هل يحل الذكاء الاصطناعي التوليدي محل محركات البحث في توجيه المستخدمين إلى الأخبار؟

4 دقيقة
حقوق الصورة: shutterstock.com/metamorworks

بادئ ذي بدء، لا يُخفى على أحدٍ أنه وعلى مدار العقدين الماضيين، اعتاد المستخدمون اللجوء إلى محرِّكات البحث لاستخلاص المعلومات، وتحديداً الأخبار. كانت العملية واضحة؛ يكتب المستخدم استفساره، فتظهر له قائمة من الروابط، يختار منها ما يُناسبه، ثم يتنقل بين المصادر المختلفة حتى يشكِّل صورة متكاملة عمّا يجري في العالم. لكنْ، كما العادة، مع كلِّ تطور تقني، ثمَّة تغير يلوح في الأفق ربما يُعيد رسم ملامح البحث عن الأخبار بطرق لم تكن متوقعة.

في الواقع، إن أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدية مثل تشات جي بي تي لم تعد مجرد أدوات مساعدة، بل باتت منصات متكاملة تقدّم إجابات مباشرة ومخصصة، تقتبس من مصادر عديدة وتلخِّص جوهر الموضوع دون الحاجة إلى تصفح عشرات المواقع. يكمُن الفارق الأساسي هنا أن هذه الأدوات لا تكتفي بإرجاع نتائج البحث، بل تقدّم إجابة جاهزة مبنية على تحليل واسع للمعلومات المتاحة، فالأمر لم يعد يتعلَّق بالبحث عن رابط يقود إلى مصدر، بل بالحصول على الإجابة بحدِّ ذاتها، وهذا ما يجعل مستقبل محركات البحث التقليدية موضع تساؤل.

لم تتجاهل شركة جوجل نفسها هذا التحول! فتجربة "AI Mode" التي تختبرها حالياً تعكس هذا الإدراك، إذ تسعى إلى تقديم إجابات مولَّدة بالذكاء الاصطناعي بدلاً من الاكتفاء بعرض قائمة من الروابط!

اقرأ أيضاً: هل ستقضي بوتات الدردشة على محركات البحث التقليدية؟

في الواقع، ربما تعني هذه الخطوة تراجعاً في سلوك النقر التقليدي، إذ سيكتفي المستخدمون بالمعلومات التي يحصلون عليها مباشرة دون الحاجة إلى زيارة المواقع الأصلية، إذ تُشير إحصائيات حديثة إلى أن 68% من البالغين يستخدمون بالفعل أدوات الذكاء الاصطناعي للبحث عن إجابات مباشرة، ما يعكس تحولاً واضحاً في تفضيلات المستخدمين، ومع تطورات مميَّزة مثل دمج تشات جي بي تي ضمن المتصفحات عبر إضافة مخصصة لكروم، يبدو أننا أمام تغيُّر جوهري في كيفية البحث عن الأخبار واستهلاكها.

لكنْ، في ظل هذا التطور، يبرز تحدٍ أساسي يتمثل في مسألة الشفافية والتحكم في تدفق المعلومات، فلا تزال محركات البحث -رغم الانتقادات كلّها التي تواجهها فيما يتعلق بخوارزميات الترتيب- توفّر قدراً من التنوع والاختيار. يتصفح المستخدم نتائج مختلفة، يقرأ من مصادر عديدة، ويكوّن رؤيته الخاصة بناءً على معلومات متنوعة. أمّا أدوات الذكاء الاصطناعي، فتقدّم إجابة واحدة مصاغة وفق نمطها التحليلي، ما يعني أن المستخدم قد يصبح أكثر اعتماداً عليها وأقل ميلاً للبحث بنفسه في الوقت ذاته، وهذا بدوره يطرح أسئلة جدية حول تأثير هذه النماذج في تشكيل الرأي العام، ومدى حياديتها في اختيار المعلومات التي تقدّمها.

لعلَّ النقطة الأخرى التي تُثير القلق تتعلق بالناشرين والمؤسَّسات الإعلامية التي لطالما اعتمدت على زيارات المستخدمين لمواقعها مصدراً رئيسياً للإيرادات، سواء من خلال الاشتراكات أو الإعلانات. فمثلاً، إذا كان المستخدم سيحصل على ملخص جاهز لمقال ما دون أن يزور الموقع نفسه، فكيف سيؤثِّر ذلك في نموذج العمل الذي تعتمد عليه الصحافة؟ في عالم أصبح فيه معدل النقر عاملاً حاسماً في بقاء المؤسسات الإعلامية، فإن أي تحول كبير في سلوك المستخدمين تجاه البحث قد يفرض إعادة هيكلة شاملة لهذا النموذج، وعليه أشارت وكالة أسوشيتد برس في تقرير حديث إلى أن الذكاء الاصطناعي قد يحدُّ من وصول المستخدمين الفعليين إلى المواقع الإخبارية، ما قد يؤثِّر سلباً في إيرادات الصحف والمجلات الإلكترونية، ويضع الصحافة في مواجهة تحديات جديدة غير مسبوقة.

لكن، في مقابل هذه المخاوف، هناك أيضاً فرص لا يُستهان بها! إذ لا يقتصر الذكاء الاصطناعي على تغيير طريقة استهلاك الأخبار، بل يمتدُّ تأثيره إلى إنتاجها أيضاً، فالقدرة على تحليل كميات هائلة من البيانات، وتوليد ملخصات فورية، وحتى تحويل الصوت إلى نصٍّ مكتوبٍ في لحظات، كلّها عناصر تفتح آفاقاً جديدة أمام الصحفيين وتساعدهم على التركيز على الجوانب التحليلية والإبداعية بدلاً من المهمَّات الروتينية. 

في ظلِّ التطورات المتسارعة، من غير المستبعد أن نرى تحولاً في الأدوار الصحفية نفسها، إذ يصبح الصحفي أكثر انخراطاً في التحقق من صحة البيانات وصياغة التفسيرات العميقة، بينما يتولَّى الذكاء الاصطناعي تقديم الأخبار الخام وتحليلها المبدئي.

هنا تبرز أهمية هندسة الأوامر (Prompt Engineering) عاملاً رئيسياً في تحسين جودة الإجابات التي تقدِّمها نماذج الذكاء الاصطناعي. ببساطة، تعتمد هذه الفكرة على أن صياغة السؤال بشكلٍ دقيقٍ ومحدَّدٍ تؤثِّر بشكلٍ مباشر في عمق الإجابة التي يحصل عليها المستخدم ودقتها، فإذا طرح أحدهم سؤالاً عاماً وغير محدد، مثل: "ما هي آخر الأخبار؟"، فمن المحتمل أن تكون الإجابة سطحية وغير دقيقة، أمّا إذا كان السؤال دقيقاً عند طلب البحث في مصادر معينة أو إذا كان النموذج صحفياً استقصائياً، أو تضَّمن طلب مقارنة بين وجهات نظر عديدة، فسيكون للنموذج فرصة أكبر لتقديم إجابة أكثر توازناً وموثوقية، مع الإشارة إلى المصادر المستخدمة. بعبارة أخرى، كلما كان السؤال أكثر وضوحاً وتحديداً، زادت احتمالية الحصول على معلومات دقيقة وموضوعية، ما يساعد على التمييز بين الأخبار الموثوقة والمعلومات المشكوك فيها، ويحدُّ من تأثير التحيزات الخفية في الإجابات التي تقدِّمها هذه النماذج.

اقرأ أيضاً: كيف يُمكن للبحث باستخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي أن يُفسد عملية البحث؟

لكن السؤال الأكبر الذي يظل بلا إجابة حاسمة هو: إلى أي مدى يمكن الوثوق بهذه الأدوات مصدراً أساسياً للأخبار؟ في حقيقة الأمر، بينما يوفِّر الذكاء الاصطناعي إمكانات مذهلة، فإنه ليس معصوماً من الخطأ. تعتمد النماذج اللغوية التوليدية على البيانات التي تُدرَّب عليها، ما يعني أنها قد تعكس تحيزات أو نقاط ضعف معينة في فهمها للأحداث. هناك أيضاً مسألة دقة المعلومات، فهذه النماذج لا تفرِّق دائماً بين الأخبار الموثوقة والشائعات، وقد تقدِّم أحياناً إجابات تبدو مقنعة لكنها غير دقيقة أو مضلِّلة.

في هذا الصدد، لا بُدَّ من التأكيد على أن التوعية بكيفية التفاعل مع الذكاء الاصطناعي ربما تكون المفتاح لضمان عدم الوقوع في فخ المعلومات المضلِّلة أو التحيُّزات الخفية، إذا أصبح المستخدمون أكثر إدراكاً لكيفية توجيه هذه النماذج، وطرحوا الأسئلة بطريقةٍ تحثُّ على التحقق والتدقيق، فقد يتحوَّل الذكاء الاصطناعي من أداةٍ ربما تؤثِّر سلباً في دقة الأخبار إلى وسيلةٍ تُعزِّز جودة المعلومات وتجعل عملية البحث أكثر كفاءة وإنصافاً.

ختاماً، ربما لا تزال محركات البحث تمتلك دورها، ولكن يبدو أن المستقبل لن يكون كما كان عليه، فمن المرجَّح أن يتطوّر البحث عبر الإنترنت إلى نموذج هجين، يصبح فيه الذكاء الاصطناعي لاعباً رئيساً، لكنه لا يلغي الحاجة إلى التحقق المباشر من المصادر، فالمسألة ليست مجرد صراع بين التكنولوجيا القديمة والحديثة، بل هي إعادة تعريف للطريقة التي نتفاعل بها مع المعلومات، وكيفية ضمان أن هذا التفاعل يظل قائماً على الدقة، والتنوع، والاستقلالية.

المحتوى محمي