لو بحثنا في قصة نشوء أي تقنيةٍ من التقنيات التي نستخدمها اليوم، فإننا سنجد مقالاتٍ أو فيديوهاتٍ تسرد لنا بشكل مطوّل قصةَ باحثٍ أو مجموعة من الباحثين وعملهم الطويل والشاق وتجاربهم المختلفة التي أدت بالنتيجة لحصولنا على ابتكارٍ جديد، سواء كان جهازاً أو آلة أو حتى برمجيات متطورة، ونحن نتفق إلى حدٍ كبير مع الفكرة القائلة بأن أي ابتكار جديد أو تقنية بارزة ستكون نتيجة عملٍ طويل قد يمتد لسنوات قبل نجاحه. بغمرة هذه التفاصيل ننسى ببعض الأحيان الحديث عن عاملٍ آخر قد يلعب دوراً هاماً في مسيرة الابتكار؛ وهنا نتحدث عن الخيال.
لطالما كانت المخيلة جزءاً من رحلة البحث العلميّ نفسها، فهي شكلٌ من أشكال الفضول الذي نبديه جميعاً متسائلين عن سبب كون بعض الأمور كما هي؛ بدأت البشرية بأسئلةٍ بسيطة حول كيفية صنع النار، وسبب ظهور الشمس والقمر، حتى وصلنا اليوم للقمر نفسه، وقد نصل قريباً للشمس. مع تقدم العلم وتقدم التقنيات، أصبح بالإمكان التساؤل وخلق فضولٍ عن أمورٍ أكثر من قبل بكثير، وهكذا حتى ظهر روائيون عظماء مثل الفرنسي جول فيرن الذي دفعه فضوله لتخيل رحلاتٍ وقصصٍ بدت في القرن التاسع عشر ضرباً من الجنون، بينما أصبح بعضها بالنسبة لنا اليوم واقعاً نألفه ونعرفه.
ولكن لماذا نكتفي بالقصص؟ لماذا نكتفي بتفعيل المخيلة عبر القراءة عندما نكون قادرين على ذلك عبر مشاهد بصرية؟ وهكذا، ومع تطور تقنيات التصوير السينمائي وتزايد انتشار دور السينما في القرن الماضي، تزايد أيضاً عدد المخرجين الحالمين الذين أرادوا نقل فضولهم وأفكارهم الخيالية -آنذاك- لتصبح فيلماً نستطيع مشاهدته والإحساس بتفاصيله ونعيش واقعاً جديداً بكل ما يمتلكه من تفاصيل.
لنعد قليلاً إلى البداية: بدأ حديثنا حول الفضول والمخيلة ودورهما في دفعنا كبشر للاستكشاف والبحث، وما سنقوم به هنا هو تسليط الضوء على مجموعةٍ من أفلام الخيال العلميّ وما تضمنته من أفكارٍ تحولت لواقعٍ نعيشه ونألفه. هل نستطيع الجزم بأن هذه الأفلام كانت الدافع الفعليّ للعلماء أو التقنيين ليقوموا بعملهم؟ قطعاً لا، فالابتكار والتطوير له جوانب اقتصادية واجتماعية وصحية وحتى سياسية، ولكننا تعلمنا من سِيَر حياة العديد من المبتكرين والروّاد كيف أثرت عليهم الأفكار الجديدة و"المستحيلة" في أفلام الخيال العلمي لتساهم في إنشاء فضولهم المعرفيّ.
1- رحلة إلى القمر (A Trip to the Moon)
فيلم رحلة إلى القمر للمخرج الفرنسيّ جورج ميلييه (الاسم الأصلي للفيلم بالفرنسية Le Voyage dans La Lune) هو واحدٌ من الأفلام التي تركت تأثيراً على تاريخ السينما كله، وليس فقط على مجال أفلام الخيال العلميّ.
تم عرض الفيلم لأول مرة سنة 1902، في وقتٍ كانت السينما بحد ذاتها في بداياتها، وكانت الأفلام عبارة عن مشاهد بالأبيض والأسود ولا تمتلك حتى أي مؤثراتٍ صوتية، وبالنسبة للحدث وكلام الممثلين، فلم يتوافر وقتها أي تقنياتٍ لتسجيلها ومزامنتها مع المشاهد المرئية. وبالرّغم من ذلك، وعبر الاستلهام من رواية الكاتب الفرنسيّ الشهير جول فيرن "من الأرض إلى القمر"، تمكن جورج ميلييه (مخرج الفيلم) من ابتكار قصةٍ لمجموعة من البشر الذين قرروا الذهاب إلى القمر عبر كبسولةٍ تطلق ضمن مدفع، ثم عرض مشاكلهم مع سكان القمر الأصليين، وأخيراً عودتهم إلى الأرض.
مثل هذا الفيلم يعد أول تنبؤٍ فعليّ بعمليات استكشاف الفضاء، في وقتٍ لم تظهر فيه الطائرة بعد، وحتى المعارف الفيزيائية المتاحة كانت لا تزال معتمدة على الميكانيك الكلاسيكي، وبذلك -وبغياب أي بيئةٍ علمية أو تقنية مُساعدة- أخذ هذا الفيلم البشر لمجالٍ آخر تماماً، وعرضَ ما كان من المستحيلات غير القابلة للتصور بمقاييس ذلك الزمان. بالنسبة للصعود على القمر، فإنه قد تم سنة 1969 عبر رحلة أبولو 11 الشهيرة من وكالة الفضاء والطيران الأميركية ناسا، وبالنسبة للفضاء نفسه، فإن مجال استكشاف الفضاء قد تعدى حدود مجموعتنا الشمسية عبر المستكشفة فوياجر-2 التي دخلت في شهر نوفمبر من سنة 2018 الفضاءَ البينجمي، أي أنها أصبحت رسمياً خارج مجموعتنا الشمسية.
2- ميتروبوليس (Metropolis)
لا يمثل فيلم متروبوليس الذي تم عرضه أول مرة سنة 1927 للمُخرج الألماني فريتز لانج فيلم خيال علمي من ناحية فحوى القصة التي كانت تهدف لتسليط الضوء على مشاكل الصراع الطبقيّ، ولكنه يُعتبر من أفلام الخيال العلمي الرائدة التي تركت بصمةً كبيرة في تاريخ السينما.
التقييم الفنيّ للفيلم بمعايير وقتنا الحاليّ سيكون ظالماً بكل تأكيد؛ فهو مثل فيلم رحلة إلى القمر مصور بالأبيض والأسود، صامت ولو أنه امتلك مؤثراتٍ صوتية. القيمة الكبيرة لهذا الفيلم تعود لكونه أولَ من عرض مفهوم البشر الآليين، أو ما نطلق عليه مجازاً: الروبوتات، حيث يُظهر الفيلم كيفية اصطناع جسمٍ آليّ بالكامل مصنوعٍ من المعدن قادر على الحركة ليمثل ماريا، إحدى الشخصيات الأساسية في الفيلم. بتلك الحقبة لم تظهر بعد الحواسيب ولا الآلات القابلة للبرمجة ولا حتى الترانزيستورات، ولذا مثَّل الروبوت ماريا قفزةً كبيرة في الأفكار التخيلية. بعد فترةٍ قصيرة من عرض الفيلم، بدأت نماذج البشر الآليين تظهر، التي كان أولُها نموذج هربرت تيليفوكس الذي عُرض لأول مرة سنة 1927، ثم تبعه النموذج الشهير إليكترو Elektro الذي تم عرضه في معرض نيويورك العالميّ سنة 1939.
بالحديث عن الروبوتات الرقمية القابلة للبرمجة، فإن ظهورها تأخر حتى سنة 1961، عندما تم إطلاق الذراع الشهيرة أونيمات Unimate، التي تابعت تطورها بالترافق مع تطوراتٍ أخرى في المجال التقنيّ مثل ظهور الذكاء الاصطناعيّ وتحسّن صناعة شرائح المعالجة، حتى حصلنا على الروبوت الآلي الذكيّ أسيمو Asimo من شركة هوندا اليابانية، الذي تم إطلاقه لأول مرة سنة 2000، ويُعتبر اليوم أحد أشهر الأمثلة على الروبوتات المحاكية للبشر والقادرة على تأدية مهام حركية معقدة واتخاذ القرارات بنفسها. أخيراً، وفي سنة 2016، تم الكشف عن الروبوت الشهير صوفيا المزوّد بجلد اصطناعي سليكونيّ يتيح لصوفيا التفاعل مع البشر والحديث معهم وإبداء أكثر من 50 تعبيراً وجهياً مختلفاً.
3- ستارتريك (Star Trek)
سلسلة ستارتريك هي -من دون أدنى شك- إحدى أشهر السلاسل التلفزيونية المرتبطة بالخيال العلمي واستكشاف الفضاء، وذلك منذ عرضها لأول مرة سنة 1966 وحتى اليوم جنباً إلى جنب مع سلسلة الأفلام المرتبطة بها.
يمكن الحديث في مقالاتٍ متخصصة حول التقنيات الخيالية التي ظهرت في السلسلة، والتي تحوّلت لاحقاً لأجهزةٍ أو تطبيقات نستخدمها في الحياة اليومية، إلا أننا إذا أردنا التركيز على تقنيةٍ واحدة فقط، فإنها ستكون الهواتف النقالة -والذكية لاحقاً- التي ظهرت لأول مرة في السلسلة سنة 1966، حيث عرضت السلسلة استخدامَ سبوك (إحدى الشخصيات الأساسية) وزملائه لهاتفٍ قابلٍ للطيّ يمكن حمله ونقله ويتسع في الجيب، ومثّلت هذه التقنية إلهاماً كبيراً لمارتن كوبر، المهندس في شركة موتورولا، للعمل على تطوير أول هاتفٍ نقال سنة 1973، الذي أصبح متوافراً بشكلٍ تجاريّ للمرة الأولى سنة 1983.
وعلى الرّغم من هذا الإنجاز، كان هاتف موتورولا الأول بعيداً عن التصميم الجميل والخفيف للهاتف النقال الذي ظهر في ستارتريك، وتطلّب عملاً متواصلاً حتى تمكنت موتورولا من إطلاق الهاتف النقال ستارتاك StarTAC سنة 1996 الذي مثّل أول هاتفٍ قابلٍ للطيّ ذي تصميمٍ مشابهٍ لهاتف سبوك في ستارتريك.
4- 2001: ملحمة فضائية (2001: A Space Odessy)
لا يمكن إغفال فيلم 2001 ملحمة فضائية -الذي عُرض لأول مرة سنة 1968- عند الحديث عن أفلام الخيال العلميّ أو حتى تاريخ السينما ككل، فالفيلم الذي أخرجه أسطورة هوليوود ستانلي كوبريك هو إحدى أيقونات السينما وله مكانةٌ كبيرة عند المتابعين والنقاد على حد سواء؛ نظراً لمراعاته الدقيقة للعديد من النواحي العلمية المتعلقة باستكشاف الفضاء، وابتكار العديد من المؤثرات البصرية والصوتية أثناء تصويره.
بالنسبة للعالم التقنيّ، عرض الفيلم الكثير من التقنيات التي لم تكن موجودة في تلك الحقبة الزمنية، وأبرزها: إمكانية إجراء المكالمات المرئية، أي الاتصال عبر الفيديو، بطريقةٍ مشابهة تماماً لاستخدامنا لتطبيقات التراسل المرئيّ مثل سكايب، وذلك كما فعل البروفيسور فلويد -إحدى شخصيات الفيلم- عند إجرائه لمحادثة مع عائلته من محطةٍ فضائية تحوم حول الأرض. وعلى الرّغم من أن العمل على تطوير تقنية الاتصال عبر الفيديو لم يكن جديداً، وأن العديد من محاولات توفيرها كانت قد ظهرت في الثمانينيات والتسعينيات، ولكنها عانت من بطء الإرسال وانخفاض جودة الصورة. فعلياً، تم الانتظار حتى بداية القرن الحاليّ ليصبح الإنترنت متاحاً بشكلٍ أكبر -بالتوازي مع تطور الكاميرات المدمجة في الحواسيب المحمولة (ويب كام Webcam)- لنكون قادرين على إجراء محادثاتٍ مرئية مع عائلاتنا وأصدقائنا كما فعل البروفيسور فلويد.
وبالإضافة إلى القدرة على إجراء مكالمات الفيديو، عرض الفيلم تقنيةً أخرى بشكلٍ جذابٍ وأنيق تطلبت بعض الوقت لتصبح متوافرة بشكلٍ تجاريّ: الحواسيب اللوحية. عرض الفيلم حاسباً لوحياً ذا أداء متقدم أثناء الرحلة إلى كوكب المشتري، وهي تبدو مشابهة بشكلٍ كبير للحاسب اللوحيّ الشهير من آبل، الآيباد. وعلى الرغم من أن تقنية الشاشات التي تعمل باللمس عبر الأقلام كانت قيد التطوير، وعلى الرّغم من ظهور العديد من الأجهزة التجارية في الثمانينيات والتسعينيات التي توفّر تقنيات التحكم عبر الأقلام اللمسية، وحتى ومع ظهور الهواتف النقالة المزودة بالأقلام اللمسية، إلا أن إطلاق جهاز الآيباد من آبل سنة 2010 هو ما مثّل النقلة النوعية في مجال الحوسبة اللمسية.
5- الناهي The Terminator
تحتوي سلسلة أفلام الناهي على مجموعةٍ من الأفكار الرائعة والمرتبطة بعلاقة البشر مع الروبوتات، وهي تتضمن أيضاً الكثير من أفكار الخيال العلميّ مثل السفر عبر الزمن، وتفتح الباب أمامنا للتساؤل حول إمكانية تطور الروبوتات الذكية للحد الذي قد تهدد فيه وجودنا، وحتى اليوم، فإنه يمكننا القول بأننا آمنون من الروبوتات والذكاء الاصطناعي، ولذلك لا يمكن اعتبار فيلم الناهي قد تنبأ بتقنيةٍ مستقبلية.
على صعيدٍ آخر، عرض الفيلم أجهزةً أخرى متطورة وخيالية بذلك الوقت، والحديث هنا حول الطائرات المسيرة (الطائرات بلا طيار) القادرة على الحركة وحدها والعمل كطائراتٍ مقاتلة. لم يتأخر هذا التنبؤ طويلاً؛ إذ تمكن الجيش الأميركيّ من امتلاك تقنية الطائرات المقاتلة بلا طيار بحلول عام 2001، التي يمكن توجيهها والتحكم فيها عن بعد لمهاجمة أهدافٍ محددة، وأصبحت اليوم هذه التقنية أحد أبرز مجالات التسلح والإنفاق العسكريّ، ولو أن مشهد الطائرة التي تلاحق سارة كونرز في فيلم الناهي بهدف قتلها قد بدا خيالياً، فإن العمل على تزويد الطائرات المقاتلة بلا طيار بقدرات الذكاء الاصطناعي قد بدأ بالفعل، بما يجعلها قادرة على التحليق والبحث عن الأهداف المطلوبة واستهدافها، وحدها دون تدخلٍ من البشر.
6- العودة إلى المستقبل Back to the Future
تزايدت شعبية أفلام الخيال العلميّ خلال ثمانينيات القرن الماضي التي شهدت العديد من الأفلام ذائعة الصيت، ومنها أفلام العودة للمستقبل بجزئيها الأول سنة 1985 والثاني 1989، وبالحديث عن التنبؤات المستقبلية، يبرز الجزء الثاني من الفيلم في الكثير من المقالات والتحليلات التي تظهر حجم التقنيات التي ظهرت فيه، والتي أصبحت حقيقية لاحقاً، تحديداً في سنة 2015 التي تدور أحداث الفيلم حولها؛ إذ يسافر أبطالها عبر الزمن إليها.
يتضمن الفيلم الكثير من التقنيات التي لم تكن متاحةً في ذلك الوقت، ولكن معظمها قد عرض سابقاً في أفلام خيال علمي أخرى، ولكن ما تميز به هو عرضه لتقنية الأجهزة الذكية القابلة للارتداء والنظارات وأدوات العرض التي يمكن ارتداؤها على الرأس، بالإضافة إلى الأحذية الذكية التي تستطيع ربط نفسها بنفسها. لم تتأخر التقنية كثيراً لتحقق تنبؤات الفيلم؛ إذ أصبحت الساعات الذكية وأجهزة الرشاقة البدنية مستخدمةً على نطاقٍ واسع، كما أن تقنية الواقع الافتراضيّ دخلت مجال الاستخدام التجاريّ عبر أنماطٍ مختلفة من النظارات القابلة للارتداء جنباً إلى جنب مع تقنية الواقع المعزز.
اقرأ أيضا: أفضل الأفلام الفرنسية.