عمد الفيزيائي سام ديلافو إلى توصيل عدد من لوحات تجارب الدارات الإلكترونية باستخدام شبكة من الأسلاك ذات الألوان الزاهية على طاولة في مختبره بجامعة بنسلفانيا. يبدو النظام للوهلة الأولى أشبه بمشروع إلكترونيات منزلي تعمل عليه بنفسك ويفتقد إلى الكثير من الأناقة. غير أن هذا التركيب المتواضع المظهر، الذي يحتوي على 32 مقاومة كهربائية متغيرة، قادر على أن يتعلم تصنيف البيانات على غرار نموذج تعلم آلي. وعلى حين ما زالت قدرات النموذج الأولي الحالي متواضعة، فإن الهدف المأمول هو أن يوفّر بديلاً يستهلك قدراً منخفضاً من الطاقة لرقاقات وحدة المعالجة الرسومية (GPU) المستخدمة على نطاقٍ واسع في التعلم الآلي، التي تبتلع كميات هائلة من الطاقة.
اقرأ أيضاً: ما هي قوة المعالجة والعتاد الصلب المستخدمان في تشغيل تشات جي بي تي؟
دارات مكونة من مقاومات كهربائية لتنفيذ مهام تصنيف بسيطة تعتمد على التعلم الآلي
يقول ديلافو: "كل مقاومة كهربائية هي عنصر بسيط ولا أهمية له بمفرده تقريباً. لكن عند وضع هذه المقاومات الكهربائية ضمن شبكة من العناصر، يمكن تدريبها على تنفيذ أشياء عديدة مختلفة".
من المهام التي نفذتها الدارة: تصنيف الأزهار وفق خصائص مثل طول البتلة وعرضها. وعند تلقيم الدارة بمقاسات هذه الأزهار، يمكنها تصنيفها إلى ثلاثة أنواع مختلفة من السوسن. يُعرف هذا النشاط بمعضلة التصنيف "الخطي"، فعند وضع معلومات السوسن على رسم بياني، يمكن تقسيم البيانات بوضوح إلى الفئات الصحيحة باستخدام خطوط مستقيمة. من الناحية العملية، عمد الباحثون إلى تمثيل مقاسات الأزهار على أنها جهود كهربائية، ليلقموها إلى الدارة بوصفها مدخلات لتنفيذ المهمة. بعد ذلك، أظهرت مخرجات الدارة من الجهد الكهربائي قيماً تتوافق مع أحد الأنواع الثلاثة.
تختلف هذه الطريقة في ترميز البيانات جذرياً عن الطريقة المستخدمة في وحدات المعالجة الرسومية، التي تعتمد على تمثيل البيانات باستخدام نظام العد الثنائي على شكل أصفار ووحدات. أمّا في هذه الدارة، تمثّل المعلومات بأرقام تتراوح ضمن مجال محدود من قيم الجهد الكهربائي. صُنِّفت الدارة 120 زهرة سوسن بدقة 95%.
والآن، تمكن الفريق من استخدام الدارة في حل معضلة أعقد من ذلك. ففي نسخة أولية من ورقة بحثية تخضع حالياً للمراجعة، أظهر الباحثون أن الدارة قادرة على تنفيذ عملية منطقية معروفة باسم "عدم التطابق" (XOR)، حيث تُلقم الدارة باثنين من المدخلات، وهما عددان ممثلان بالنظام الثنائي، وتحدد إن كانا متطابقين أم لا. هذه مهمة تصنيف "لا خطية"، كما يقول ديلافو، "والأنظمة اللاخطية هي المكون السري الذي يعتمد عليه التعلم الآلي بالكامل".
اقرأ أيضاً: 4 طرق ذكية للاستفادة من أجهزتك الإلكترونية القديمة
تُعدُّ هذه التجارب عملاً سهلاً للغاية بالنسبة للأجهزة التي نستخدمها يومياً. لكن ليس هذا بيت القصيد: فقد بنى ديلافو وزملاؤه هذه الدارة في إطار محاولة استكشافية لإيجاد تصاميم حاسوبية أفضل. تواجه صناعة الحوسبة تحدياً وجودياً في سعيها جاهدة إلى بناء آلات أقوى من أي وقت مضى. فبين عامي 2012 و2018، ازدادت قوة الحوسبة المطلوبة لنماذج الذكاء الاصطناعي المتطورة بمقدار 300,000 ضعف. والآن، يتطلب تدريب نموذج لغوي كبير مقداراً من الطاقة يعادل الاستهلاك السنوي لأكثر من 100 منزل أميركي. يأمل ديلافو أن يقدّم تصميمه نهجاً بديلاً وأكثر فاعلية في استهلاك الطاقة لبناء ذكاء اصطناعي أسرع.
التدريب ضمن أزواج
يجب تدريب الدارة لتنفذ مهامها المتنوعة بصورة صحيحة، تماماً مثل نماذج التعلم الآلي الحديثة التي تعتمد على الرقاقات الحاسوبية التقليدية. على سبيل المثال، تعلّم تشات جي بي تي (ChatGPT) توليد النصوص بصياغة مشابهة لصياغة البشر بعد تلقيمه بالكثير من الأمثلة عن نصوص بشرية حقيقية، أمّا الدارة فقد تعلمت التنبؤ بالقياسات المتوافقة مع أنواع السوسن المختلفة بعد أن لُقمت بمقاسات الأزهار المصنفة حسب هذه الأنواع. يتطلب تدريب دارة استخدام دارة ثانية مطابقة حتى "توجه" الدارة الأولى. تعمل كلتا الدارتين انطلاقاً من القيم نفسها لكل مجموعة من المقاومات الكهربائية المتغيرة، التي يبلغ عددها 32 مقاومة. يلقم ديلافو كلتا الدارتين بالمدخلات نفسها -مثل جهد كهربائي يتوافق مع عرض البتلة- ويعدّل قيمة الجهد الكهربائي عند مخرج الدارة الثانية حتى يتوافق مع النوع الصحيح من السوسن.
تتلقى الدارة الأولى تغذية مرتدة من تلك الدارة الثانية، وتضبط كلتا الدارتين مقاومتيهما الكهربائيتين حتى تقتربا من القيم نفسها. تُعاد الكرة من جديد مع دخل جديد، حتى تستقر الدارتان على مجموعة من مستويات المقاومات الكهربائية التي تنتج القيم الصحيحة عند المخارج بالنسبة إلى أمثلة التدريب. في الواقع، يدرب الفريق هذا الجهاز باستخدام طريقة معروفة باسم التعلم بالإشراف، حيث يتعلم نموذج الذكاء الاصطناعي من بيانات مصنّفة كي يتنبأ بتصنيفات الأمثلة الجديدة. ولتسهيل استيعاب ما يحدث، كما يقول ديلافو، يمكن أن نشبه التيار الكهربائي المار في الدارة بتيار من الماء الذي يتدفق عبر شبكة من الأنابيب. والمعادلات التي تحكم تدفق السائل تماثل تلك التي تحكم تدفق الإلكترونات والجهد الكهربائي. فالجهد الكهربائي يقابل ضغط السائل، على حين تقابل المقاومة الكهربائية قطر الأنبوب. خلال التدريب، تعدّل "الأنابيب" المختلفة أقطارها في مقاطع مختلفة من الشبكة حتى تحقق الضغط المطلوب عند المخرج. في الواقع، فكّر الفريق في المراحل الأولى من العمل في بناء دارة مكونة من أنابيب الماء بدلاً من العناصر الإلكترونية.
بالنسبة إلى ديلافو، يمثّل ما يسميه بميزة "التعلم الناشئ" في الدارة أحد أروع النواحي فيها. ويقول إنه لدى البشر "يعمل كل عصبون بصورة مستقلة. ونتيجة لذلك تنشأ بمرور الوقت ظاهرة التعلم، وتصبح لديك سلوكيات، وتركب الدراجة". يحدث الأمر ذاته في الدارة. فكل مقاومة كهربائية تعدّل نفسها وفقاً لقاعدة بسيطة، لكن المقاومات الكهربائية تعمل معاً من أجل "العثور" على إجابة لسؤال أعقد دون وجود أي تعليمات واضحة.
اقرأ أيضاً: غروك 1.5 فيجن: إليك ما نعرفه عن نموذج الذكاء الاصطناعي المتعدد الوسائط
ميزة إيجابية محتملة تتعلق بالطاقة
يُعدُّ النموذج الأولي الذي بناه ديلافو بمثابة نوع من أجهزة الكمبيوتر التناظرية، أي التي ترمّز المعلومات باستخدام مجال مستمر من القيم بدلاً من مجال متقطع يعتمد على الأصفار والوحدات فقط، الذي يستخدم في الدارات الرقمية. كانت أجهزة الكمبيوتر الأولى تناظرية، لكن الأجهزة الرقمية تفوقت عليها عندما طور المهندسون تقنيات تصنيع تتيح وضع المزيد من الترانزستورات على رقاقات رقمية من أجل زيادة سرعتها. وعلى الرغم من هذا، لطالما عرف الخبراء، مع زيادتهم لقدرات الحوسبة، أن أجهزة الكمبيوتر التناظرية تتميز بفاعلية أعلى في استهلاك الطاقة من الأجهزة الرقمية، على حد قول مهندس الكهرباء في جامعة نورث إيسترن، أتميش شريفاستافا. ويقول: "إن الفوائد التي تتعلق بالفاعلية في استهلاك الطاقة ليست موضع جدل". غير أنه يُضيف قائلاً إن الإشارات التناظرية أكثر ضجيجاً بكثير من الإشارات الرقمية، ما يجعلها غير مناسبة لأي مهام حاسوبية تتطلب دقة عالية.
من الناحية العملية، لم تتفوق دارة ديلافو بعد على الرقاقات الرقمية من حيث الفاعلية في استهلاك الطاقة. ووفقاً لتقديرات الفريق، يستهلك التصميم 5 إلى 20 بيكو جول تقريباً لكل مقاومة كهربائية من أجل توليد قيمة واحدة عند مخرج الدارة، حيث تمثّل كل مقاومة كهربائية معاملاً واحداً في شبكة عصبونية. يقول ديلافو إن هذه الفاعلية تعادل تقريباً عُشر فاعلية رقاقات الذكاء الاصطناعي الأحدث من نوعها. لكنه يقول إن الإمكانات الواعدة للأسلوب التناظري تكمن في تضخيم الدارة، أي زيادة عدد المقاومات الكهربائية، ما يعني زيادة قدرتها الحاسوبية. ويشرح الوفورات المحتملة في الطاقة كما يلي: يرتبط استهلاك الطاقة في الرقاقات الرقمية، مثل وحدات المعالجة الرسومية، بعدد العمليات التي تنفذها، ما يعني أن صنع شريحة قادرة على تنفيذ عدد أكبر من العمليات في الثانية سيؤدي فقط إلى شريحة تستهلك المزيد من الطاقة في الثانية. وفي المقابل، يعتمد استهلاك الطاقة في كمبيوتره التناظري على فترة تشغيله. فإذا تمكن الباحثون من مضاعفة سرعة كمبيوترهم، فسوف تزداد فاعليته في استهلاك الطاقة إلى الضعف.
أيضاً، تُصنَّف دارة ديلافو على أنها نوع من أجهزة الكمبيوتر التي تعتمد حوسبة التشكيل العصبي، ما يعني أن تصميمها مستوحى من الدماغ. وعلى غرار تصاميم التشكيل العصبي الأخرى، لا تعمل الدارة التي صممها الباحثون وفقاً للتعليمات الواردة من المستوى الأعلى إلى المستوى الأدنى كما تعمل أجهزة الكمبيوتر التقليدية. وإنما بدلاً من ذلك، تعدل المقاومات الكهربائية قيمها استجابةً لتغذية مرتدة خارجية وفق أسلوب ينقل المعلومات من المستوى الأدنى إلى المستوى الأعلى، على غرار الأسلوب الذي تستجيب وفقه الخلايا العصبية للمحفزات. إضافة إلى ذلك، لا يوجد في هذا الجهاز مكون خاص يتولى دور الذاكرة. يمكن أن يوفر هذا ميزة أخرى تتعلق بالفاعلية في استهلاك الطاقة، بما أن الكمبيوتر التقليدي يخصص قدراً كبيراً من الطاقة لنقل البيانات بين المعالج والذاكرة.
وعلى حين تمكن الباحثون بالفعل من بناء مجموعة متنوعة من الآلات التي تستخدم حوسبة التشكيل العصبي بالاعتماد على مواد وتصاميم مختلفة، فإن التصاميم الأكثر نضجاً من الناحية التكنولوجية مبنية على رقاقات من أنصاف النواقل. ومن الأمثلة عليها الكمبيوتر ذو التشكيل العصبي لويهي 2 (Loihi 2) من شركة إنتل، الذي بدأت الشركة تُتيح الوصول إليه للباحثين العاملين في القطاعات الحكومية والأكاديمية والصناعية في 2021. أمّا الآلة ذات التشكيل العصبي التي تعتمد على الرقاقات ديب ساوث (DeepSouth) في جامعة ويسترن سيدني، وهي مصممة لتكون قادرة على محاكاة المشابك العصبية في الدماغ البشري على نطاقٍ واسع، فمن المقرر أن تدخل حيز التشغيل هذا العام.
اقرأ أيضاً: يحلّل المشاعر ويقيس الأداء: تعرف على تطبيقات التعلم الآلي بالشبكات الاجتماعية
أظهرت صناعة التعلم الآلي اهتمامها بحوسبة التشكيل العصبي التي تعتمد على الرقاقات أيضاً، حيث تمكنت الشركة الناشئة راين نيورومورفيكس (Rain Neuromorphics) في سان فرانسيسكو من جمع 25 مليون دولار في فبراير/شباط. غير أن الباحثين لم يتمكنوا حتى الآن من العثور على تطبيق تجاري تُظهر فيه حوسبة التشكيل العصبي أفضلية مؤكدة على أجهزة الكمبيوتر التقليدية. في هذه الأثناء، يعمل الباحثون مثل فريق ديلافو على وضع مخططات جديدة في محاولة للمضي قدماً في هذا المجال. وقد عبّر البعض في هذه الصناعة عن اهتمامهم بدارته. يقول ديلافو: "إن أكثر ما يُثير اهتمام الناس مسألة الفاعلية في استهلاك الطاقة".
لكن هذا التصميم ما زال مجرد نموذج أولي، وما زالت وفورات الطاقة غير مؤكدة. أبقى الفريق الدارة على لوحات تجارب الدارات الإلكترونية لأغراض العروض التجريبية، لأن "استخدامها أسهل، وتُتيح إمكانية تغيير الأشياء بسرعة"، على حد قول ديلافو، لكن هذه البنية تعاني شتى أنواع أوجه القصور. يختبر الباحثون جهازهم على لوحات الدارات المطبوعة لتحسين الفاعلية في استهلاك الطاقة، كما يخططون لتكبير التصميم حتى يتمكن من تنفيذ مهام أعقد. وسنرى لاحقاً إن كانت فكرتهم الذكية ستنجح خارج نطاق المختبر.