لمن تم تصميم تكنولوجيا مساعدة الحكام في كأس العالم؟

6 دقائق
لمن تم تصميم تكنولوجيا مساعدة الحكام في كأس العالم؟
غيتي إيميدجيز.

بعد 158 ثانية وحسب من بدء المباراة الافتتاحية في كأس العالم في قطر في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني، قرر الحكم دانييل أورساتو الاعتماد على تكنولوجيا كشف التسلل شبه الآلية الجديدة (اختصاراً: ساوت SAOT)، لاغياً ما كان سيتحول إلى أسرع هدف في تاريخ كأس العالم. ولكن هذا الهدف الملغي الذي أحرزه إينر فالينسيا ضد فريق قطر، الدولة المضيفة، لم يؤدِّ سوى إلى تضخيم أثر تكنولوجيا ساوت، وزيادة حدة الجدل في المنازل وفي الملعب وعلى الإنترنت.

فقد كان قرار التسلل الحرج، والواضح بالنسبة لساوت فقط، صحيحاً من الناحية الفنية. ولكن صحته بالنسبة لك، والتي قد تتجاوز المسائل التقنية، قد تعتمد على موقفك في الجدل الطويل إزاء جهود اتحاد الفيفا (FIFA)، الهيئة المنظّمة لكرة القدم، لاستخدام الحلول التكنولوجية المتطورة في مساعدة الحكام.

اقرأ أيضاً: كيف تستخدم صناعة كرة القدم علم البيانات والتحليلات لتحسين أداء الفرق؟

هل تؤثر التكنولوجيا على انسيابية كرة القدم؟

لقد كانت كرة القدم بطيئة نسبياً في تبني الحلول التكنولوجية في التحكيم، مقارنة ببعض الرياضات الأخرى. حيث يعود جزء من الجاذبية العالمية لهذه الرياضة المعروفة باللعبة الجميلة (jogo bonito) إلى انسيابيتها، ونتائجها غير المتوقعة، وبساطة أدواتها. فعندما كنت أمارس كرة القدم في طفولتي، كانت مجموعة أدواتنا محدودة. فقد كان زي الفريق عبارة عن قمصان زرقاء مزينة بكتابة يدوية بقلم تخطيط أسود. وكان مطلوباً منا ارتداء واقيات للساقين ومنطقة العانة، ولكن حتى الأحذية المناسبة لم تكن متوافرة سوى للبعض منا. أما الأطفال الذين كان أهلهم يبالغون في حمايتهم فقد كانوا يرتدون واقيات للركبة أيضاً. 

وعلى الرغم من أننا لم نكن نمارس كرة القدم بثمار الغريب فروت أو الجوارب المحشوة بأوراق الجرائد، فقد كانت تجهيزاتنا الرياضية لكرة القدم تافهة مقارنة بتجهيزات كرة القدم الأميركية أو كرة السلة. وكانت تجهيزات الحكم مؤلفة من ساعة لمراقبة الوقت، ودفتر صغير، وقلم، وبطاقات حمراء وصفراء لتوجيه الإنذارات إلى اللاعبين عند ارتكاب المخالفات، وصفارة لبدء وإيقاف اللعب عندما يكتشف الحكم مخالفة أو إذا تجاوزت الكرة خط المرمى أو حدود الملعب. أما الحكمان المساعدان (كما كانت الإجراءات سابقاً)، وهما عادة مدربان مساعدان للفريقين المتنافسين، فقد كانا يحملان أعلاماً صغيرة لرفعها لتوجيه إشارة إلى الحكم بخروج الكرة من الملعب، أو لتوجيه طلب غير مباشر إلى الحكم باتخاذ قرار مثير للجدل في أغلب الأحيان بوجود حالة تسلل.

كانت كرة القدم على المستويات العليا متوافقة مع هذا النظام البسيط، وكانت اللعبة (حتى في المستويات المتردية) تتسم بحركية متواصلة من المد والجزر، خلافاً للرياضات الأخرى التي تتخللها الأشواط والاندفاعات والوقت المستقطع وتسجيل الكثير من الأهداف. ولكن، ولضبط هذه الحرية والانسيابية، تتميز هذه اللعبة بقواعدها الخاصة، والتي كانت معروفة باسم "القوانين"، والتي كانت تثير رهبتي عندما كنت تلميذاً في المدرسة.

ولكن، لا شيء يبقى على حاله، بما في ذلك التكنولوجيا، وكذلك الأوضاع. فقد أصبح هناك الكثير على المحك من الناحية المالية بالنسبة للاعبين والأندية، إضافة إلى الاتحادات العالمية لهذه الأندية، ولم يعد من المقبول الاعتماد ببساطة على ثلاثة أزواج من الأعين البشرية، خصوصاً عندما أصبح بإمكان الجماهير العالمية في المنزل أن تدقق في قرارات هؤلاء الحكام بمساعدة العرض بالحركة البطيئة، واللقطات المقربة، وإعادة المشاهد.

اقرأ أيضاً: روبوت رجل الخط جاهز لضبط حالات التسلل في كأس العالم لكرة القدم في قطر 2022

دقة التكنولوجيا مقابل قابلية التحكيم البشري للوقوع في الأخطاء

وليس هناك ما يثبت قابلية التحكيم البشري للوقوع في الأخطاء، وبتكلفة فادحة، مثل هدف "اليد الإلهية" الذي أحرزه دييغو أرماندو مارادونا في مباراة ربع النهائي لكأس العالم عام 1986 بين الأرجنتين وبريطانيا. وقد كان والدي وصديقه لاري بين أكثر من 100,000 مشجع في ملعب إستاديو أزتيكا في مكسيكو سيتي، إضافة إلى الملايين في جميع أنحاء العالم ممن رأوا جميعاً ما لم يره الحكم: فقد قذف مارادونا بالكرة إلى خلف حارس مرمى الفريق المنافس بقبضته المغلقة.

وفي نفس السنة، تم إجراء أول تجربة لتكنولوجيا الإعادة الفورية في كرة القدم الأميركية. وعلى الرغم من الجدل وتوافر التكنولوجيا، فقد رفض الفيفا استغلال فرصة كأس العالم لعام 1990 لاستخدام تكنولوجيا الإعادة الفورية، وذلك بذريعة الحفاظ على انسيابية اللعب. (من الجدير بالذكر أن مارادونا اعترف بعد سنوات عديدة أن استخدام هذه التكنولوجيا كان سيوقف تلك اليد الشهيرة) وعلى الرغم من العديد من التجارب المحلية، واصل الفيفا رفضه لاستخدام نظام كامل يعتمد على الفيديو لمساعدة الحكام، وذلك حتى كأس العالم للرجال في روسيا في 2018، على الرغم من أنه سمح قبل ذلك بأربع سنوات في البرازيل باستخدام تكنولوجيا خط المرمى، التي كانت تقدم مساعدة فورية للحكم في الملعب حول عبور الكرة لخط المرمى. حققت تكنولوجيا التحكيم بمساعدة الفيديو (اختصاراً: فار VAR) نجاحاً تقنياً كبيراً في روسيا، إضافة إلى عدد من الدوريات المحلية، على الرغم من تواصل الجدل حول تأثيرها على انسيابية وعفوية اللعب.

اقرأ أيضاً: الذكاء الاصطناعي يدخل ملاعب كرة القدم ويرسم مستقبل هذه الرياضة

ولكن، وفي 20 نوفمبر/ تشرين الثاني، لم تظهر المخالفة في هدف الإكوادور المبكر ضد قطر بشكل واضح، سواء بإعادة العرض بالسرعة الكاملة أو البطيئة. ولكن ساوت قامت بتقديم إعادة تشكيل رقمية لما حدث، وذلك باستخدام رسوميات مجردة ومبتذلة مستمدة من 12 كاميرا مراقبة موزعة فوق الملعب، و29 نقطة بيانات لتمثيل أجزاء الجسم لكل لاعب، وشريحة ميكروية في الكرة، وعندها ظهرت ساق أحد لاعبي الإكوادور في موضع التسلل ضمن لقطة مجمدة. وعندها، قام الحكم بالاستعانة بهذه التكنولوجيا المركبة، باتخاذ قراره، ما أثار احترام المعلقين الرياضيين على قناة فوكس سبورتس (Fox Sports) التلفزيونية الأميركية، والذين وصفوا النظام بأنه "علمي" للغاية.

شبكة الكيانات الفاعلة

ولكن التفاعل بين الحكم والكاميرات والمستشعرات والكرة المزودة بشريحة ميكروية، وأشياء أخرى لا نعرفها، هو أكثر عمقاً من مجرد تشبيه سطحي. فقد ساعد الفيلسوف الفرنسي الراحل برونو لاتور على بناء نظرية شبكة الكيانات الفاعلة، والتي تساعد على استيعاب أثر التعاون بين الناس والأشياء والأجهزة التكنولوجية في توسيع النطاقات العلمية والتكنولوجية، وإضفاء طابع اجتماعي عليها في نفس الوقت. وقد قام لاتور بإعادة تعريف ما نصفه عادة بالأطراف البشرية أو الأشياء، مقدماً توصيفاً بديلاً لها بأنها "كيانات فاعلة" متحدة ضمن شبكة. إن الشبكة المتعلقة بتحكيم لعبة كرة قدم، عندما كنت صغيراً، كانت محدودة إلى درجة كبيرة بما يستطيع الحكم حمله معه، إضافة إلى المساعدين الآخرين.

أما الآن، فتتضمن هذه الشبكة تشكيلة كبيرة من العجائب التكنولوجية التي تعمل لصالح المسؤولين البشر. ولكن، ما موقع المشجعين في الملعب أو في المنزل ضمن هذه الشبكة؟

بالنسبة لمؤلفي كتاب "القرار السيئ: هجوم التكنولوجيا على الحكام، وكيفية إصلاح هذا الوضع" (Bad Call: Technology’s Attack on Referees and Umpires and How to Fix It )، فإن الانسجام بين التجارب المختلفة ضمن الشبكة أمر أساسي: "إن تحكيم الأحداث التي تجري على ملعب رياضي ليس مسألة زيادة الدقة، بل التوفيق بين ما يراه مشاهدو التلفاز وما يراه مسؤولو المباراة، إنها مسألة عدالة". ويشير المؤلفون، وبشكل صحيح، إلى أن الدقة التي تقدمها التكنولوجيات مثل فار (VAR) وساوت أدت إلى تحويل ميدان اللعب من ميدان حقيقي إلى افتراضي، ومن ميدان من بالونات مشوهة منفوخة بالهواء ومغلفة بالجلد الاصطناعي وتدور وتقفز في العشب والوحل بين خطوط مرسومة بالطباشير إلى ميدان من نقاط وبيكسلات على شبكة خيالية بدقة فائقة.

اقرأ أيضاً: هل يستطيع الذكاء الاصطناعي اختيار أفضل تشكيلة فريق كرة قدم؟

اللعب في الميدان الحقيقي والتحكيم في الميدان الافتراضي

وعلى الرغم من أن اللعبة تجري وتُشاهد في الميدان الأول (الحقيقي)، فإن تحكيمها يجري في الميدان الثاني (الافتراضي)، وكل هذا من أجل فرض "القانون".

ولكن القانون هو تكنولوجيا بحد ذاتها. يشير عالم السياسة الأميركي، لانغدون وينر، إلى أننا لا نشبه القوانين بالتكنولوجيا، بل نجسدها بها. فالقانون والتكنولوجيا وجهان لنفس العملة، فهما شيئان يقوم الناس ببنائهما جماعياً للعيش معهما وباستخدامهما، وهما يقومان بتوجيه وتقييد قدرتنا على فعل ما نعتقد أنه جيد وصحيح في العالم. وإذا قبلنا حاجة القوانين إلى معايير ومؤسسات ديمقراطية لصياغتها بشكل عادل، فيجب أن نأخذ بعين الاعتبار أنه يجب تأسيس معايير ومؤسسات ديمقراطية لصنع التكنولوجيا.

وفي حالة كرة القدم، فإن هذا الاعتبار يبرز التساؤل حول الجهة التي تم تصميم التكنولوجيا لخدمتها، سواء مالكي الأندية والاتحادات الوطنية، أو اللاعبين، أو المشجعين، أو الشركات الإعلامية الكبيرة التي تصيغ المشهد، بل وحتى الفيفا نفسه. من كان لديه صوت مؤثر في الخيارات المتعلقة بهذه التكنولوجيات؟ ربما يمكن أن نتساءل أيضاً ما إذا كانت هذه التكنولوجيات ستؤثر بدورها في طريقة تطور القانون: على سبيل المثال، هل نحتاج إلى مراجعة قاعدة التسلل في قانون كرة القدم، لتمييز الفرق بين اللعب على ملعب حقيقي والتحكيم عبر شبكة افتراضية على ملعب رقمي؟ 

اقرأ أيضاً: عالم الفيفا: مساحة افتراضية على منصة روبلوكس لعشاق كرة القدم

ولهذا، وخلال تشجيعك للاعبيك المفضلين ومنتخباتك المفضلة في كأس العالم، ومع مقاطعة انسيابية اللعب الحماسي عند استشارة الحكم لنظام الفار، لا تبدأ بإطلاق الشتائم بسبب هذا التأخير، أو تنهض من مكانك لإحضار دفعة جديدة من المقرمشات وصلصة الغواكامولي، بل فكر في السؤال التالي: لمن تم تصميم هذه التكنولوجيا فعلياً؟ مَن أصحاب الأصوات المؤثرة في تطبيق هذه التكنولوجيا؟ وهل يمكن تحقيق العدالة دائماً من خلال الاستعانة بالدقة التكنولوجية؟

والأفضل من ذلك أن تطرح هذه الأسئلة خارج إطار كأس العالم، وخارج إطار الاستمتاع باللعبة الجميلة، فالحياة أيضاً لعبة.

المحتوى محمي