تشترك علاجات الأمراض الدماغية في مشكلة واحدة، فهي لا تستطيع الوصول إلى هدفها إلا بصعوبة بالغة. فالأوعية الدموية التي تنتشر في الدماغ مزودة بطبقة داخلية خاصة من الخلايا المتراصة التي تسمح للجزيئات الصغيرة للغاية فقط بالمرور من بينها. هذا الحاجز الدموي الدماغي "يعمل كالعازل"، لحماية الدماغ من السموم وغيرها من المواد المؤذية، حسب تعبير الباحثة المختصة بعلم الأحياء الجزيئي في جامعة ييل، آن أيكمان. لكن هذا الحاجز يمنع معظم الأدوية من المرور أيضاً. يعمل الباحثون على تطوير وسائل لتمرير الأدوية عبر الحاجز الدموي الدماغي منذ عقود. ويبدو أن عملهم الجادّ بدأ يؤتي ثماره أخيراً.
الأمواج فوق الصوتية المركزة لفتح الحاجز الدموي الدماغي
فمنذ فترة وجيزة، أورد باحثون في معهد روكفلر لعلم الأعصاب في جامعة ويست فيرجينيا أنهم استخدموا الأمواج فوق الصوتية المركزة لفتح الحاجز الدموي الدماغي، ما أتاح لهم تحسين توصيل علاج جديد لمرض ألزهايمر وتسريع عملية إزالة اللويحات الدبقة التي يُعتَقد أنها تسهم في بعض مشكلات الإدراك والذاكرة التي يعانيها المصابون بهذا المرض، وذلك بنسبة 32%.
في دراسة جامعة ويست فيرجينيا، تلقى 3 أشخاص مصابين بدرجة خفيفة من مرض ألزهايمر جرعات شهرية من الجسيم المضاد المصنّع مخبرياً، أدوكانوماب (Aducanumab)، عن طريق الوريد. حصل الدواء على الموافقة أول مرة عام 2021، ويساعد على إزالة ببتيد بيتا النشواني أو أميلويد بيتا (beta-amyloid)، وهو بروتين جزئي يتراكم ضمن أدمغة المصابين بمرض ألزهايمر. (أثارت هذه الموافقة الكثير من الجدل، ولا تزال قدرة الدواء على إبطاء تقدم المرض فعلياً غير مؤكدة).
بعد عملية التسريب الوريدي، يعالج الباحثون مناطق محددة من دماغ المريض باستخدام الأمواج فوق الصوتية المركزة، لكن في جهة واحدة فقط من الدماغ. وهو ما أتاح للباحثين استخدام الجهة الأخرى من الدماغ للمقارنة. بين التصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني انخفاضاً أكبر في تركيز لويحات الأميلويد في المناطق المُعالَجَة بالأمواج فوق الصوتية بالمقارنة مع المناطق غير المعالجة والمقابلة لها في الجهة الأخرى من الدماغ، ما يشير إلى تلقي الدماغ كمية أكبر من الجسيمات المضادة في الجهة المعالَجة.
اقرأ أيضاً: قطب كهربائي داخل الدماغ لإصلاح الذاكرة يفتح آفاقاً جديدة لعلاج ألزهايمر
يستطيع أدوكانوماب إزالة اللويحات من دون أمواج فوق صوتية، لكنه يحتاج في هذه الحالة إلى فترة أطول، وقد يُعزى هذا جزئياً إلى صعوبة وصول الجسيم المضاد إلى الدماغ. يقول جراح الأعصاب في معهد روكفلر لعلم الأعصاب في جامعة ويست فيرجينيا، علي رضائي، وهو أحد مؤلفي الدراسة الجديدة: "بدلاً من استخدام العلاج عن طريق الوريد فترة تتراوح من 18 إلى 24 شهراً لتحقيق انخفاض في تركيز اللويحات، نرغب في معرفة إمكانية تحقيق هذا الانخفاض في غضون بضعة أشهر وحسب". يمكن أن يساعد تخفيض الوقت اللازم لإزالة هذه اللويحات على إبطاء فقدان الذاكرة والمشكلات الإدراكية التي يتسبب بها هذا المرض.
اقرأ أيضاً: كيف استطاع دماغ هذه المرأة أن يتخلص من مرض ألزهايمر؟
فتح الحاجز الدموي الدماغي
طورت شركة إنسايتك (Insightec) الجهاز المستخدم لتوجيه الأمواج فوق الصوتية وإطلاقها، ويتألف من جهاز للتصوير بالرنين المغناطيسي مع خوذة مزودة بعدد كبير من محولات الطاقة للأمواج فوق الصوتية. حصل الجهاز على موافقة الإدارة الأميركية للغذاء والدواء، لكن لغرض مختلف تماماً، فهو يساعد على إيقاف الارتعاشات لدى المصابين بمرض باركنسون من خلال إحداث إصابات داخل الدماغ.
ويقول رضائي إنهم يعمدون إلى "حقن المرضى وريدياً بفقاعات دقيقة" لفتح الحاجز الدموي الدماغي. تُستَخدَم هذه الفقاعات الغازية الصغيرة لتحسين تباين الصورة، وتنتقل إلى الدماغ عبر مجرى الدم. وباستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي، يستطيع الباحثون توجيه الأمواج فوق الصوتية نحو مناطق محددة للغاية "بدقة ملليمترية"، كما يقول رضائي.
عندما تضرب الأمواج الفقاعات الدقيقة، تتمدد الفقاعات وتتقلص، ما يؤدي إلى ابتعاد الخلايا المتراصة بإحكام، التي تبطن الشعيرات الدموية في الدماغ، عن بعضها بعضاً. يقول رضائي: "يمكن أن تدوم هذه الفتحات المؤقتة فترة تصل إلى 48 ساعة، ما يعني إمكانية زيادة وصول الأدوية العلاجية إلى الدماغ خلال 48 ساعة".
اقرأ أيضاً: ساعة آبل قد تتمكّن يوماً ما من الكشف عن الإصابة بمرض ألزهايمر
درس الباحثون استخدام الأمواج فوق الصوتية المركزة لفتح الحاجز الدموي الدماغي عدة سنوات. وقد كتبنا عن هذه التكنولوجيا في 2006. لكنها المرة الأولى التي استُخدِمت فيها مع علاج ألزهايمر، وجُرِّبَت على البشر.
كانت هذه الدراسة الأولية تهدف إلى إثبات صحة الفكرة، وكانت صغيرة للغاية بحيث لا تسمح بدراسة فعاليتها، لكن رضائي وفريقه يخططون لمواصلة هذا العمل. الخطوة التالية هي تكرار الدراسة على خمسة أشخاص مع استخدام الليكينماب (Lecanemab)، وهو أحد الجسيمات المضادة الحديثة المخصصة للتخلص من الأميلويد.
لا يستطيع هذا الدواء إزالة اللويحات وحسب، بل إن إحدى الدراسات بينت أنه قادر على إبطاء تقدم المرض بنسبة 30% تقريباً بعد 18 شهراً من العلاج لدى المرضى المصابين بالأعراض المبكرة لمرض ألزهايمر. قد تكون هذه النسبة صغيرة، لكنها تمثل نجاحاً كبيراً في مجال لطالما شهد العديد من الإخفاقات.
اقرأ أيضاً: قهوتك الصباحية قد تقلل من احتمال إصابتك بمرضي ألزهايمر وباركنسون
تقول أيكمان، التي تعمل أيضاً على تقليل مقاومة الحاجز الدموي الدماغي، إن النتائج الجديدة المتعلقة باستخدام الأمواج فوق الصوتية المركزة مثيرة للحماسة. لكنها تتساءل حول الآثار البعيدة الأمد لهذه التقنية. وتقول: "أعتقد أنه يبقى أن نرى إن كان الاستخدام المتكرر، مع مرور الوقت، سيضر بالحاجز الدموي الدماغي".
نجاحات واعدة في مجال شهد الكثير من الإخفاق
ثمة استراتيجيات أخرى لفتح الحاجز الدموي الدماغي، وهي استراتيجيات واعدة أيضاً على ما يبدو. فبدلاً من إحداث فجوات في الحاجز بأسلوب ميكانيكي، طورت شركة الأدوية روش (Roche) تكنولوجيا تسمى "براينشاتل" (Brainshuttle)، أي المكوك الدماغي، لنقل الأدوية عبر الحاجز من خلال ربطها بمستقبلات على الخلايا التي تبطن جدران الأوعية الدموية.
أيضاً، ربطت الشركة تكنولوجيا براينشاتل بالجسيم المضاد الخاص بها للتخلص من الأميلويد، المسمى غانتينيروماب (gantenerumab)، وبدأت تختبره على 44 شخصاً مصاباً بمرض ألزهايمر. قدم الباحثون نتائجهم الأولية في مؤتمر عُقِد في أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وقد تمكنت أقوى جرعة من إزالة اللويحات تماماً لدى 3 من أصل 4 مرضى مشاركين. تعمل شركة التكنولوجيا الحيوية دينالي ثيرابيوتيكس (Denali Therapeutics) على استراتيجية مماثلة للتعامل مع مرض باركنسون وغيره من الأمراض العصبية التنكسية.
كما تعمل أيكمان على استراتيجية مختلفة. حيث يجري فريقها اختبارات على جسيم مضاد يرتبط بمستقبِل مهم للحفاظ على تماسك الحاجز الدموي الدماغي. يستطيع الباحثون خلخلة الترابط بين الخلايا بصورة مؤقتة من خلال حجب هذا المستقبل، لدى فئران التجارب على الأقل.
تدرس مجموعات بحثية أخرى إمكانية استهداف مستقبلات مختلفة، أو استخدام نواقل فيروسية متنوعة، أو تطوير جسيمات نانوية قادرة على الانسلال إلى الدماغ.
اقرأ أيضاً: لأول مرة: العلماء ينجحون في وضع خريطة أولية فائقة الدقة للدماغ البشري فماذا سيعني ذلك للعلم؟
سيكون لكل من هذه الاستراتيجيات إيجابيات وسلبيات مختلفة، وليس من الواضح حتى الآن أيها ستكون الأفضل والأكثر فعالية. لكن أيكمان تعتقد أن إحدى هذه الاستراتيجيات ستحصل على الموافقة في السنوات المقبلة على الأرجح: "نحن نقترب بالفعل من تحقيق الهدف".
يمكن أن تكون التقنيات المستخدمة لفتح الحاجز الدموي الدماغي مفيدة في علاج مجموعة كاملة من الأمراض، لا مرض ألزهايمر وحسب، بل أيضاً مرض باركنسون والتصلب الجانبي الضموري والأورام الدماغية. يقول رضائي: "ستفتح هذه التقنية مجالاً كاملاً من الفرص الممكنة. نحن نشهد عصراً رائعاً من الاكتشافات الجديدة".