو مَن يصمم النماذج، لكنه سيمتلك ما يكفي من المعرفة بالذكاء الاصطناعي لطرح الأسئلة الصحيحة للحصول على إجابات مدعومة بالبيانات، مثل: هل هذه التنبؤات النموذجية منطقية ومناسبة للشركة؟
علاوة على ذلك، من المتوقع أن يكتسب مفهوم القيادة المُحسّنة (Enhanced Leadership) زخماً متزايداً في السنوات القادمة، فبدلاً من تصور الذكاء الاصطناعي منافساّ، سيُشكل القادة شراكات معه يتولى بموجبها الذكاء الاصطناعي معالجة البيانات بدقة، بينما يركّزون على تطبيق حكمتهم الإنسانية.
على سبيل المثال، قد يستخدم مديرو الموارد البشرية الذكاء الاصطناعي لاختيار المرشحين للوظائف، لكنهم يعتمدون على الحكمة البشرية لتقييم المهارات الشخصية. وبالمثل قد يسمح المدراء الماليون للذكاء الاصطناعي بإجراء عمليات محاكاة مالية معقدة، لكنهم سيتولون مسؤولية اتخاذ القرارات الاستراتيجية الحاسمة، خاصة في مواجهة الأحداث غير المتوقعة.
هذا التعاون الحيوي يعزّز قدرة الشركات على التكيُّف والمرونة، فالذكاء الاصطناعي سيقدّم الاحتمالات والتحليلات بينما سيمتلك القادة القدرة على اتخاذ القرارات النهائية بحكمة وروية. والأهم من ذلك، سيصبح الذكاء الاصطناعي أداة قوية لتعزيز المهارات الشخصية للقادة.
على سبيل المثال، من خلال تنبيه القادة إلى التحديات التي تواجه فِرقهم، سيكون القائد أكثر استعداداً للتدخل بفاعلية مسلحاً بالبيانات والرؤى الفردية حول أعضاء الفريق، ما يمكّنه من معالجة الصعوبات باستخدام مهاراته في التعاطف والإبداع. وفي نهاية المطاف ستحقق الشركات مزيجاً فريداً من كفاءة الذكاء الاصطناعي والإبداع البشري، ما يدفع عجلة الإنتاجية والنمو المستدام.
اقرأ أيضاً: قائمة من أدوات الذكاء الاصطناعي تخفف عنك ضغوط العمل اليومية
تحديات استخدام الذكاء الاصطناعي لتوقع المخاطر وتحسين الأداء
رغم الإمكانات الهائلة التي يوفّرها الذكاء الاصطناعي، فإن القادة ينبغي لهم أن يكونوا على دراية ببعض العقبات المهمة التي قد تعترض طريق الاستفادة الكاملة من إمكاناته، ومنها:
* التحيز الخوارزمي: يمثّل التحيز الخوارزمي أحد أبرز التحديات، فإذا كانت البيانات التي تُدرب النماذج عليها تعكس تحيزات تاريخية، فمن المرجّح أن تعيد المخرجات إنتاج هذه التحيزات، ما قد يشكّل خطراً كبيراً على سمعة المؤسسة وقد يؤدي إلى مشكلات قانونية. لذلك من الضروري أن ينُشئ القادة فِرق عمل متخصصة في تحقيق العدالة الخوارزمية (Algorithmic Justice) ومراقبة نتائج النماذج باستمرار، للكشف عن أي أنماط غير عادلة ومعالجتها.
اقرأ أيضاً: حلول عالمية جديدة لفهم تحيّزات الذكاء الاصطناعي في لغتك الأم
* خصوصية البيانات: مع قوانين حماية البيانات الأكثر صرامة، مثل قانون خصوصية البيانات في دولة الإمارات، ينبغي للقادة أن يدرّبوا أنظمتهم للتعامل مع البيانات الشخصية بشفافية وأمان، من خلال الحصول على موافقة المستخدم الصريحة لجمع بياناته وتحليلها مع ضرورة إخفاء المعلومات الحساسة.
* الثقة العمياء بالذكاء الاصطناعي: قد يميلُ بعض القادة إلى ترك النماذج تتخذ القرارات المهمة دون إشراف بشري، وهو ما يحذّر منه كبير مسؤولي المعلومات العالمي في شركة غالاغر (Gallagher) مارك بلوم (Mark Bloom)، الذي يشدد على أن نجاح تبني الذكاء الاصطناعي يتطلب مهارات متنوعة ونهجاً يُبقي البشر على اطلاع دائم. لذا، ينبغي للقادة أن يتذكروا أن الذكاء الاصطناعي أداة وليس بديلاً عن القيادة، وأن تتضمن القرارات النهائية مراجعة بشرية دائمة لتجنب أي ثغرات وضمان المساءلة.
* بناء فِرق قيادية مُلِمة بالذكاء الاصطناعي: من العوائق الشائعة أمام نجاح الذكاء الاصطناعي النقص في الكفاءات المتخصصة الذي يؤدي إلى إعاقة تطبيق الذكاء الاصطناعي. لذا، ينبغي للقادة إعطاء الأولوية لتطوير المهارات والتدريب وإقامة الشراكات وتعزيز ثقافة الذكاء الاصطناعي في الشركة، لضمان قدرة الفِرق على استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي بفاعلية لتحقيق أهداف العمل.
يمثّل الذكاء الاصطناعي قوة تحويلية هائلة للقادة، إذ يُمكّنهم من استشراف المستقبل واتخاذ قرارات أكثر ذكاءً وفاعلية. ومع تبني مفهوم القيادة المُحسّنة والوعي بالتحديات المصاحبة يستطيع قادة المستقبل تسخير الذكاء الاصطناعي ليس فقط لتوقع المخاطر وتحسين الأداء، بل لتحقيق النمو المستدام والتميز لشركاتهم في عصر يتسم بالديناميكية والتنافسية المتزايدة.