على الرغم من التأثيرات السلبية الكبيرة التي فرضتها أزمة وباء كوفيد-19، إلا أنها حملت جانباً إيجابياً تمثَّل في تسريع تبني التحول الرقمي. فوفقاً لتقرير الأمم المتحدة -المستند إلى استبيان أكثر من 190 دولة في العالم- حول الحكومة الإلكترونية لعام 2020 الذي صدر مؤخراً، يبدو أن كوفيد-19 يدفع الحكومات إلى تقديم المزيد من الخدمات عبر الإنترنت. وأظهر التقرير أن 65% من الدول الأعضاء قد بلغتْ مستوى عالياً أو عالياً جداً في مؤشر تطوير الحكومة الإلكترونية (EGDI). وفي منطقتنا، أظهر التقرير أن 22% من البلدان المستطلَعة -بما فيها الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمملكة العربية السعودية والكويت وعُمان- كانت ضمن تصنيف (عالٍ جداً)، وقد حققت تحسناً في تصنيفها وانتقلت إلى مستوى أعلى في هذا المؤشر.
وفي إطار تغطيتنا لموضوع التحول الرقمي الحكومي، ولإلقاء ضوء أكبر على هذا التقرير، قمنا في إم آي تكنولوجي ريفيو العربية، بالتعاون مع هارفارد بزنس ريفيو العربية، بعقد جلسة حوارية بعنوان "الحكومة في العصر الرقمي". التقى خلالها حمود المحمود، رئيس تحرير هارفارد بزنس ريفيو العربية، بثلاثة خبراء من خلفيات متنوعة في مجال التحول الرقمي الحكومي وهم:
محمد سير، شريك مساعد واستشاري في مجال الحكومة الرقمية والقطاع العام، إيرنست ويونغ، الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
أربين كوريكيان، مسؤولة الحوكمة والإدارة العامة في قسم المؤسسات العامة والحكومة الرقمية في إدراة الأمم المتحدة للشؤون الاقتصادية والاجتماعية.
مارتا أرسوفسكا توموفسكا، رئيسة فريق المساءلة وتقديم التقارير ومستشارة تكنولوجيا المعلومات والحكومة الإلكترونية في مكتب رئيسة وزراء صربيا.
بدأت الجلسة بعرض تقديمي لكلٍّ من الضيوف، ثم دار نقاش في هيئة أسئلة وأجوبة للخوض في تفاصيل الموضوع.
محمد سير
لقد تغير العالم من حولنا بشكل كبير؛ فمنذ فترة قريبة كنا نعمل ونتواصل بشكل منفصل، أما اليوم فقد انتقلت الكثير من الأمور إلى مساحة على الإنترنت نقوم فيها بالكثير من الأمور باستخدام جهاز واحد فقط، وهو الهاتف الذكي. وعلاوة على ذلك، هناك مجموعة من القوى اليوم التي تسرّع من وتيرة هذا التغير؛ إذ إنه بحلول عام 2025، من المتوقع وجود 1.2 مليار اتصال بتقنية الجيل الخامس وأكثر من 40 مليار جهاز متصل بالإنترنت. ومن شأن ذلك أن يخلق كميات هائلة من البيانات؛ فكل 18 ثانية طوال اليوم سنُجري اتصالاً سواء بشكل شخصي أو بين أجهزتنا.
وهذا التغيير الكبير سيقودنا إلى عالم أسمّيه "العالم الرقمي العميق والغامض"، ننتقل فيه من مساحة على الإنترنت إلى مساحة افتراضية أو امتداد للعالم الحقيقي، حيث سنقوم بالكثير من الأنشطة في المستقبل. وإذا ما أخذنا الأمثلة التي استعرضها تقرير الأمم المتحدة حول تقنيات مثل إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية بعين الاعتبار، فأنا أعتقد أن كل ذلك سيصيغ مستقبلنا. لقد كان هذا التغيير قائماً على قدم وساق، لكن ما فعله كوفيد-19 هو تسليط الضوء على هذا التغيير ودفعنا إلى إدراك مدى تغير عالمنا. فعلى حين غرة، أجبرَنا الوباء على ممارسة عملنا وتعليمنا وتواصلنا وأنشطتنا الترفيهية عبر الإنترنت، وبعبارة أخرى: كان كوفيد-19 بمنزلة الرياح التي سرَّعت الانتقال إلى المرحلة التالية مما أسمّيه العالم الرقمي.
لقد حققت الكثير من الحكومات خطوات كبيرة، فرأينا في التقرير العديدَ من الدول ترتقي إلى مستويات أعلى في مؤشر تطوير الحكومة الإلكترونية خلال عامين فقط، لمست خلالهما فوائد التقنيات الرقمية. نحن اليوم نعيش في عالم نستخدم فيه جهازاً للاتصال بالإنترنت، وفي المستقبل سنشهد اتصالات من أنواع متعددة بين الأجهزة بعضها البعض، وبين الإنسان والأجهزة، وبين الناس بعضهم البعض باستخدام الأجهزة. إن هذا التحول هو بلا شك تحولٌ عميق؛ لأنه يسهِّل الاتصال والتفاعل بين الفرد والحكومة. وأرى أن كل ذلك يقودنا إلى عالمٍ نبقى فيه متصلين على الدوام (24/7) وتتولى فيه مساعداتنا الافتراضية القيامَ بالكثير من الأمور نيابة عنا.
منذ أن بدأتُ العملَ في الحكومة البريطانية قبل 30 عاماً، لم أرصد تغيراً جذرياً في طريقة عمل الحكومات بهذا الحجم الذي نراه اليوم. وهذا التوجه يطرح أمام الحكومات مجموعة من الأسئلة الجوهرية: لماذا نقوم بالمهام التي نؤديها اليوم؟ هل هي مهام إضافية بلا قيمة؟ وإذا كنا فعلاً نحتاجها، فهل نمثل نحن -كحكومات- المؤسسساتِ الصحيحة للاضطلاع بها؟ وما الأمور التي ينبغي علينا القيام بها لتلبية واجباتنا تجاه المواطنين وأصحاب المصلحة؟
أعتقد أن هذه الأسئلة تدفعنا إلى إعادة تصور دور ونموذج الحكومة، وإلى تجاوز مجرد التفكير في عملية التحول الرقمي والانتقال إلى التفكير في تغيير هذا النموذج. بلغ التغيير اليوم درجة هائلة يجب أن لا نكتفي عندها بالتحول الرقمي؛ لأنه لن يقودنا وحده إلى المستقبل الذي ننشده، المستقبل الذي يتيح اتصالاً أكبر بالمواطنين وقدرة أكبر على تلبية متطلباتهم. لذا علينا العمل على إحداث تغيير جذري في نموذج عمل الحكومة وليس مجرد تغيير تدريجي. ويجب أن يكون هذا النموذج متمحوراً حول المواطن لتلبية تطلعاته بطرق أكثر فعالية وكفاءة.
وإذا نظرنا إلى مسار تطور الحكومات من الحكومة التقليدية إلى الحكومة الإلكترونية إلى الحكومة الرقمية، أعتقد أن الوقت قد حان للانتقال إلى ما أسميه "الحكومة الذكية". وهذا المفهوم لا يعتمد فقط على التكنولوجيا، وإنما يتعلق بتغيير نموذج العمل والنموذج التشغيلي للحكومة، بالإضافة إلى استخدام التكنولوجيا بمنزلة عامل تمكيني لإنجاز الحكومة الذكية. وأنا أنظر إلى الحكومة الذكية باعتبارها تتمتع بالقدرة على اكتساب المعرفة والمواهب والوصول إليها بشكل أسرع وأكثر فعالية. يجب أن نكون أكثر قدرة على الاستجابة، وقد أثبتت أزمة كوفيد-19 قدرتنا على الاستجابة، إنه أمر نستطيع القيام به. ومن منظوري، يجب أن تنتقل الحكومة الذكية من مجرد تأدية الخدمات لمواطنيها إلى التفكير فيما يمكنها فعله لتحسين حياتهم، والتركيز على ما أسميه: "تجربة حياة المواطن". وعليها الانتقال من الاهتمام بالمخرجات إلى الاهتمام بالنتائج التي تُحدث فرقاً هاماً في حياة المواطنين.
وعلى سبيل المثال، إذا نظرنا إلى التفاعل بين الحكومات ومواطنيها، سنكتشف وجود صعوبة في إيصال صوت المواطن إلى الحكومة في ظل علاقة "عدة-إلى-واحد". ينبغي علينا دراسة الانتقال إلى نموذج "واحد-إلى-واحد"، حيث يمكن لكل مواطن إيصال صوته إلى الحكومة، سيكون أمراً رائعاً بلا شك. وسيشعر الجميع بأنهم يحصلون على "تجربة الحياة" التي يتطلعون إليها.
أربين كوريكيان
عندما بدأنا في الأمم المتحدة بإصدار تقرير الحكومة الإلكترونية منذ عقدين من الزمن، كان الهدف هو بناء مرجع قياسي يستند إليه صناع القرار في صياغة سياسات الحكومة الإلكترونية. ونحن نقوم بإعداد هذا التقرير كل عامين ويشمل 193 دولة عضو في الأمم المتحدة، ونحاول خلاله قياسَ تقدم الحكومات بشكل عام. أما مؤشر تطوير الحكومة الإلكترونية (EGDI)، فيتألف من ثلاثة مكونات رئيسية، وهي: مؤشر تقديم الخدمات عبر الإنترنت وجودتها (OSI)، ومؤشر تطور البنية التحتية للاتصالات (TII)، ومؤشر رأس المال البشري (HCI) لدراسة مدى استعداد الحكومات لاستخدام الخدمات عبر الإنترنت.
ونعتمد في هذا التقرير على بيانات الاتحاد الدولي للاتصالات ومنظمة اليونيسكو وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي لجمع معلومات شاملة عن البلدان المستطلعة، ويمكن للجميع الاطلاع على التقرير على موقعنا.
ومن الجدير بالذكر أن التكنولوجيا وحدها لن تُجدِ الناسَ نفعاً إذا لم يكونوا قادرين على استخدامها؛ لذا تتزايد أهمية التعليم واكتساب المعرفة الرقمية اليوم، حتى يستطيع المواطنون الاستفادة من الخدمات الحكومية عبر الإنترنت.
يبين التقرير أن 65% من الدول الأعضاء قد بلغتْ مستوى عالياً أو عالياً جداً في مؤشر تطوير الحكومة الإلكترونية، وقد ارتفع عدد الدول في المستوى العالي من 40 في عام 2018 إلى 57 هذا العام. وأريد الإشارة إلى أن 8 دول فقط سجَّلتْ مستوى متدنياً في هذا المؤشر، 7 منها في أفريقيا. كما يوض، التقرير أن 22% من البلدان المستطلعة (أي 42 بلداً) قد انتقلت إلى مستوى أعلى في هذا المؤشر. ومن المشجع أن نشهد انتقال 15 بلداً في أفريقيا (أي 28% من بلدان القارة) إلى مستوى أعلى، وهذا العام تقود الدنمارك هذا التصنيف للمرة الثانية على التوالي، لتحتل المرتبة الأولى في مؤشر (EGDI). بينما تحتل كوريا الجنوبية المرتبةَ الأولى في تقديم الخدمات عبر الإنترنت، وسجلت إستونيا أكبرَ تقدم في مؤشر (EGDI) منذ عام 2018.
وعلى الرغم من وجود علاقة بين مستوى الدخل ومؤشر (EGDI)، إلا أن ذلك لا يعني أنه لا يمكن تحقيق تقدم في تقديم الخدمات إذا كان مستوى الدخل ضعيفاً. في الحقيقة، هناك العديد من الدول ذات مستوى الدخل المنخفض التي تمكنت من تحقيق تقدم في الخدمات عبر الإنترنت واستطاعت رفع أدائها بشكل عام.
وأود الإشارة إلى نقطة مهمة هنا، وهي مشكلة القدرة على دفع تكاليف خدمات الاتصال عبر الإنترنت؛ حيث تدفع الحكومات في أفريقيا نسبة أكبر بكثير -مقارنة بباقي الدول- من إجمالي دخلها القومي لتغطية تكاليف اتصال فعال بالإنترنت عبر الهاتف. ومن شأن هذه التباينات أن تجعلَ من الصعب على الناس استخدام الخدمات عبر الإنترنت، وتزيد من صعوبة تحقيق تقدم في التطوير الحكومي.
وفي المنطقة العربية، تقود الإمارات العربية المتحدة في هذا المؤشرات. كما تحقق المملكة العربية السعودية والكويت تقدماً إلى المستوى العالي جداً في مؤشر (EGDI). وعلى الرغم من تمتع المغرب والأردنّ بتصنيفات عالية في مؤشرات رأس المال البشري وبنية تحتية متطورة للاتصالات، إلا أنها ما زالت في مستوى متوسط في مؤشر تقديم الخدمات عبر الإنترنت. وفي المستوى المتوسط، لدينا سوريا ولبنان اللذان يتمتعان أيضاً بمستوى عالٍ من رأس المال البشري، لكنهما يحتلان مرتبة متوسطة في مؤشر تقديم الخدمات عبر الإنترنت. أما مصر فقد سجلت مستوى عالياً في رأس المال البشري وتقديم الخدمات عبر الإنترنت، على الرغم من امتلاكها مستوى متوسط في البنية التحتية للاتصالات.
إن هذا النوع من التحليل يمنحنا فهماً أفضل للحاجات الاستثمارية في كل بلد والمسائل التي ينبغي على حكوماتها التركيز عليها.
مارتا أرسوفسكا توموفسكا
أعمل حالياً مستشارة لرئيسة الوزراء الصربية، وشغلت سابقاً منصب وزيرة في الحكومة المقدونية وكنت أقود الإصلاح الحكومي بما فيه تطوير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، كما أعمل خبيرة ابتكار لصالح الأمم المتحدة في الاتحاد الدولي للاتصالات؛ لذا أمتلك خبرة من داخل الحكومات. ومن هذا المنطلق، أدعو إلى اقتناص الزخم الذي ولّده الوباء. لقد أخرجنا كوفيد-19 من مناطق راحتنا ووضع الحكومات تحت الاختبار. قبل الوباء، كان تعطُّل موقع الويب وتأثيره على الخدمات وتجربة المواطن يشكل أكبر مخاوف الحكومة، أما اليوم، فقد تعطلت المدارس والمكاتب. إذن، فقد تغيرت قواعد اللعبة وتغيرت متطلبات المواطنين وتوقعاتهم بين ليلة وضحاها. وكان هذا التغيير الثاني الذي نشهده بعد التغيير الذي فرضته التكنولوجيا والثورة الصناعية الرابعة.
لقد شهدنا تسارعاً في التحول والابتكار الرقمي، وحققنا تقدماً يستغرق سنوات في مجال التكنولوجيا خلال شهرين فقط. سعينا وراء حلول تبدأ من القاعدة نحو القمة لبناء أفكار صادرة عن المواطنين والشركات الصغيرة، مما مكَّننا تدريجياً من التعامل مع الأزمة. وأعتقد أنه ينبغي علينا استغلال هذا الزخم والحفاظ على استدامته.
لطالما قالت الحكومات إنها لا تمتلك الوقت للابتكار لأنها مشغولة بالتركيز على أداء مهامها، لكنني أدعو الجميع في الحكومات إلى استخدام نفس إستراتيجيات الابتكار التي يتبعها قطاع الأعمال؛ فالحكومات هي أكبر مشغِّل للموظفين وأكبر مقدِّم للخدمات وأكبر مالك للبيانات. ومن هذا المنظور، عندما نفكر في الحكومة الإلكترونية، فإننا نفكر في التجارة الإلكترونية ونرغب في تقديم نفس تجربة المستخدم التي توفرها أمازون على سبيل المثال. ولو نظرنا إلى شركات كبرى عريقة مثل ستاربكس وبي إم دبليو، فإن أهم إستراتيجياتها هي التركيز على تجربة العميل، التي يجب أن تحتل رأس القائمة ضمن أولويات الحكومة. كما تأخذ هذه الشركات بعض المخاطر للقيام ببعض التجارب وهذا ما يجب على الحكومات ان تفعله. هناك أمر آخر، وهو أن هذه الشركات لا تهتم بالابتكار لمجرد الابتكار، وإنما لحل مشاكل محددة. وعلى سبيل المثال، تقوم شركة بي إم دبليو بتعزيز عملها الأساسي وفي نفس الوقت تقوم بالاستكشاف وإنشاء محفظة من الخيارات.
إذن هناك أوجه تشابه مع قطاع الأعمال يمكن الاستفادة منها فيما يتعلق بإستراتيجيات الابتكار لتحقيق التقدم نحو المستقبل. ولإنجاز ذلك، ينبغي على الحكومات أن تتواضع وتتَّسم بالفضول والمرونة والانفتاح والتغلب على عقلية أنها الأفضل والأذكى، يتوجب على الحكومات التواصل مع الشركات الناشئة وإطلاق تحديات الابتكار وتقديم تصميم للخدمات وتوفير دورات في التفكير التصميمي للموظفين وما إلى ذلك.
حمود المحمود: في تقرير الأمم المتحدة، كان هناك تركيز على فكرة أن التحول الرقمي الحكومي ليس عملية تكنولوجية فحسب، بل يتطلب تحولاً في عقلية الحكومات أيضاً، هل يمكنك توضيح هذه الفكرة؟
أربين كوريكيان:
أتذكر أنني التقيت مرة بوفد من حكومة كوريا الجنوبية يشارك معنا تجربته في مجال التحول الرقمي والحكومة الرقمية. وقد قالوا في معرض حديثهم إنهم قد شرعوا بالاستثمار في هذا المجال منذ فترة 30-40 عاماً؛ حيث بدؤوا من أبسط الأمور مثل وضع معايير لكيفية جمع البيانات وتنظيمها. ما أقصده هو أن هناك الكثير من العمل الذي يجب القيام به خلف الكواليس حتى تنجح التكنولوجيا في تأدية وظيفتها. وحتى تنجح البوابات الحكومية الرقمية، يجب وضع المعايير والأنظمة الخاصة بالبيانات لتحويلها وتنسيقها وتوفيرها، وكيفية مشاركتها، وكيفية أتمتة العملية برمتها بشكل موثوق، وكيفية حمايتها والحفاظ على خصوصية بيانات الناس.
كل ما سلف يتطلب تحولاً في عقلية الحكومة وانتقالاً من الوضع الذي كان قائماً منذ 200 أو 300 عاماً من البيروقراطية إلى الوضع الراهن، فعلى الرغم من أن التكنولوجيا تمثل عامل تمكين، إلا أنه ينبغي التعامل مع هذه المسائل وغيرها بشكل متزامن. لهذا نشدد على أن القضية لا تتعلق فقط بإطلاق موقع ويب أو إتاحة بعض الخدمات للمواطنين عبر الإنترنت، يجب أن تكون جميع الجوانب آنفة الذكر جاهزة ويجب أن يتمتع المواطنون بالمهارات الرقمية اللازمة للاستفادة منها وأن يمتلكوا اتصالاً بالإنترنت. ولهذا نؤكد مراراً على ضرورة التحول في العقلية لدفع الأنظمة الإدارية إلى التركيز على الجمهور وبناء نظام بيئي يضمن الاستفادة من التكنولوجيا بطريقة سهلة الاستخدام وموثوقة، وأعتقد أن التقليل من أهمية هذا الأمر والاعتماد فقط على الواجهة التكنولوجية سيضع الحكومات في مآزق كبيرة.
حمود المحمود: هل تعتقد أن القفزة الكبيرة التي سببها كوفيد-19 في التحول الرقمي الحكومي حالة مؤقتة أم أنها ستمثل زخماً مستمراً، وكيف ينبغي على الحكومات الاستفادة من هذا الزخم؟
محمد سير:
برأيي، يتجسد دور الحكومة في توفير حياة صحية سعيدة مُرضية لمواطنيها، والتكنولوجيا تمثل وسيلة لتحقيق هذه الغاية. فلو نظرنا إلى الوضع الذي فرضه كوفيد-19، لوجدنا أننا انتقلنا كأفراد إلى استخدام التكنولوجيا من أجل التواصل، أي أننا عملياً قمنا بتغيير سلوكياتنا للتكيف مع الوضع القائم الجديد الذي نعيش فيه.
وأنا أعتقد أن هذا الزخم سيستمر، وأرى أنه يمثل فرصة لإعادة التفكير في نموذج للحكومة أكثر اتصالاً بالمواطنين الذين تخدمهم، وفرصة لتحقيق تحول في عقلية المواطنين أنفسهم، إذ لا يمكننا الانتظار من الحكومة أن تقوم بكل شيء وتحل جميع المشكلات؛ لذا علينا التفكير في نظام بيئي ومقاربة تعاونية يلعب فيها المواطنون والحكومات والشركات والجامعات والمنظمات الأممية أدوارَهم. وإذا نظرنا إلى أن المشكلة تكنولوجية، سنلجأ دوماً إلى التكنولوجيا لإيجاد حل لها، لكن المشكلة ليست تكنولوجية، وإنما مشكلة نموذج تشغيلي.
أشعر أن هناك طبقة مفقودة اليوم أسميها "طبقة التجربة" بين المواطنين والحكومة؛ فنحن نجبر المواطنين على التعامل مع الحكومة بطريقة منعزلة تضع عبء التعقيد على عاتق المواطن. علينا في الحكومة أن نفكر في نوعية التجربة التي نرغب في تقديمها للمواطنين والاستفادة من التكنولوجيا لتوفير هذه الطبقة.
حمود المحمود: هلا شاركتِ معنا بعض الأمثلة عن المبادرات التي اتخذتها الحكومة الصربية باستخدام التكنولوجيا؟ وما سبب البطء في التحول الرقمي قبل كوفيد-19، وعندما حلّ الوباء استطعنا القيام بالعديد من الأمور التي اعتبرناها مستحيلة قبله؟
مارتا أرسوفسكا توموفسكا:
خلال أول شهرين من تفشي الوباء، لجأت الحكومة الصربية إلى إطلاق دعوات وتحديات الابتكار أمام الشركات الكبرى والشركات المتوسطة والصغيرة والمواطنين، من أجل المساعدة في التعامل مع أزمة كوفيد-19 وتأدية مهام محددة. وبهذه الطريقة استطعنا إنتاج أول جهاز تنفس صناعي، ثم حصلنا على نظام تراسل مبتكر تم استخدامه في مؤسسات الرعاية الصحية، بعد ذلك حصلنا على تطبيقات التطوع للتبرع بالبلازما. وخلال نفس الفترة، ومنذ اليوم الأول لإغلاق المدارس، نجحنا في متابعة العملية التعليمية عبر الإنترنت. كما تم بث كامل الحصص الدراسية عبر التلفزيون لتوفيرها لأولئك الذين لا يملكون وصولاً إلى الإنترنت.
كما أطلقت الحكومة العديد من المشاريع المهمة مثل تطبيق إي بيبي (ebaby) والنظام الموحد لمعلومات التعليم، الذي يمنح رقماً تعريفياً فريداً لكل طالب بدءاً من دور الحضانة وحتى التعليم الجامعي. ويستخدم هذا النظام البيانات الضخمة وأدوات تحليل البيانات لتقييم جودة المؤسسات التعليمية وتكلفة التعليم وغيرها من الجوانب؛ لمساعدة الحكومة على رسم سياساتها الخاصة بالتعليم. وأشير هنا إلى أن الرقمنة والتعليم تحتل أعلى أولويات الحكومة الصربية.
حمود المحمود: ما الهيكلية الأمثل لقيادة التحول الرقمي في الحكومة في ظل وجود العديد من الهيئات التنظيمية؟
أربين كوريكيان:
استناداً إلى تقرير الأمم المتحدة، ورغم إمكانية وجود العديد من الهيكليات، يمكن الاعتماد على مسؤول معلومات ومسؤول تكنولوجيا في البلاد، أو وزارة مستقلة تقدم تقاريرها إلى رئيس الوزراء أو إلى الحكومة. لكن التقرير يبرز أهمية التنسيق والدور القيادي ضمن الحكومة؛ ففي المملكة المتحدة على سبيل المثال، تضطلع هيئة تابعة لمكتب رئيس الوزراء بهذه المهمة. ويمكن لبلدان أخرى أن تشكِّل هيئة في كل وزارة تنسق فيما بينها. في المحصلة، لا يوجد طريقة مثلى تناسب جميع الدول. لكن يبدو من التقرير أن الطريقة الأكثر نجاحاً تتمثل في تشكيل كيان يتمتع بما يكفي من الصلاحيات لقيادة الأجندة الرقمية إلى الأمام، وكلما كان هذا الكيان أقرب إلى مستوى اتخاذ القرارات، كان ذلك أفضل.
حمود المحمود: كيف ستتغير الخدمات الحكومية في ظل التحول الرقمي لتنتقل من تقديم خدمات تفاعلية إلى خدمات استباقية؟
محمد سير:
دعني أوضح الفكرة بمثال؛ عندما تنتهي صلاحية جواز السفر، لماذا يتوجب على المواطن القيام بإجراءات تجديده؟ تستطيع الحكومة أن تضطلع بهذا الإجراء من خلال إرسال إشعار إلى هاتفي يخبرني بأن صلاحية جواز سفري على وشك الانتهاء، ويسألني إن كنت أرغب بتلقي جواز سفر جديد. وبمجرد موافقتي يظهر سؤال جديد إن كنت أرغب في تعديل أية معلومات شخصية، فإذا أجبت بـ لا ينتهي الإجراء وأتلقى جواز سفري الجديد بالبريد خلال سبعة أيام. هذا ما نسميه الخدمات الاستباقية.
وهناك نوع آخر من الخدمات هو الخدمات التنبؤية؛ حيث تكتشف الحكومة على سبيل المثال أنني كنت أسافر كثيراً خلال الفترة الماضية، فترسل إلي إشعاراً يسألني إن كانت صفحات الجواز قد امتلات وإن كنت أرغب في تلقي جواز سفر جديد. وبمجرد موافقتي تنتهي العملية لأتلقى جوازاً جديداً.
حمود المحمود: هل تعتقد أن ذلك سيخلق منافسة بين الحكومة والقطاع الخاص؟ وهل ينبغي على الحكومة تعهيد القيام ببعض الخدمات إلى أطراف خارجية في القطاع الخاص؟
محمد سير:
أعتقد أننا يجب أن نتبنى نهجاً تعاونياً في إنجاز الخدمات؛ إذ ينبغي على الحكومات التركيز على الخدمات الأساسية والهامة من ناحية أمن المعلومات، وينبغي بناء نظام بيئي لتقديم الخدمات. لذا أعتقد أن المنافسة الوحيدة التي ستواجهها الحكومة مع القطاع الخاص تتمثل في المنافسة على المواهب والخبرات.
حمود المحمود: هل تعتقدين أن الحكومة الصربية ستواجه منافسة في المستقبل أم ستقوم بتعهيد خدمات إلى أطراف خارجية أم ستسعون إلى نموذج تعاوني؟
مارتا أرسوفسكا توموفسكا:
أعتقد أن "التعاون" هي الكلمة المناسبة هنا، لا أتوقع أي منافسة. ويجب التفكير في الحكومة باعتبارها الجهة التي تمكِّن تشكيل بيئة لتقديم الخدمات العامة. ولتحقيق ذلك، ينبغي على الحكومة أن تكون منفتحة على التعاون مع القطاع الخاص والشركات الناشئة والجامعات. وأنا أحث الحكومات على اتباع هذا النهج.
أحياناً لا تمتلك الحكومات ما يكفي من المواهب والموارد لتطبيق أفضل الحلول المبتكرة؛ حيث إن خبراء التكنولوجيا قد يتمتعون برواتب أعلى في القطاع الخاص، كما أن القطاع الخاص يتفوق في مجال التكنولوجيا وتجربة العميل وتقديم الخدمات. وبالتالي، فإن التعاون هو الخيار الأمثل مع الأخذ في الاعتبار ضرورة تغيير اللوائح التنظيمية الحكومية حتى ينجح هذا الخيار في العصر الرقمي.
حمود المحمود: برأيكم، ما النقاط التي ينبغي على الحكومات مراعاتها لإنجاح جهود التحول الرقمي؟ وما الأهمية التي يحملها تقرير الأمم المتحدة؟
محمد سير:
أعتقد أن أهم نقطة تتمثل في الحاجة إلى توفير ترابط أكبر في كيفية تعامل الحكومة مع تحولها الرقمي، من أجل ضمان عدم ضياع الجهود ولتحقيق النتائج المرجوة. أما النقطة الثانية فتتمثل في ضرورة الاهتمام بالأساسيات التي تفضي إلى حكومة رقمية حقيقية، مثل توفير الهوية الرقمية، ورقمنة جميع المستندات، والتفكير في كيفية التواصل مع المواطنين في المستقبل. وأعتقد أنه ينبغي على الحكومة أن تكون مُقادة بالأهداف، أي أن تحقق النتائج التي تُحدث تأثيراً وتنتج قيمة للناس. ومن هنا تنبع أهمية تقرير الأمم المتحدة في جعل الحكومات أكثر تركيزاً على المواطنين، سواء كانت حكومات رقمية أو لا.
مارتا أرسوفسكا توموفسكا:
أعتقد أن التقرير يحمل قيمة تتجاوز مجرد النظر إلى المستوى الذي حققه كل بلد، بل هو يمثل دليلَ عملٍ وأداةً هامة تساعد في تصميم وتحسين وإعادة التفكير في الحكومة الرقمية والإستراتيجيات المتبعة لتطوير جودة الخدمات التي تقدمها.
أربين كوريكيان:
أشدد مرة أخرى على أن التقرير يمثل أداة لقياس الأداء توفر لصناع السياسات رؤية الصورة الشاملة ضمن بيئة متغيرة. ويقدم تصنيفاً لأداء كل بلد بالمقارنة مع حكومات البلدان الأخرى. ويجب عدم الاكتفاء بقراءة الأرقام، بل الغوص عميقاً في تحليلها لأداء الخدمات الرقمية وفوائد الاستثمارات في رأس المال البشري أو في البنية التحتية للاتصالات. وفي نهاية المطاف، يهتم التقرير بمدى ملاءمة تقديم الخدمات إلى المواطنين وكيفية تحسين حياتهم باستخدام التكنولوجيا.