في 2009، وبعد وقوع الأزمة المالية العالمية، قال الرئيس السابق لمجلس إدارة البنك الاحتياطي الفدرالي في الولايات المتحدة، بول فولكر، ساخراً مما حدث: “إن الابتكار المفيد الوحيد في مجال البنوك خلال السنوات العشرين الماضية” هو جهاز الصراف الآلي. وقد دعا البنوك إلى التفكير بجرأة أكبر.
وعلى الرغم من أن البنوك لم تأخذ بهذه النصيحة، فقد ظهر على وجه السرعة الكثيرُ من ذوي الجرأة من مفكري شركات التكنولوجيا المالية (techfin) والشركات المالية التكنولوجية (fintech)، وأطلقوا أحد أعظم التحولات منذ… الصراف الآلي! إن الطابع اللامركزي وشبه الديمقراطي للخدمات المالية -الذي يعود، إلى حد كبير، لأعداد كبيرة من المؤثرين من القواعد الشعبية- قد أدى إلى تغيير طريقة التعامل بالأموال إلى الأبد. لقد تحقق كل هذا بفضل التكنولوجيات الرقمية بطبيعة الحال، التي أحدثت أثراً كبيراً في هذا المجال كما فعلت في الكثير من الصناعات الأخرى.
ولكن القصة لا تتوقف عند هذا الحد.
فلم يؤدّ هذا التحول إلى زيادة الفعالية وتحسين تجربة العميل وحسب، بل أدى أيضاً إلى تغيير قواعد توليد القيمة في البنوك، وذلك عن طريق ابتكارات كثيرة في نماذج الأعمال. لقد بدأ ضغط التحول بالاشتداد على البنوك مؤخراً وحسب، ولكن توجد بعض التوجهات الواضحة في نماذج الأعمال بالتأثير على مشهد الشركات المالية التكنولوجية على مستوى العالم. لنلقِ نظرة على بعض هذه التوجهات ونرى كيفية استجابة البنوك العريقة لها.
الشركات الناشئة: من التفكيك إلى التركيب
يمثل التفكيك (unbundling) واحدة من أهم إستراتيجيات التحول الجذري في الصناعات، وهو يقوم على تفكيك نماذج الأعمال للشركة القديمة للتركيز على أحد عناصرها وحسب. تُعد الشركات الناشئة المالية التكنولوجية بمثابة مثال نموذجي على التفكيك.
وعلى سبيل المثال، وعلى حين أن البنوك تقدم العديد من الخدمات التي تتراوح ما بين الحسابات الجارية إلى الدفع ومن القروض إلى الاستثمار، فإن الشركات الناشئة المالية التكنولوجية معروفة بإطلاق خدمة واحدة وحسب؛ ففي الولايات المتحدة، تقدم روبنهود خدمات الاستثمار، وتقدم ويلثفرونت الاستشارات الاستثمارية الآلية، وتقدم كريديت كارما خدمات الامتياز الاعتباري، وتقدم تشايم خدمات الحسابات الجارية.
ويحدث نفس الشيء في جميع أنحاء العالم؛ حيث تقدم الشركتان الناشئتان البريطانيتان ترانسفيروايز وإيووكا خدمات تحويل الأموال الدولية والقروض للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة على الترتيب، وتقدم لوفاكس الصينية الإقراض من طرف إلى طرف، وتقدم شركتا بايتم ومونيتراب خدمات الدفع والإقراض على الترتيب، وتقدم بايفيت الفرنسية خدمات الرواتب، وتقدم بونيفاي الألمانية خدمات الامتياز الاعتباري، وتقدم شركة ساتيسباي الإيطالية خدمات الدفع، والقائمة تطول.
وقد بدأ هذا التوجه بالدخول في مرحلته الثانية، فبعد أن وصلت الشركات المالية التكنولوجية بعروض النموذج المفكك إلى مرحلة ممتازة، بدأت توسّع مجال خدماتها، ما يعني من الناحية العملية أنها تعيد تركيب نموذج الأعمال. فقد بدأت ويلثفرونت الآن بتقديم القروض، وبدأت كريديت كارما بتقديم خدمات إعداد الكشوفات الضريبية، وبدأت لوفاكس تقدم خدمات إدارة الثروات والتصنيف الائتماني. توجد الكثير من الأمثلة في البلدان المتقدمة في مجال الشركات المالية التكنولوجية، في حين ما زالت أوروبا متخلفة عن الركب في مجال التركيب. ولكن المقاربات الأنجلوسكسونية والآسيوية حول التركيب تبدو متباينة الاتجاهات.
الولايات المتحدة – المملكة المتحدة: التحول إلى بنوك
في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، بدأت الشركات الناشئة المالية التكنولوجية تستخدم خدماتها الأولية لاجتذاب الزبائن، ويبدو أنها تستعد للتحول إلى بنوك. فقد بدأت روبنهود بتقديم حسابات الشيكات وحسابات التوفير، وبدأت ترانسفيروايز بتقديم الحسابات الجارية، وبدأت ريفولوت وأكورنز ومونيليون وغيرها تحذو حذوها. وحتى نشهد كيفية تعزيز هذا التوجه، بدأت شركة الخدمات الاحترافية ديلويت الآن بتقديم خدمات التخطيط للشركات المالية التكنولوجية للحصول على ترخيص بالعمل بصفة بنوك.
آسيا: تطبيقات فائقة تعتمد على الذكاء الاصطناعي
بدأت الشركات المالية التكنولوجية الصينية تعتمد توجهاً مختلفاً، وذلك بالاستفادة من بيانات الزبائن من قطاعات متعددة لتأسيس نماذج أعمال تعتمد على الذكاء الاصطناعي، وذلك لتوسيع حدود البنوك الحالية عن طريق منصات يشار إليها باسم التطبيقات الفائقة. وعلى سبيل المثال، فإن شركة آنت فاينانشال تشرف على خدمة الدفع آليباي، وأول بنك على الإنترنت Mybanl.cn، ونظام تصنيف الرصيد الاجتماعي سيسامي، وسوق زاو كان باو للتعامل المباشر مع العملاء.
فعن طريق تجميع ومطابقة هذه الكميات الهائلة من البيانات غير المترابطة من خدماتها المالية والتجارية المختلفة، تقوم آنت فاينانشال بابتكار خدمات جديدة تعتمد على الذكاء الاصطناعي، بهدف الوصول إلى درجات هائلة من الفعالية والتخصيص الموجه إلى درجة عالية. وعلى سبيل المثال، تقوم الشركة بتشغيل نظام آلي لطلب الحصول على التأمين بناء على نظام للتعرف على الصور يسمح للزبائن بتقديم الطلب عن طريق تحميل صورة ملتقطة بالهاتف الذكي ببساطة.
تمكنت الشركة أيضاً من تحسين فعالية العمليات في إدارة الأصول بنسبة 70%، مع تخفيض التكاليف بنسبة 50%، وزيادة الأموال المُستثمرة من قبل الزبائن الذين يعودون مرة ثانية إلى الشركة بمقدار ثلاثة أضعاف. فبعدما تبين للشركة أن الإناث الشابات ممن اشترين الجينز الضيق يقمن بتبديل شاشات هواتفهم الذكية بشكل أكثر تكراراً من باقي الشرائح الديموغرافية، قامت بدراسة نوع جديد مخصص لهن من التأمين على الشاشات.
بدأت عدة شركات أخرى تعمل في نفس الاتجاه من النمو العابر للصناعات عن طريق تطبيقاتها الفائقة، مثل تينسيت في الصين وجراب في سنغافورة وجوجيك في الهند وغيرها. وفي الواقع، فإن آنت فاينانشال وغيرها من الشركات تُعد أقرب إلى شركات الذكاء الاصطناعي منها إلى شركات مالية، حيث تقوم بتوليد القيمة وتحصيلها في الخدمات المالية، وغير ذلك.
شركات التكنولوجيا المالية: من الدفع إلى الإقراض وما بعد ذلك
يشير مصطلح الشركات المالية التكنولوجية (fintech) إلى الشركات المالية التي تستخدم التكنولوجيا لإحداث ثورة في الخدمات المالية، في حين يشير مصطلح شركات التكنولوجيا المالية (techfin) إلى الشركات التكنولوجية التي تقدم خدمات مالية كإضافات إلى منصاتها الموجودة مسبقاً. تمثل آنت فاينانشال التابعة لعلي بابا مثالاً على هذه الشركات.
ويُلخص المسار الأكثر شيوعاً في هذه الحالة بالبدء بتقديم خدمات الدفع لتحسين تجربة المستخدم، خصوصاً بالنسبة للتجار. وتسمح هذه الخدمة لشركات التكنولوجيا المالية بالبدء بتجميع البيانات. هناك العديد من الشركات التي تقدم خدمات الدفع، مثل علي بابا وأمازون وآبل وبايدو وجوجل وتينسينت وغيرها.
تقوم المرحلة الثانية على عرض قروض مخصصة للتجار، وذلك بفضل البيانات الغنية التي جُمعت عن طريق خدمات الدفع. وعلى سبيل المثال، تستطيع آنت فاينانشال التابعة لعلي بابا معرفة الوضع المالي للتجار، ومدى تنافسية أسعارهم، والمستوى الائتماني لشركائهم في الأعمال، وتستفيد من هذه المعلومات لتقديم قرض مبني على هذه المعلومات في ظرف دقائق معدودة.
تقدم أمازون خدمات مشابهة، ووفقاً للتقديرات، فقد قدمت أمازون حتى اللحظة قروضاً للشركات الصغيرة بقيمة تتجاوز 5 مليار دولار. أما الفائدة الإضافية فهي أن هذه القروض تُستثمر في البضائع التي يبيعها التجار عبر علي بابا أو أمازون، ولهذا تؤدي إلى تعاملات إضافية تولد المزيد من الدخل والبيانات للمنصة. وبفضل تضافر هذه العوامل مجتمعة، يمكن لشركات التكنولوجيا المالية أن تقدم القروض بمعدلات فائدة تنافسية للغاية، بل وأن تدعمها حتى؛ لأن إستراتيجيتها الأساسية لجني الأرباح تقوم على رسوم التعاملات.
استجابة البنوك
تمكنت الشركات المالية التكنولوجية وشركات التكنولوجيا المالية من منافسة نماذج الأعمال للبنوك بالاستفادة من ميزاتها الفريدة. وبما أن هذه الشركات لا تعتمد على نماذج أعمال موروثة ومحددة مسبقاً، فهي تمتلك مطلق الحرية في تطوير حلول جديدة وتتمحور حول العميل، وتشغيل عمليات لا تتطلب الكثير من الأصول بسبب اعتمادها على الحوسبة السحابية، ما يسمح بتوسيع نطاقها بسرعة عند الطلب، والعمل في بيئة خالية من القوانين التنظيمية الصارمة (على الأقل في الوقت الحالي).
ولكن كيف ستستجيب البنوك؟
التحول إلى شركات مالية تكنولوجية
حتى بضع سنوات مضت، كان هناك إجماع على أن المؤسسات المالية العريقة ستنتظر حتى تحدد الشركات المالية التكنولوجية التي تشكل خطراً على أعمالها، ومن ثم تستحوذ عليها ببساطة. غير أن هذا النمط في استثمار الشركات دخل في مرحلة الانحدار، ليحل محله نمط ريادة الأعمال للشركات؛ فقد بدأت البنوك الكبيرة بإطلاق الشركات المالية التكنولوجية الخاصة بها.
وعلى سبيل المثال، فقد قام بنك جولدمان ساكس بإطلاق شركة ماركوس في الولايات المتحدة، وقام بنك آر بي إس بإطلاق البنك الخلوي “بو” المصمم للأجيال الجديدة في المملكة المتحدة (بنك يقدم خدماته عبر تطبيقات الهواتف الذكية)، أما بانكا سيلا فقد أطلق شركة هايب في إيطاليا، وفي دولة الإمارات العربية المتحدة قام بنك الإمارات دبي الوطني بإطلاق البنك الرقمي ليف المخصص للأفراد، كما بدأ بإطلاق البنك الرقمي إي-20 للشركات الصغيرة والمتوسطة.
لطالما كانت ثقافة الشركات الراسخة، وإدارة المخاطر، وسياسات الامتثال سبباً في إبطاء هذا النوع من المبادرات، ولكن يبدو أن الإجماع انتقل الآن إلى أن هذه المبادرات تمثل ابتكارات تجريبية منخفضة المخاطر، وستعود فوائدها بالتدريج إلى البنك الرئيسي. وعلى سبيل المثال، فقد تمكنت البنوك من تطوير وتحسين عملية تسجيل العملاء الجدد دون اجتماعات مباشرة في هذه المبادرات الرقمية، وستجلب هذه الممارسات الجديدة إلى عملياتها الموجودة مسبقاً.
تقديم الخدمات المصرفية على شكل خدمة (BaaS)
تفتقر البنوك الصغيرة والمتوسطة إلى الموارد اللازمة للقيام بهذا الأمر، ولكنها تمتلك رخصة بنكية، وهي إحدى الأصول الهامة للغاية لعقد الشراكات مع الشركات المالية التكنولوجية. فعندما تقدم هذه البنوك خدمات مالية مرخصة لشركات أخرى، يمكن لهذه الشركات الأخرى أن تتحول إلى شركات مالية تكنولوجية أيضاً إلى حد ما. وعلى سبيل المثال، تقدم شركة أوبر لطلب السيارات بطاقات للخصم المباشر وبطاقات ائتمانية تحمل علامتها التجارية، وهو أمر مستحيل لولا شراكتها مع جرين دوت وباركلايز على الترتيب.
يتداخل التوجه الأخير مع التوجه الأول الذي تحدثنا عنه سابقاً، وهو التركيب. وبالفعل، فإن ترانسفيروايز ليست مرخصة لفتح حسابات بنكية، ولكنها تفعل ذلك في الولايات المتحدة عن طريق شراكة مع بنك CFSB، أما في المملكة المتحدة فإنها تمنح إمكانية الوصول إلى خدمة الدفع السريع عبر شراكة مع بنك رافاييلز.
وحتى البنوك الجديدة، أو البنوك الرقمية بالكامل، عادةً ما تعقد شراكات مع بنوك مرخصة حتى تتمكن من العمل. وبالفعل، فإن بنوك ليمونواي في فرنسا، وبي بي في إيه في إسبانيا، وسولاريس بانك في ألمانيا، وبانكا سيلا في إيطاليا، وبنك سيام التجاري في تايلاند، وجرين دوت في الولايات المتحدة، وجميع البنوك الكبرى في الصين، تقر بالطبيعة العالمية لهذا التوجه، وتبين كيف تستطيع البنوك العريقة أن تستجيب لشركات التكنولوجيا المالية، وتقدم خدمات بنكية عبر الإنترنت حتى تستطيع الوصول إلى البيانات وتحقيق التحول الرقمي بسرعة.
“لقد حذرتكم من هذا”!
إن هذه التوجهات العالمية في التكنولوجيا والمال تمثل نتيجة للثورة الصناعية الرابعة، وفي نفس الوقت عوامل مؤثرة لتحولات ثورية لاحقة. يمكن دمج التكنولوجيا في جميع نواحي الحياة. ومع انتشار التكنولوجيا، فإن جميع نواحي الحياة ستتأثر بشكل كبير. وإذا كان شكل التعاملات المالية وصيغتها يخضعان لتحولات سريعة الوتيرة، فهذا يعني أن المعنى الجوهري لعملية الدفع بحد ذاتها سيتغير بسرعة بدوره، إضافة إلى البيانات المتعلقة بها. وحتى الائتمان -الذي يمثل العامل الأساسي لتسهيل التعاملات المالية- سيتحول قريباً إلى بروتوكول رقمي، كما يحدث الآن لأول مرة في أنظمة البلوك تشين.
إذا رغبنا في مناقشة الابتكارات المالية في أعقاب هذا الوباء الحالي، يحق للسيد فولكر أن يقول للبنوك “لقد حذرتكم من هذا” ولكن، ما زال الأمل موجوداً. وما زالت البنوك قادرة على لعب دور محوري في مستقبل الموارد المالية وإدارتها، إذا اعتنقت العقلية الصحيحة، وقررت أن تخوض تحولاً رقمياً حقيقاً في ممارساتها ونماذج أعمالها.