تكنولوجيا مراقبة الموظفين: وسيلة لتعزيز الإنتاجية أمْ تهديد للخصوصية؟

14 دقيقة
كيف يؤثّر الذكاء الاصطناعي في الاقتصاد السياسي؟
حقوق الصورة: shutterstock.com/Ar_TH

يتضمن يوم عمل كامل لدورا مانريكيز، التي تعمل سائقة لدى شركتي النقل التشاركي أوبر (Uber) وليفت (Lyft) في منطقة خليج سان فرانسيسكو، الانتظار في سيارتها حتى يظهر رقم مكون من منزلتين. إذ يواصل تطبيقا الشركتين إرسال رحلات زهيدة الأجر إليها، وهي زهيدة إلى درجة أنها لا تستحق الوقت الذي تستغرقه، حيث تحصل على 4 أو 7 دولارات مقابل رحلة عبر سان فرانسيسكو، و16 دولاراً مقابل رحلة من المطار يدفع الزبون لقاءها 100 دولار. لكن لا يمكن لمانريكيز الانتظار طويلاً لقبول رحلة، لأن معدل قبولها  للرحلات يسهم في تقييم درجتها في القيادة لدى كلتا الشركتين، ما قد يؤثر بعد ذلك في المزايا والحسومات التي يمكنها الحصول عليها.

إن الأنظمة الكامنة وراء التطبيقين بمثابة صناديق سوداء، ولا يمكن لمانريكيز أن تعرف على وجه اليقين أي نقاط البيانات التي تؤثر في العروض التي تتلقاها أو كيف تؤثر فيها. ولكن ما تعرفه هو أنها كانت تعمل سائقة لدى شركات النقل التشاركي على مدى الأعوام التسعة الماضية، وفي هذا العام، بعد أن وجدت نفسها عاجزة عن الحصول على عدد كافٍ من الرحلات ذات الأجور الأفضل، اضطرت إلى تقديم طلب إشهار إفلاس.

كل إجراء تتخذه مانريكيز -أو لا تتخذه- يُسَجَّل من خلال التطبيقات التي يجب أن تستخدمها للعمل لدى هاتين الشركتين. (قال متحدث باسم أوبر لمجلة إم آي تي تكنولوجي ريفيو إن معدلات القبول لا تؤثر في أجور السائقين. ولم تردّ شركة ليفت على طلب التعليق على هذا الأمر). لكن الشركات التي تعتمد على التطبيقات ليست الجهات الوحيدة التي تراقب العمال عن كثب حالياً.

اقرأ أيضاً: أداة ذكاء اصطناعي تتنبأ بموعد استقالة الموظفين

80% من الشركات تتتبع موظفيها

كشفت دراسة أُجريت في عام 2021، عندما أدت جائحة كوفيد-19 إلى زيادة كبيرة في عدد الأشخاص الذين يعملون من المنزل، أن نسبة 80% تقريباً من الشركات التي شملها الاستطلاع كانت تراقب عامليها الذين يعملون عن بعد أو يتبعون نظام العمل الهجين (أي يجمعون بين العمل عن بعد والعمل من المكتب). وقد وجد تحقيق أجرته صحيفة نيويورك تايمز (New York Times) في عام 2022 أن 8 شركات من بين الشركات الخاصة العشر الأكبر في الولايات المتحدة تتتبع مقاييس الإنتاجية لدى العمال الأفراد، وتتتبع الكثير منها في الزمن الحقيقي. والآن يمكن لبرامج متخصصة قياس -وتسجيل أيضاً- أنشطة العاملين عبر الإنترنت، وموقعهم الفيزيائي، وحتى سلوكياتهم مثل المفاتيح التي ينقرون عليها والنبرة التي يستخدمونها في مراسلاتهم المكتوبة، ولا يدرك الكثير من العاملين حدوث هذا النوع من التتبع.

إضافة إلى ذلك، قد تكون تطبيقات العمل الضرورية على الأجهزة الشخصية قادرة على الوصول إلى معلومات تتجاوز حدود المعلومات المتعلقة بالعمل. وكما نعلم من حياتنا الخاصة، يمكن أن تتحول معظم التكنولوجيات إلى تكنولوجيات مراقبة إذا تمكن الأشخاص الخطأ من الوصول إلى البيانات. وعلى الرغم من وجود بعض القوانين في هذا المجال، فإن تلك التي تحمي خصوصية العاملين أقل عدداً وأقل صرامة من تلك التي تنطبق على المستهلكين. في الوقت نفسه، من المتوقع أن تصل قيمة السوق العالمية لبرامج مراقبة الموظفين إلى 4.5 مليارات دولار بحلول عام 2026، مع استحواذ أميركا الشمالية على الحصة المهيمنة.

إن العمل اليوم -سواء في مكتب أو مستودع أم في سيارتك- قد يعني المراقبة الإلكترونية المستمرة مع القليل من الشفافية، وربما مع عواقب قد تقضي على مصدر رزقك إذا تراجعت إنتاجيتك.

قد يكون الأمر الأهم من تأثيرات هذه المراقبة الشاملة في الخصوصية هو: كيف تعمل هذه البيانات كلها على تغيير العلاقات بين العاملين والمدراء، والعلاقات بين الشركات والقوى العاملة لديها.

يستخدم المدراء والمستشارون الإداريون بيانات العاملين، بصورة فردية وإجمالية، لإنشاء خوارزميات الصندوق الأسود التي تحدد التوظيف والفصل من العمل، والترقية و"التسريح"، وهذا يمهد الطريق لأتمتة المهام، بل حتى فئات كاملة من العمالة، على نحو متواصل لا نهاية له لتحسين الإنتاجية. وقد بدأ بعض العاملين البشريين يكافحون بالفعل لمواكبة المُثُل العليا للروبوتات.

نحن نعيش الآن في خضم تحول في العلاقات على صعيد العمل ومكان العمل أيضاً لا يقل أهمية عن الثورة الصناعية الثانية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وقد تكون هناك حاجة إلى سياسات وإجراءات حماية جديدة لتصحيح توازن النفوذ.

البيانات بوصفها مركزاً للنفوذ

كانت البيانات جزءاً من قصة العمل المدفوع الأجر والنفوذ منذ أواخر القرن التاسع عشر، عندما كانت الصناعة مزدهرة في الولايات المتحدة وكان ارتفاع معدلات الهجرة يعني عمالة وفيرة وزهيدة التكلفة. وقد ابتكر المهندس الميكانيكي فريدريك وينسلو تايلور، الذي أصبح لاحقاً من أوائل المستشارين الإداريين، استراتيجية تسمى "الإدارة العلمية" لتحسين الإنتاج من خلال تتبع أداء العاملين ووضع معايير لهذا الأداء. وبعد فترة وجيزة، عمد هنري فورد إلى تقسيم عملية تصنيع السيارات إلى خطوات ميكانيكية لتقليل دور المهارة الفردية وزيادة عدد السيارات التي يمكن إنتاجها كل يوم إلى الحد الأقصى. لكنّ ثمة تاريخاً أطول لتحويل العاملين إلى أرقام. ويرى بعض الباحثين أن هناك صلة مباشرة بين التركيز المستمر من جانب تايلور وفورد على الكفاءة، وممارسات تحسين العمالة غير الإنسانية التي كانت تجري في المزارع التي تمتلك العبيد.

ومع تبني شركات التصنيع مذهبَ تايلور والمذاهب التي تلته، حلت الإنتاجية محل الوقت لتكون مقياساً للعمل، واتسعت فجوة النفوذ بين المالكين والعاملين في الولايات المتحدة. لكن سرعان ما ساعدت تطورات أخرى على إعادة التوازن. ففي عام 1914، أقرت المادة 6 من قانون كلايتون الحق القانوني الفيدرالي للعمال في تشكيل النقابات ونصت على أن "عمل الإنسان ليس سلعة". وفي الأعوام اللاحقة، ازدادت عضوية النقابات، وأُدرج أسبوع العمل المكون من 40 ساعة والحد الأدنى للأجور في القانون الأميركي.

وعلى الرغم من أن طبيعة العمل قد تغيرت مع الثورات التي شهدتها التكنولوجيا واستراتيجية الإدارة، فقد ظهرت أطر وإجراءات وقائية جديدة لمواكبة هذا التغيير.

اقرأ أيضاً: لماذا يُعدُّ الموظفون خط الدفاع الأول ضد التهديدات السيبرانية التي تستهدف الشركات؟

بعد مرور أكثر من 100 عام على نشر تايلور كتابه القيّم "مبادئ الإدارة العلمية" (The Principles of Scientific Management)، لا تزال كلمة "الكفاءة" (efficiency) مصطلحاً رناناً في مجال الأعمال، إضافة إلى أن التطورات التكنولوجية، بما في ذلك الاستخدامات الجديدة للبيانات، أوصلت العمل إلى نقطة تحول أخرى. لكن الحد الأدنى الفيدرالي للأجور وغيره من إجراءات حماية العمال لم يواكب هذه التطورات، ما جعل فجوة النفوذ أوضح. في عام 2023، كانت أجور الرؤساء التنفيذيين تعادل 290 ضعفاً من متوسط أجور العاملين، وهو تفاوت زاد بنسبة تفوق 1,000% منذ عام 1978. قد تؤدي البيانات الدور الوسيط نفسه في العلاقة بين رب العمل والعامل كما فعلت منذ مطلع القرن العشرين، لكن نطاق هذا الدور اتسع بحدة. وقد تكون المخاطر مرتبطة بالصحة البدنية.

في عام 2024، وجد تقرير صادر عن لجنة في مجلس الشيوخ بقيادة بيرني ساندرز، استناداً إلى تحقيق استمر 18 شهراً في ممارسات مستودعات أمازون (Amazon)، أن الشركة كانت تحدد وتيرة العمل في تلك المنشآت بخوارزميات الصندوق الأسود، التي من المفترض أنها خضعت للمعايرة بالاعتماد على البيانات التي جمعتها الشركة من خلال مراقبة الموظفين. (في ولاية كاليفورنيا، وبسبب قانون يعود إلى عام 2021، يتعين على شركة أمازون أن تكشف على الأقل عن الحصص والمعايير التي من المتوقع أن يمتثل العمال لها؛ وفي أماكن أخرى يمكن أن يظل المعيار غامضاً بالنسبة إلى الأشخاص أنفسهم الذين يكافحون من أجل الامتثال له). وجد التقرير أيضاً أنه في كل عام من الأعوام السبعة السابقة، كان احتمال إصابة عمال أمازون يعادل ضعفي احتمال إصابة عمال المستودعات لدى غيرها من الشركات تقريباً، حيث تراوحت الإصابات بين ارتجاج في المخ وتمزق في الكفة المدورة، وآلام الظهر الطويلة الأمد.

وجد فريق داخلي مكلف بتقييم سلامة مستودعات أمازون أن السماح للروبوتات بتحديد وتيرة العمل البشري كان مرتبطاً بالإصابات اللاحقة.

الروبوتات لتحديد وتيرة العمل

وجد تقرير ساندرز أنه بين عامي 2020 و2022 أوصى فريقان داخليان من أمازون مكلفان بتقييم سلامة المستودعات بخفض وتيرة العمل المطلوبة ومنح العمال المزيد من الراحة. ووجد فريق آخر أن السماح للروبوتات بتحديد وتيرة العمل البشري كان مرتبطاً بالإصابات اللاحقة. رفضت الشركة التوصيات كلها لأسباب إما فنية وإما إنتاجية. لكن التقرير يواصل الكشف عن أنه في عام 2022 أجرى فريق آخر في أمازون، يسمى كور أيه آي (Core AI)، عملية تقييم لسلامة المستودعات أيضاً، وخلص إلى أن الوتيرة غير الواقعية لم تكن السبب في إصابة هؤلاء العمال جميعهم في أثناء العمل. وقال فريق كور أيه آي إن السبب، بدلاً من ذلك، هو "الضعف البدني" و"القابلية الذاتية للإصابة". كانت المشكلة تكمن في أوجه القصور في الأجساد البشرية التي كانت الشركة تقيسها، وليس الضغوط التي كانت تعرّض تلك الأجساد لها. وقد تمسكت أمازون بهذا المنطق خلال التحقيق الذي أجراه الكونغرس.

قالت المتحدثة الرسمية باسم أمازون، مورين لينش فوغل، لمجلة إم آي تي تكنولوجي ريفيو إن تقرير ساندرز "خاطئ من حيث الحقائق" وإن الشركة مستمرة في خفض معدلات وقوع الحوادث. وأضافت قائلة: "الحقيقة هي أن توقعاتنا لموظفينا آمنة ومعقولة، وقد تولى أحد القضاة في واشنطن التحقق من صحة ذلك بعد جلسة استماع شاملة، وكذلك فعل مجلس استئناف التأمين الصناعي في الولاية".

كشفت دراسة أُجريت في عام 2021 أن نسبة 80% تقريباً من الشركات التي شملها الاستطلاع كانت تراقب عامليها الذين يعملون عن بعد أو الذين يتبعون نظام العمل الهجين.

مع ذلك، فإن هذا النمط من التفكير ليس حكراً على شركة أمازون، على الرغم من أنه يمكن اعتبار الشركة رائدة في مجال تحويل عناصر العمل إلى بيانات. (وجد أحد التحقيقات أنه على مدار عام واحد بين عامي 2017 و2018، فصلت الشركة مئات العمال في منشأة واحدة –عن طريق رسائل مُولدة تلقائياً- لعدم استيفائهم حصص الإنتاجية). ومؤخراً، نشرت شركة ناشئة مختصة بالذكاء الاصطناعي سلسلة من اللوحات الإعلانية ولافتات الحافلات في منطقة الخليج للترويج لفوائد منظوماتها الوكيلة المؤتمتة المخصصة للمبيعات (automated sales agents) التي تطلق عليها اسم "الحرفيين" (Artisans) مقارنة بالعمال البشر. وقد قالت إحدى هذه اللافتات: "لن يشتكي الحرفيون بسبب التوازن بين العمل والحياة". كما زعمت أخرى أنه "لن يأتي الحرفيون إلى العمل وهم يعانون آثار قضاء ليلة طويلة من السمر". وقالت أخرى دون مواربة: "توقفوا عن توظيف البشر".

توجهت قيادة الشركة الناشئة إلى مدونة الشركة لتقول إن الحملة التسويقية كانت استفزازية عمداً وإن شركة أرتيزان (Artisan) تؤمن بإمكانات العمالة البشرية. لكن الشركة أكدت أيضاً أن استخدام إحدى منظوماتها الوكيلة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي يكلف أقل بنسبة 96% من توظيف إنسان لتأدية العمل نفسه. لقد ضربت الحملة على وتر حساس: فعندما تكون البيانات هي العنصر المهيمن، قد لا يستطيع البشر -سواء كانوا عمال مستودعات أم عاملين في مجال المعرفة- التفوق على الآلات.

اقرأ أيضاً: إليك 5 من أبرز الأدوات التي تساعدك على تقييم أداء موظفيك

الإدارة بالذكاء الاصطناعي وإدارة الذكاء الاصطناعي

تقول الشركات التي تستخدم المراقبة الإلكترونية للموظفين إنها غالباً ما تتطلع إلى التكنولوجيات ليس فقط لزيادة الإنتاجية ولكن لإدارة المخاطر أيضاً، وتوفر برامج مثل تيرامايند (Teramind) أدوات وتحليلات للمساعدة على تحقيق كلتا الأولويتين. وعلى حين أن شركة تيرامايند، وهي شركة موزعة عالمياً، تحافظ على خصوصية قائمتها من الشركات العميلة التي تضم أكثر من 10000 شركة عميلة، فإنها توفر الموارد للقطاع المالي وقطاعات الرعاية الصحية وخدمة العملاء، من بين قطاعات أخرى، ويخضع بعض هذه القطاعات لمتطلبات امتثال صارمة قد يكون من الصعب تلبيتها. تتيح المنصة للعملاء تحديد معايير للإنتاجية تعتمد على البيانات، وتحديد عتبات للتنبيهات حول نبرة التواصل أو لغة التواصل المسيئة، وإنشاء أنظمة تتبع لمشاركة الملفات الحساسة، وغير ذلك.

تقول الرئيسة التنفيذية للتسويق في شركة تيرامايند، ماريا أوسيبوفا، إنه مع زيادة العمل عن بُعد والعمل الهجين، تحولت استراتيجية المنتجات في الشركة من تتبع الوقت المستغرَق في أداء المهام إلى مراقبة الإنتاجية والأمان على نطاق أوسع، لأن هذا ما يريده العملاء. تقول أوسيبوفا: "إنها مجموعة مختلفة من التحديات التي كان على الأدوات أن تتطور لمعالجتها مع انتقالنا إلى العمل الهجين بالكامل. نحن نتحدث عن الانتقال من ’التحقق من أن الأشخاص يعملون بالفعل‘ أو ’التحقق من الوقت الذي يقضونه في العمل‘ إلى ’إيجاد السبل التي تساعدهم على تقديم الأداء الأمثل‘. كيف يمكننا -بوصفنا مؤسسة- تمييز الأماكن الأفضل التي تجعلهم يعملون على أفضل وجه؟ وكيف يمكننا أن نفهم الأساليب المناسبة التي تجعلهم يعملون على أفضل وجه؟ وما هي الظروف التي تجعلهم يعملون على أفضل وجه؟ وأيضاً، كيف يمكنني التقليل من المخاطر في شركتي عندما أمنح هذا القدر من الثقة؟"

تتطلب حالات الاستخدام والمخاطر التي لا تعد ولا تحصى للعملاء منصة قوية للغاية يمكنها مراقبة أنواع متعددة من المدخلات. تقول أوسيبوفا: "لذا فكر في التطبيقات المستخدَمة. فكّر في القدرة على تشغيل المحادثات التي تجري عبر الفيديو أو الصوت وفق الحاجة، ولكن أيضاً مع قدر كبير من المرونة. الأمر ليس كما لو أن ثمة كاميرا تراقبك على الدوام". 

يعود اختيار التركيبة المناسبة من البيانات وضبطها إلى عملاء تيرامايند ويعتمد على حجم الشركة المعنية وأهدافها وقدراتها. إضافة إلى أن الشركات هي التي تقرر، بناءً على متطلباتها القانونية ومتطلبات الامتثال، التدابير التي يجب اتخاذها في حال تجاوز عتبات السلوك السلبي أو الأداء المنخفض.

المراقبة الإلكترونية تشعر العاملين بانعدام الأمان

ولكن بغض النظر عن مدى الحرص في تطبيق المراقبة الإلكترونية، فإن مجرد وجودها قد يجعل من الصعب على الموظفين الشعور بالأمان وتقديم أداء جيد. وقد أظهرت دراسات عديدة أن المراقبة تزيد كثيراً توتر العاملين ويمكن أن تؤدي إلى انهيار الثقة بين الشركة والقوى العاملة لديها. وقد وجد أحد استطلاعات الرأي التي أجريت في عام 2022 بين العاملين في مجال التكنولوجيا أن نصفهم تقريباً يفضلون الاستقالة على أن يخضعوا للمراقبة. وعندما يصبح للإدارة الخوارزمية دور فيما يجري، فقد يواجه الموظفون صعوبة أكبر في تحقيق النجاح، بل وحتى فهم معنى النجاح.

تقول نائبة مدير الأبحاث في النقابة المحلية للعاملين في الرعاية الصحية في الغرب التابعة للاتحاد الدولي لموظفي الخدمات (SEIU–United Healthcare Workers West) أو ما تسمى "سيو-أوهو" (SEIU-UHW) اختصاراً، وهي نقابة عمالية تضم أكثر من 100,000 عضو في كاليفورنيا، را كريسيتيلو، إن أحد أكثر الجوانب إثارة للقلق في هذه التطورات التكنولوجية هو كيفية تأثيرها في مراجعات الأداء. ووفقاً لكريسيتيلو، فقد اشتكى أعضاء النقابة من أنهم تلقوا رسائل من قسم الموارد البشرية حول بيانات لم يكونوا يعلمون حتى أنه يجري جمعها، وأنهم يخضعون للتقييم من خلال نماذج خوارزمية لا يفهمونها. تقول دورا مانريكيز إنها عندما بدأت العمل في قيادة السيارات لدى شركات النقل التشاركي أول مرة، كان هناك مكتب يمكنها الذهاب إليه أو الاتصال به إذا واجهت أي مشكلة. أما الآن، فيتعين عليها عموماً تقديم أي شكاوى عن طريق الرسائل النصية من خلال التطبيق، ويبدو أن أي رد يصدر عن نظام آلي. وتقول عن بوتات الدردشة: "إنها تتعطل في بعض الأحيان وتقول: أنا لا أفهم ما تقولينه. هل يمكنك تكرار ذلك مرة أخرى؟"

 

يعيش الكثير من العاملين الذين يعتمدون في عملهم على التطبيقات في خوف من أن تطردهم الخوارزمية الحاكمة من المنصة في أي لحظة، وفي بعض الأحيان، دون وجود أي وسيلة للجوء إلى إنسان يمكنه إنصافهم.

السيطرة على العاملين 

أيضاً، شهدت مديرة حملات العاملين في مركز العمل من أجل العرق والاقتصاد (Action Center for Race and Economy) أو "أكري" (ACRE) اختصاراً، فيرونيكا أفيلا، تولي الإدارة الخوارزمية مهام المشرفين البشر في شركات مثل أوبر. وتقول: "لم تعد المسألة مجرد مراقبة تقليدية للعمل، بل تحولت إلى آلية متطورة للغاية تمارس السيطرة على العاملين".

تصف مؤسسة أكري وغيرها من مجموعات المناصرة ما يحدث بين الشركات القائمة على التطبيقات بأنه "أزمة تسريح" لأن الكثير من العاملين يعيشون في خوف من أن الخوارزمية الحاكمة ستطردهم من المنصة في أي لحظة استجابةً منها لمؤشرات محفزة مثل تقييمات السائق المنخفضة أو المخالفات المرورية البسيطة، وغالباً ما يحدث ذلك دون تفسير واضح ودون وجود وسيلة للجوء إلى إنسان يمكنه إنصاف العامل.

تقول مديرة تحالف أثينا (Athena Coalition)، الذي ينظم -من بين أنشطة أخرى- المبادرات الداعمة لعمال أمازون، ريان غيريتي، إن العمال في تلك المستودعات يواجهون نهجاً مستمراً من المراقبة والتقييم والإجراءات التأديبية بناءً على سرعتهم وأدائهم فيما يتعلق بالحصص التي قد يعلمون -أو لا يعلمون- بشأنها. (في عام 2024، فُرِضَت غرامة على أمازون في كاليفورنيا لإخفاقها في الكشف عن الحصص للعمال الذين كان مطلوباً منهم الوفاء بها) تقول غيريتي: "لا يبدو الأمر أنك تخضع للمراقبة فقط. بل يبدو أن كل ثانية محسوبة، ومع مرور كل ثانية قد تتعرض للطرد".

كما تعمل المراقبة والإدارة الإلكترونية على تغيير وظائف العمل الحالية في الزمن الحقيقي. حيث يتعين على عملاء تيرامايند تحديد الجهة التي ستتعامل مع بيانات الموظفين وتتخذ القرارات المتعلقة بها في شركتهم. وتقول أوسيبوفا إنه اعتماداً على نوع الشركة واحتياجاتها، قد تكون تلك الجهة هي قسم الموارد البشرية أو تكنولوجيا المعلومات أو الفريق التنفيذي أو مجموعة مختلفة تماماً، وسوف تتغير تعريفات هذه الأدوار مع هذه المسؤوليات الجديدة.

يمكن أن تتغير مهام العاملين أيضاً مع التكنولوجيا الجديدة، وأحياناً دون سابق إنذار. ففي عام 2020، عندما أجرت شبكة مستشفيات كبرى تجربة لاستخدام الروبوتات لتنظيف الغرف وتقديم الطعام إلى المرضى، سمعت كريسيتيلو من أعضاء نقابة سيو-أوهو أنهم كانوا مرتبكين بشأن كيفية العمل جنباً إلى جنب مع الروبوتات، ومن المؤكد أن العاملين لم يتلقوا أي تدريب على ذلك. تقول كريسيتيلو: "لا يتعلق الأمر بأن الروبوتات تحل محل العامل البشري، بل يتعلق بتحديد مدى مسؤولية العامل البشري إذا تعرض شخص ما لمشكلة طبية بسبب تقديم الصينية الخاطئة إليه، حيث إن العامل البشري يشرف على الروبوت، فهو يعمل في طابقه".

وجد تحقيق أجرته صحيفة نيويورك تايمز في عام 2022 أن 8 شركات من بين الشركات الخاصة العشر الأكبر في الولايات المتحدة تتتبع مقاييس الإنتاجية لدى العمال الأفراد، وتتتبع الكثير منها في الزمن الحقيقي.

وتشهد الممرضات أيضاً توسعاً في وظائفهن لتشمل إدارة التكنولوجيا. تقول كارمن كومستي من نقابة العاملين في التمريض الوطنية المتحدة (National Nurses United)، وهي أكبر نقابة للعاملين في مجال التمريض في البلاد، إنه على الرغم من أن الإدارة لا تقول صراحةً إن الممرضات (والممرضين بطبيعة الحال) سيتعرضن لإجراءات تأديبية بسبب الأخطاء التي تقع مع دمج الأدوات الخوارزمية مثل أنظمة تسجيل النصوص أو آليات فرز المرضى التي تعمل بالذكاء الاصطناعي في سير عملهن، إلا أن هذا ما يحدث عملياً. تقول كومستي: "إذا تعطلت الشاشة واتبعت الممرضة الخوارزمية وكانت النتيجة غير صحيحة، فسيقع اللوم على الممرضة بسبب تلك النتيجة". لا يمكن للممرضات ونقاباتهن الوصول إلى الآليات الداخلية للخوارزميات، لذلك من المستحيل تحديد البيانات التي جرى تدريب هذه الأدوات أو غيرها من الأدوات عليها، أو تحديد إن كانت البيانات المتعلقة بكيفية عمل الممرضات حالياً ستُستخدم لتدريب أدوات خوارزمية مستقبلية. لقد أصبحت الأدوار الوظيفة المتمثلة بالعامل أو المدير أو حتى زميل العمل تحمل معاني متغيرة، ولا يمتلك العاملون في الخطوط الأمامية معلومات معمقة تساعدهم  على التنبؤ بتوجهاتها المستقبلية.

حالة القانون والطريق إلى الحماية

حالياً، لا يوجد الكثير من اللوائح التنظيمية بشأن كيفية جمع الشركات لبيانات العاملين واستخدامها. وعلى حين أن النظام الأوروبي العام لحماية البيانات(GDPR) يوفر بعض الحماية للعاملين في أوروبا، لا توجد قوانين فيدرالية أميركية توفر حماية دائمة لخصوصية العاملين من المراقبة الإلكترونية أو تفرض إجراءات وقائية صارمة لتطبيق استراتيجيات الإدارة القائمة على الخوارزميات والتي تعتمد على البيانات الناتجة. (يسمح قانون خصوصية الاتصالات الإلكترونية للشركات بمراقبة الموظفين إذا كانت هناك أسباب مهنية مشروعة وإذا كان الموظف قد أعطى موافقته بالفعل من خلال عقد مثبت؛ ويمكن اعتبار تتبع الإنتاجية سبباً مهنياً مشروعاً).

غير أنه في أواخر عام 2024، أصدر مكتب الحماية المالية للمستهلكين توجيهاً للشركات التي تستخدم النقاط الخوارزمية أو التقارير القائمة على المراقبة بوجوب اتباع قانون الإبلاغ الائتماني العادل -الذي كان ينطبق في السابق على المستهلكين فقط- من خلال الحصول على موافقة العاملين وتوفير الشفافية بشأن طبيعة البيانات التي يجري جمعها وكيفية استخدامها. وقد اقترحت خطة إدارة بايدن لوثيقة حقوق الذكاء الاصطناعي أن الحقوق المذكورة يجب تطبيقها في سياقات التوظيف. لكن أياً من هذه الحقوق لا يشكل قانوناً.

حتى الآن، يجري تقديم اللوائح الملزمة في ولاية تلو الأخرى. ففي عام 2023، جرى توسيع نطاق قانون خصوصية المستهلك في كاليفورنيا (CCPA) رسمياً ليشمل العاملين، وليس المستهلكين فقط، في حمايته، على الرغم من استبعاد العاملين على وجه التحديد عندما جرى إقرار القانون أول مرة. وهذا يعني أنه يحق للعاملين في كاليفورنيا الآن معرفة البيانات التي تُجمع عنهم ولأي غرض، ويمكنهم طلب تصحيح تلك البيانات أو حذفها. تعمل ولايات أخرى على اتخاذ تدابيرها الخاصة. لكن في حالة أي قانون أو توجيه، سواء على المستوى الفيدرالي أم على مستوى الولاية، فإن الواقع يتعلق بإنفاذ هذه القوانين والتوجيهات. تقول كريسيتيلو إن سيو يختبر تدابير الحماية الجديدة لقانون خصوصية المستهلك في كاليفورنيا.

وتضيف قائلة: "من السابق لأوانه الجزم بالأمر، لكن استنتاجي حتى الآن هو أن المسؤولية تقع على عاتق العاملين. تحاول النقابات أن تملأ فراغ هذه الوظيفة، ولكن لا توجد طريقة طبيعية تتيح للعامل في الخطوط الأمامية معرفة كيفية رفض الموافقة على جمع البيانات، أو كيفية طلب البيانات المتعلقة بما تجمعه الشركة التي يعمل لديها. ثمة فجوة تعليمية حول ذلك الأمر". وعلى حين يغطي قانون خصوصية المستهلك في كاليفورنيا جانب الخصوصية في المراقبة الإلكترونية، فإنه لا يذكر شيئاً عن كيفية استخدام الشركات أي بيانات يجري جمعها لأغراض الإدارة.

ضرورة توفير ضوابط أمان 

يُعزى الضغط من أجل توفير إجراءات حماية وضوابط أمان جديدة بدرجة كبيرة إلى العمالة المنظمة. فالنقابات مثل سيو ونقابة العاملين في التمريض الوطنية المتحدة تعمل مع المشرعين لوضع سياسات بشأن حقوق العاملين في مواجهة الإدارة الخوارزمية. وقد كانت مجموعات المناصرة القائمة على التطبيقات تدفع باتجاه فرض معدلات جديدة للحد الأدنى للأجور وتناهض سرقة الأجور، وتحقق نجاحات في هذا المجال. ثمة نجاحات أخرى يمكن فعلياً أخذها بعين الاعتبار أيضاً. حيث يتعلق أحدها بالتحقق الإلكتروني من الزيارات (EVV)، وهو نظام يسجل المعلومات حول الزيارات المنزلية التي ينفذها مقدمو الرعاية الصحية. لقد فرض قانون علاجات القرن الحادي والعشرين، الذي جرى توقيعه ليصبح قانوناً في عام 2016، على الولايات جميعها إنشاء مثل هذه الأنظمة للرعاية الصحية المنزلية التي يمولها برنامج ميدي كيد (Medicaid). وكان القصد من ذلك خلق المسؤولية والشفافية لخدمة المرضى على نحو أفضل، لكن بعض العاملين في مجال الرعاية الصحية في كاليفورنيا كانوا قلقين من أن تكون المراقبة جائرة ومزعجة لهم وللأشخاص الذين يتلقون رعايتهم.

تقول مديرة السياسات والبحوث على مستوى الولاية للعاملين في مجال الرعاية الطويلة الأجل في سيو، براندي وولف، إن النقابة تمكنت، بالتعاون مع مجموعات حقوق أصحاب الإعاقة ومجموعات الدفاع عن المرضى، من وضع كلمات وجمل معينة في تشريع جرى إقراره خلال الفترة 2017-2018 وأصبح ساري المفعول في السنة المالية التالية. حيث أشارت هذه الإضافات اللغوية إلى الحكومة الفيدرالية أن كاليفورنيا ستمتثل للمطلب المذكور في القانون، غير أنها أشارت أيضاً إلى أن نظام التحقق الإلكتروني من الزيارات سيؤدي على نحو أساسي وظيفة ضبط الوقت وليس وظيفة إدارية أو تتعلق بالإجراءات التأديبية.

حالياً، يقول المناصرون إن الجهود الفردية للتصدي للمراقبة الإلكترونية أو تفاديها ليست كافية؛ فالتكنولوجيا منتشرة على نطاق واسع جداً والمخاطر كبيرة للغاية. يؤثر اختلال موازين النفوذ وانعدام الشفافية في العاملين بمختلف الصناعات والقطاعات، بدءاً بالسائقين المتعاقدين وموظفي المستشفيات النقابيين وصولاً إلى العاملين في مجال المعرفة الذين يتقاضون أجوراً مجزية. تقول واحدة من كبار المحامين في فريق عمل باورسويتش أكشن (PowerSwitch Action)، وهي شبكة من المنظمات العمالية الشعبية، مينسو لونغيارو، إن القضية المطروحة هي "اقتصاد العمل الأخلاقي" في الولايات المتحدة، أي الاقتصاد القائم على القيم الإنسانية وليس فقط على رأس المال. تعتقد لونغيارو أن هناك حاجة ملحة لموجة من السياسات الحمائية الاجتماعية على مستوى تلك التي نشأت عن الحركة العمالية في أوائل القرن العشرين. وتضيف قائلة: "نحن في لحظة حاسمة الآن، إذ نحتاج بصفتنا مجتمعاً إلى رسم خطوط حمراء وواضحة، وحيث يمكننا أن نقول بوضوح إن مجرد قدرتنا على فعل شيء تكنولوجي لا يعني أننا يجب أن نفعله بالضرورة".

على غرار الكثير من التطورات التكنولوجية التي ظهرت من قبل، فإن المراقبة الإلكترونية والاستخدامات الخوارزمية للبيانات الناتجة عنها لا تغير الطريقة التي نعمل بها من تلقاء نفسها. فالأشخاص الذي يتمتعون بالنفوذ هم الذين يحركون هذه الخيوط. وقد يكون ترجيح كفة الميزان مرة أخرى لصالح العمال هو المفتاح لحماية كرامتهم واستقلاليتهم مع تسارع وتيرة التكنولوجيا.

تقول لونغيارو: "عندما نتحدث عن قضايا البيانات هذه، فإننا لا نتحدث فقط عن التكنولوجيا. فنحن نقضي معظم حياتنا في مكان العمل. وهذه المسألة تتعلق بحقوقنا الإنسانية".

المحتوى محمي