تشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن 55% من سكان العالم يعيشون اليوم في المناطق الحضرية، ويُتوقع أن تزداد هذه النسبة إلى 68% بحلول عام 2050، أي زيادة سكانية بمعدل 2.5 مليار نسمة تقريباً. ومع استمرار توسع المدن حول العالم وفي ظل محدودية الموارد المتاحة، يتطلب التوسع الحضري السريع وجود طريقة تفكير جديدة تدعم الانتقال نحو مدن أكثر استدامة وذكاءً ومراعاة للبيئة.
وفي ضوء ما سبق، يشهد العالم في عصرنا الحالي نقلة كبيرة نحو المدن الذكية، وهي مدن جددت الطريقة التي اعتدنا العيش فيها لقرون عديدة وساهمت في مواجهة التحديات التي تفرضها مسألة التوسع الحضري. ومن خلال تبني تكنولوجيا المعلومات والاتصالات المتكاملة والمؤتمتة، تهدف المدن الذكية إلى تطوير مهام المدن وتعزيز النمو الاقتصادي وتحقيق أهداف الاستدامة والارتقاء بجودة الحياة للجميع.
اقرأ أيضاً: كيف تخطط مصر لإنشاء عشرات المدن الذكية لاستيعاب الزيادة السكانية المتوقعة؟
تكنولوجيا النانو في المدن الذكية
وبشكل عام، إن فكرة المدن الذكية تشمل وجود أنظمة نقل أكثر كفاءة وبأثر أقل على البيئة، ومبانٍ سكنية تستهلك الطاقة بصورة أقل، وتوفير خدمات عامة مُدارة بشكل أفضل، مثل الغاز والمياه والكهرباء. وتقوم حالياً أغلب المدن حول العالم بتوظيف التكنولوجيا الحديثة التي تساهم في تعزيز النماذج أو البنى التحتية الحالية، بينما ستتطلب المدن الذكية المستقبلية تحولاً تكنولوجياً كاملاً وليس فقط تحسين التقنيات والشبكات الذكية أو البنى التحتية الموجودة من الأساس، وهنا يأتي دور تكنولوجيا النانو للمساعدة على تسهيل التوجه نحو المدن الذكية وتسريعه.
لا تعد تكنولوجيا النانو علماً جديداً بحد ذاته، إنما ترسيخاً لعلوم وتكنولوجيا موجودة بالفعل، كما أنها تمثل التقدم المنطقي للأعمال المنجزة لتحليل طبيعة العالم على نطاق أصغر. وتمتلك تكنولوجيا النانو القدرة على تحويل المدن باستخدام مختلف المواد النانوية لبناء المباني والبنى التحتية الذكية وتخزين الطاقة وإصلاح البيئة وغير ذلك. ويمكن أيضاً الاستفادة من هذه التكنولوجيا في مجالات الهندسة المدنية والتصميم والبناء، إذ إنها تساعد في تسريع عملية البناء وجعلها أكثر أماناً وتوفيراً للتكلفة.
ولضمان تقدّم المدن والشبكات الذكية بشكل أكبر، لا بد من توفير إمكانية الوصول إلى بيانات عالية الدقة، وهنا تؤدي أجهزة الاستشعار النانوية دوراً رئيسياً نظراً لامتلاكها حساسية ودقة أكبر بأشواط من أجهزة الاستشعار غير النانوية. وتستفيد تكنولوجيا النانو من قدراتها متناهية الصغر التي تسمح لتلك المستشعرات الصغيرة بمعالجة كميات هائلة من البيانات عبر منصات متعددة. وباستخدام أجهزة الاستشعار النانوية، ستساهم تكنولوجيا النانو في تعزيز المدن الذكية في المستقبل من خلال إدخال البيانات الأكثر دقة في البرامج المعقدة.
اقرأ أيضاً: كيف تستفيد المدن الذكية من الحوسبة الموزعة لتسهيل الوصول إلى الخدمات؟
وستساهم تكنولوجيا النانو في المدن الذكية أيضاً عن طريق إنترنت الأشياء النانوية، والتي تشكل نقطة التقاء بين تكنولوجيا النانو وإنترنت الأشياء وحلول الثورة الصناعية الرابعة. وكما هو الحال في إنترنت الأشياء، تستخدم تكنولوجيا إنترنت الأشياء النانوية شبكات الاستشعار، والمراكز لتجميع البيانات، وتستخدم أجهزة التوجيه لإرسال البيانات عبر مسافات طويلة، فضلاً عن اتباع الأساليب البرمجية المتقدمة. لا يمكن لإنترنت الأشياء النانوية نقل نفس الكميات الضخمة من البيانات التي تنقلها شبكات بيانات إنترنت الأشياء، إلا أنها ستبرز كأداة فعالة أكثر ملاءمة للأنظمة الأصغر حجماً، مثل تطبيقات المراقبة عن بعد والمراقبة البيئية والتطبيقات والأجهزة الطبية.
هياكل مبانٍ نانوية
يعد البناء جانباً مهماً لنمو أي منطقة حضرية متطورة، وفي هذا الإطار، تتيح تقنية أتمتة المباني عبر تكنولوجيا النانو إمكانية بناء مجموعة واسعة من الهياكل، تمتد من المنازل المتقدمة وحتى ناطحات السحاب، بسرعة أكبر وبتكلفة أقل وبكفاءة أفضل. وتساهم هذه التكنولوجيا أيضاً في رفع مستوى المتانة والأداء للعديد من مكونات البناء وضمان كفاءة الطاقة وسلامة الهياكل وتسهيل الصيانة والارتقاء بمستوى الرفاه المعيشي. إن استخدام الجسيمات النانوية الاصطناعية التي تغير البنية البلورية للإسمنت من خلال تطبيقات متقدمة قد يتيح مفاهيم معمارية أكثر إبداعاً وارتفاعات وأشكال جديدة للمباني، ولن يكون التسليح بالفولاذ ضرورياً للمباني لأن الهياكل ستمتلك القوة الكافية لدعم نفسها باستخدام مكونات مصنوعة من مواد أخرى.
وقد أصبحت المباني التي تستخدم المواد المدعومة بالنانو أكثر مرونةً ومقاومةً للظروف القاسية والملوثات والكوارث الطبيعية مثل الزلازل وموجات التسونامي. وستتمكن تكنولوجيا النانو قريباً من التنبؤ بالفشل ذاتياً واستشراف طرق لبناء مشاريع البنية التحتية الأساسية.
اقرأ أيضاً: كيف تساعد إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي في رسم ملامح المدن الذكية؟
وعلاوة على ذلك، يمكن استخدام تكنولوجيا النانو لتصنيع نوع خاص من الزجاج يحتوي على طبقة فائقة الرقة من الطلاء لتزويده بخاصية التنظيف الذاتي، إذ إن وجود جسيمات نانوية مخروطية الشكل على سطح الزجاج يحبس الهواء ويسمح فقط لكمية صغيرة من جزيئات الماء بالاحتكاك بالسطح، وفي حين تلتصق قطرات المطر بأسطح الزجاج التقليدي وتترك خطوطاً من الغبار تنزلق ببطء، يمكن للزجاج المزود بخاصية التنظيف الذاتي مسح الغبار والأوساخ عن سطحه، وهو يتطلب صيانة محدودة جداً، ما يخفض نفقات تنظيف النوافذ في المباني المرتفعة. ويمكن استخدام هذه التكنولوجيا لصناعة ألواح شمسية وواجهات مباني ذاتية التنظيف، إضافة إلى الزجاج ذاتي التنظيف.
يعتمد مستقبل تكنولوجيا النانو على مساهماتها في التنمية المستدامة عالمياً، ويتمثل التحدي التالي للسوق في دراسة المزيد من التطبيقات المستقبلية لتكنولوجيا النانو في بناء مدن أكثر ذكاءً. ويحتاج البحث في ذلك الموضوع إلى التمكين لإنشاء قاعدة مستقرة لنموه وتحسين آثاره التحفيزية بهدف تلبية الاحتياجات الأهم في مجالات الطاقة والبيئة والرعاية الصحية والتصنيع المتقدم والذكاء الاصطناعي.