يمضي لاينوس ميريمان قرابة الساعة كل يوم على حاسوبه المحمول في مدرسته الابتدائية بمدينة ناشفيل في ولاية تينيسي، ويقضي معظم هذا الوقت في تعلم مهارات القراءة الأساسية، مثل إتقان الصوتيات والتهجئة. ويفتح تطبيق القراءة ليكسيا (Lexia) بسهولة، وينقر على الشاشة لأخذ الدروس المختارة خصيصاً للتعامل مع احتياجاته في القراءة. وقد كان لاينوس، وهو طالب في الصف الثاني، يعمل على إتقان مهارة "التقطيع"، أي العثور على الفواصل التي تقسّم الكلمة إلى مقاطع صوتية. وعند ظهور كلمة "chimpanzee" (شمبانزي) على شاشته، مكتوبة بأحرف كبيرة، يستخدم لاينوس لوحة الفأرة لالتقاط صور كرتونية لأعمدة رومانية، ووضعها في الفراغات بين الأحرف، مثل فواصل صغيرة، في الأماكن التي يعتقد أنها تفصل بين المقاطع الصوتية. وعند الانتهاء من العمل، يقرأ التطبيق تخميناته كما قطّعها لاينوس: "chim-pan-zee". لقد قدّم إجابة صحيحة.
وبعد التدرب على هذه المهارات الأساسية على الحاسوب، يغلق جميع التلاميذ حواسيبهم المحمولة، ويتجهون إلى البساط للجلوس أرضاً، ويصطحب كل منهم معه نسخة مطبوعة من كتاب القراءة المخصص للصف "لديّ حلم" (I Have a Dream)، وهو كتاب مصوّر يتضمن نصاً للخطاب الشهير لمارتن لوثر كينغ جونيور. ويتتبع التلاميذ في كتبهم ما يقرؤه المعلم بصوت مرتفع، حيث يتوقف عن القراءة بين الحين والآخر كي يتمكنوا من توجيه الأسئلة، والتحدث عن ملاحظاتهم، مثل كيفية كتابة الخطاب بصيغة المتكلم.
اقرأ أيضاً: الزرعوني: الأطفال أكثر وعياً بخصوصيتهم وعلينا إعدادهم لوظائف المستقبل
تعمل والدة لاينوس، إرين ميريمان، مختصةً في أساسيات القراءة في مدرسة أخرى في ناشفيل، وقد شعرت بالقلق في البداية إزاء قدرة ابنها على التعلم في صف يعتمد كثيراً على الحواسيب. لقد تم تشخيص لاينوس بأنه يعاني إعاقة تعليمية تسمى عسر القراءة، وتدرك ميريمان من معلوماتها الاختصاصية أن التلاميذ المصابين بعسر القراءة يحتاجون في أغلب الأحيان إلى معلومات حسية لمعرفة كيفية ارتباط الأصوات بالأحرف. كما أن الإشراف المباشر من المعلّم عامل إيجابي أيضاً. ولكن، بما أن قدرة لاينوس على القراءة شهدت تحسناً كبيراً للغاية هذه السنة، فقد غيّرت ميريمان من نظرتها.
تقول ميريمان: "أعتقد أن أغلبية الأساليب المتبعة في التطبيق جيدة جداً، وشاملة للغاية، وقد تفاجأت بمدى فاعليته".
العلاقة بين التكنولوجيا الرقمية وتعليم القراءة
وعلى غرار ميريمان، يحاول المزيد من الخبراء والمعلمين تحديد ماهية العلاقة الصحيحة بين التكنولوجيا الرقمية وتعليم القراءة. فالقراءة والتكنولوجيا الرقمية اختراعان بشريان منتشران في أنحاء العالم كافة، وقد أتاحت الحواسيب المحمولة والهواتف الذكية، بالنسبة للكثيرين، فرصاً لا حد لها للقراءة، حيث تسمح بالوصول إلى أي شيء مطبوع تقريباً خلال ثوانٍ معدودة. وقد قال المختص بعلوم الإدراك، دانييل ويلينغام، إن الأطفال يقرؤون الآن أكثر مما كانوا يقرؤون منذ عقد مضى، وفقاً لمعيار "عدد الكلمات". ولكن الكثيرين من خبراء القراءة يخامرهم الشك بأن التكنولوجيا تؤثّر أيضاً في طريقة القراءة، أي أن القراءة من الشاشة مختلفة جذرياً عن القراءة من الصفحة الورقية.
ويبذل الباحثون الذين يدرسون أدمغة القراء الصغار وسلوكهم جهوداً جبارة لاستيعاب النواحي التي تؤثّر بها التكنولوجيا إيجاباً في تقدم الأطفال في تعلم القراءة، والنواحي التي يمكن أن تتسبب بإعاقة هذه العملية. وما زالت الأسئلة المطروحة في هذا المجال جديدة، إلى درجة أن الإجابات ما زالت غير واضحة في أغلب الأحيان. منذ أن تسببت جائحة كوفيد-19 بإغلاق المدارس في 2020، كان جميع التلاميذ تقريباً يعتمدون على ما قدمته المدارس من حواسيب محمولة أو أجهزة تابلت في التعلّم. ولكن المعلّمين، الذين أصبحوا أكثر اعتماداً من ذي قبل على التكنولوجيا الرقمية لمساعدتهم على التعليم، لا يوجد لديهم ما يكفي من الإرشادات التوجيهية حول كيفية تحقيق التوازن بين استخدام الشاشات واستخدام الكتب الورقية للقراء المبتدئين المعتادين على التنقل بين الوسيلتين. ووفقاً للكثير من وجهات النظر المختلفة، يعتمد كل معلم على تقديره الخاص لهذه المسألة.
اقرأ أيضاً: كيف ستغيّر التقنيات الحديثة طرق التعليم في المستقبل؟
الأدمغة ثنائية المهارة
يقول علماء الإدراك إن معرفة أفضل الطرق للتعامل مع هذه "الأدمغة ثنائية المهارة" لدى الصغار، أمر بالغ الأهمية، ولا تقتصر أهمية هذا العمل على مستقبل تعليم القراءة، بل تشمل مستقبل التفكير ذاته. لقد أحدثت التكنولوجيا الرقمية انقلاباً في طريقة حصولنا على المعرفة بأساليب ستؤدي إلى تغيير النوع البشري إلى الأبد، ودفعه نحو الأمام. ولكن، على المستوى الفردي، فإن هذه التكنولوجيا نفسها تهدد بزعزعة أسلوب التعلم البطيء والمتأني عن طريق قراءة الكتب وغيرها من الوسائل المطبوعة، بل وتقويضه حتى.
إن هذه الحقائق المتضاربة ظاهرياً تؤكد أهمية مسألة تحديد أفضل الأساليب لتعليم الأطفال كيفية القراءة في القرن الـ 21، كما تقول عالمة الأعصاب ماريان وولف، وهي مؤلفة كتاب: "أيها القارئ، عد إلى أصلك: الدماغ القارئ في عالم رقمي" (Reader, Come Home: The Reading Brain in a Digital World). كانت وولف أول من استخدم مصطلح "الأدمغة ثنائية المهارة"، وتعمل حالياً على إجراء أبحاث حول المزايا النسبية للمقاربات التي تعتمد على الشاشات والصفحات، وفي هذه الأثناء، تتبنى موقفاً تُطلق عليه اسم "الجهل المكتسَب": أي دراسة كلتا الناحيتين بعمق، ثم النظر إليهما بعين الحياد لتقييم جميع الأدلة والتوصل إلى النتائج النهائية.
ويبذل الباحثون الذين يدرسون أدمغة القراء الصغار وسلوكهم جهوداً جبارة لاستيعاب النواحي التي تؤثّر بها التكنولوجيا إيجاباً في تقدم الأطفال في تعلم القراءة، والنواحي التي يمكن أن تتسبب بإعاقة هذه العملية.
تقول وولف: "لم تصل المعرفة إلى مرحلة من التقدم الذي يُتيح لنا الحصول على الأدلة التي أشعر أننا بحاجة إليها. ما أثر كل من الوسطين –الشاشات والمطبوعات- على درجة استخدام دماغ القارئ لكامل قدراته؟ ما زالت الإجابات ناقصة".
ولكنها تُضيف قائلة: "ولكن معلوماتنا الحالية تقول إن استخدام المطبوعات يحفّز العمليات الأقل سرعة والأكثر عمقاً في دماغ القارئ. ويمكنك استخدام الشاشة لتعزيز هذه العمليات، وتعليم مهارات معينة، ولكن يجب ألا يتعلم الأطفال القراءة باستخدام الشاشة".
اقرأ أيضاً: ما هي فوائد واستخدامات إنترنت الأشياء في التعليم؟
ما الأفضل للفهم: الشاشات أم الكتب؟
بعد أن يتعلم الأطفال كيفية تفسير الكلمات، تصبح الأبحاث حول فهم النصوص التي يرونها على الشاشات والورق أكثر حسماً. ويقول الخبراء إن القراء الصغار يحتاجون إلى القراءة رفقة البالغين، وذلك لتلقي الملاحظات، وتوجيه الأسئلة، ومشاهدة الصور معاً. ويساعد كل هذا على بناء مخزون المفردات والمعرفة لفهم المواد المقروءة. وغالباً ما تكون الشاشات ضعيفة الأداء من حيث محاكاة هذا التفاعل البشري، ويقول العلماء مثل وولف إن "دارات القراءة" في أدمغة الصغار تتطور بشكلٍ مختلف عندما يمضي التلاميذ وقتاً طويلاً أمام الشاشات.
وتؤكد الدراسات حول آليات عمل الدماغ الفكرة التي تقول إن التفاعل البشري يساعد على تطوير قدرة القراء المبتدئين على الفهم. ولكنها تشير إلى أن استخدام الكتب الورقية في القراءة مرتبط بهذا التطور أيضاً. ففي إحدى الدراسات، وجد الباحثون أن المناطق اللغوية في الدماغ لدى الأطفال بعمر 3-4 سنوات تتسم بدرجة أعلى من النشاط لدى قراءة كتاب مع شخص بالغ، مثل أحد الوالدين، مقارنة بالاستماع إلى كتاب صوتي أو القراءة باستخدام تطبيق رقمي. وقد كانت القراءة باستخدام جهاز آيباد تؤدي إلى أخفض درجة من النشاط على الإطلاق. وفي دراسة أخرى، أظهرت عمليات المسح بالرنين المغناطيسي للأطفال بعمر 8-12 سنة درجة أعلى من الفاعلية في دارات القراءة لدى الأطفال الذين يمضون وقتاً أطول في قراءة الكتب الورقية، مقارنة بالأطفال الذين يمضون وقتهم أمام الشاشات.
اقرأ أيضاً: ما الذي يميز تقنية الحبر الإلكتروني المستخدمة في أجهزة كيندل؟
وبالنسبة للتلاميذ الأكبر سناً، ثمة أبحاث مهمة تُظهر تراجعاً في الاستيعاب عند القراءة من الشاشة. وقد بين تحليل لاحق كبير شمل 33 دراسة مختلفة من عام 2019 أن التلاميذ يستوعبون المعلومات النصية بشكلٍ أفضل عند القراءة من الورق. وتبين دراسة أجرتها مؤسسة ريبوت (Reboot) لتقييم الآلاف من التلاميذ في 90 دولة، بما فيها الولايات المتحدة، أن تلاميذ الصف الرابع ممن يستخدمون الأجهزة اللوحية في جميع موادهم الدراسية تقريباً أحرزوا في اختبار القراءة نتيجة أقل بمقدار 14 نقطة من التلاميذ الذين لم يستخدموا هذه الأجهزة على الإطلاق. واعتبر الباحثون أن هذا الفرق في النتائج "مكافئ لمستوى سنة دراسية كاملة" من التعلّم. وقد أحرز التلاميذ الذين يستخدمون التكنولوجيا "كل يوم لعدة ساعات خلال اليوم المدرسي" أخفض النتائج على الإطلاق، على حين تقلص هذا الفارق، أو اختفى تماماً، بالنسبة للتلاميذ الذين يمضون أقل من نصف ساعة يومياً على الحاسوب المحمول أو الجهاز اللوحي.
اقرأ أيضاً: كيف ستغيّر التقنيات الحديثة طرق التعليم في المستقبل؟
ما سبب الزيادة في استيعاب التلاميذ لما يقرؤونه عند استخدام الكتاب الورقي؟
لا يملك الباحثون إجابة وافية. ولكن التشتيت يمثّل جزءاً من هذه المشكلة، وفقاً للباحثة في جامعة رود آيلاند، جولي كويرو. فتطبيقات القراءة المصممة للأطفال، مثل إيبيك! (Epic!)، تؤمّن الآلاف من الكتب التي تحتوي في أغلب الأحيان على صور وروابط ومقاطع فيديو ضمن النص. وتهدف جميعها إلى تحسين تجربة القراءة، ولكنها غالباً ما تتسبب بتحويل تركيز الأطفال بعيداً عن معنى النص. وحتى في تجارب القراءة التي لم يُسمَح فيها للتلاميذ بتصفح الويب أو النقر على الروابط المدمجة ضمن النص، بقي الأداء ضعيفاً.
وقد وضعت مؤلفة التحليل اللاحق من 2019، فرجينيا كلينتون ليسيل، فرضية تقول إن الثقة الزائدة يمكن أن تكون ناحية أخرى من المشكلة. ففي الكثير من الدراسات، بدا أن التلاميذ الذين يقرؤون باستخدام الحاسوب المحمول يبالغون في تقدير مهاراتهم في الاستيعاب مقارنة بالتلاميذ الذين يستخدمون الكتب الورقية، ما أدّى بهم إلى التقليل من الجهد المبذول في القراءة.
ويقول التلاميذ إنهم يتعلمون بشكلٍ أفضل ويمرون بتجربة قراءة أفضل عند استخدام الكتب الورقية. أما خبيرة اللغات ناومي بارون، مؤلفة كتاب: "كيف نقرأ الآن: () الخيارات الاستراتيجية بين الوسائط المطبوعة والمرئية والسمعية" (How We Read Now: Strategic Choices for Print, Screen, and Audio)، فتقول إنها أجرت مقابلات مع الطلبة حول آرائهم، حيث غالباً ما كانوا يعدّون القراءة من الكتاب تجسد "القراءة الحقيقية". فهم يحبون ملمس الكتاب عند إمساكه باليدين، كما أن العودة إلى الأشياء التي قرؤوها سابقاً أكثر سهولة لدى استخدام الكتاب منها لدى استخدام الشاشة. وعلى الرغم من أنهم قد يفضّلون الوسائط الرقمية لأسباب تتعلق بالراحة أو التكلفة، فإنهم يشعرون بتركيز أعلى عند قراءة المطبوعات.
اقرأ أيضاً: ما هي أبرز استخدامات التكنولوجيا الحديثة في التعليم؟
ولكن بارون تقول إن المناطق التعليمية والمعلمين لا يعرفون حق المعرفة في أغلب الأحيان بالأبحاث التي تتضمن أدلة راسخة تربط استخدام الكتب بزيادة مستوى الاستيعاب أو تؤكد تفضيل التلاميذ للمطبوعات. ومع أن أبحاث بارون ركّزت على طلبة الجامعة، فقد بينت دراسة أجرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) في العام الماضي على التلاميذ بعمر 15 سنة في 30 دولة أن التلاميذ الذين يفضّلون قراءة المطبوعات أحرزوا وسطياً 49 نقطة إضافية في البرنامج الدولي لتقييم الطلبة (PISA)، ولمّحت الدراسة إلى وجود ارتباط بين قراءة الكتب الورقية وحب القراءة.
وتعتقد بارون أيضاً أنه يجب إيلاء المزيد من الاهتمام العملي لتطوير المقاربات التربوية التي تركز، بشكلٍ واضح، على تعليم العادات الأقل سرعة والأكثر تركيزاً، المرتبطة بقراءة المطبوعات، والانتقال بعد ذلك إلى مساعدة التلاميذ على نقل هذه المهارات إلى الشاشة. إن تعزيز هذه العادات سيكون مفيداً حتى للأشخاص الذين يقرؤون الكتب عادة، فقد يتعرض الشخص الذي يقرأ الكتاب إلى التشتت في الانتباه أيضاً، لا سيما بوجود هاتف بالقرب منه.
اقرأ أيضاً: الدول العربية تلجأ إلى التعليم عن بعد لمواجهة تداعيات فيروس كورونا
مستقبل قراءة رقمي
لقد ازداد استخدام الكتب والمراجع التعليمية الرقمية بشكلٍ حاد خلال فترة الوباء، ومن المرجح أن انتقال عملية النشر التعليمي بأكملها إلى الإنترنت أصبح مسألة وقت لا أكثر. ومن ثم، فقد أصبح تحسين القراءة الرقمية للتلاميذ أكثر أهمية، وفقاً للمدرس المختص بالقراءة والكتابة، تيم شاناهان. وبدلاً من محاولة جعل التكنولوجيا الرقمية أكثر شبهاً بالكتاب، كما كتب شاناهان، "يجب على المهندسين التفكير في كيفية إنتاج أدوات رقمية أفضل. فمن الممكن أن تؤثر البيئة الرقمية في سلوك القراءة، ومن ثَمَّ يمكن استخدام الأساليب التعليمية التكنولوجية الأساسية لإبطاء القراءة، أو التنقل عبر النص بأسلوب أكثر إنتاجية". وفي المستقبل، يمكن أن يقرأ التلاميذ الموضوعات التاريخية والعلمية بالاعتماد على ما يمكن تسميته "مقال النقر" (tap essay)، حيث يتم الكشف عن الكلمات والجُمَل والصور فقط عندما يصبح القارئ مستعداً لذلك، لينقر على الشاشة عندها للانتقال إلى المقطع التالي. أو قد يصبح تصميم مواد القراءة أقرب إلى شكل المقالات الرقمية لصحيفة نيويورك تايمز (New York Times)، حيث تتوزع النصوص والصور ومقاطع الفيديو والصوت على مساحات كبيرة، وتتداخل بطرق مختلفة.
اقرأ أيضاً: التعليم بالذكاء الاصطناعي: الصين تطلق تجربة كبرى قد تغير من أساليب التعليم في العالم
الاعتماد على الحاسوب في دراسة الصوتيات
يعاني ثلثا تلامذة المدارس الأميركيين من عجز في القراءة على مستوى صفوفهم الدراسية. وتقع الملامة -جزئياً على الأقل- على المنهجية المنتشرة على نطاق واسع لتعليم القراءة، والتي هيمنت على الصفوف المدرسية 40 سنة دون أن تكون مبنية على أي أدلة علمية حول كيفية تعلّم الدماغ للقراءة، فطريقة "التعلم المتوازن" (balanced literacy) وطريقة "اللغة الشاملة" (whole language) الوثيقة الصلة بها، تقللان من التركيز على التعليم المباشر لمهارات القراءة الأساسية، ما يتسبب بصعوبات في القراءة لدى الكثير من التلاميذ. إلا أنه على مدى السنوات القليلة الماضية، تركز طريقة جديدة على هذه المهارات الأساسية بقوة، وغالباً ما يشار إليها باسم "علم القراءة" (science of reading)، وقد أحدثت هذه الطريقة تغييرات كبيرة في النظام التعليمي في الولايات المتحدة. تعتمد مقاربة "علم القراءة" على عدة عقود من الأبحاث العلمية المدعومة بالأدلة، وهي مقسّمة إلى خمسة مجالات: الوعي الصوتي (أي تعلّم جميع أصوات اللغة الإنجليزية)، والصوتيات (أي تعلّم الربط بين هذه الأصوات والأحرف)، والمفردات، والفهم (أو الإدراك)، والطلاقة.
ويمكن استخدام بعض التطبيقات والمنصات الرقمية المخصصة لتعليم القراءة في تعليم بعضٍ من هذه المهارات الأساسية بفاعلية. وهي مناسبة جداً لمهارتي الوعي الصوتي والصوتيات على وجه الخصوص، حيث يمكن تحويل عملية تعلّم تراكيب الأحرف والأصوات إلى لعبة، وتعزيز هذه المهارات بالتدريب. وتتولى منصة ليكسيا، التي يُعدّها البعض أكثر المنصات الرقمية المخصصة لعلم القراءة انتشاراً، تعليم مهارات القراءة الأساسية الأولية والمعقدة، مثل تراكيب الأحرف والأصوات، وقواعد التهجئة، باستخدام التكنولوجيا التفاعلية. فعند تعلّم مهارة محددة، مثل كيفية قراءة كلمات مثل "meal" و"seam" التي تحتوي على تركيبة الأحرف الصوتية "ea" في المنتصف، لا يستطيع التلميذ الانتقال إلى المهارة التالية قبل إتقان هذه المهارة.
تستطيع المنصات الرقمية تعزيز مهارات قراءة معينة، ولكن مهمة مراقبة تقدم التلاميذ باستمرار، وتعديل الدروس وفق الحاجة، تقع على عاتق المعلم.
وقد ظهرت مجموعة جديدة من منصات القراءة التنبؤية، وهي تحمل ميزات إضافية. فبعض الشركات مثل مايكروسوفت (Microsoft) وسوب بوكس لابز (SoapBoxLabs)، وضع رؤية لعالم يستطيع فيه التلاميذ تعلم القراءة عبر الحاسوب كلياً. وباستخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي للتعرف على الكلام، كما تقول هذه الشركات، يمكن لهذه المنصات الرقمية أن تصغي بدقة إلى التلاميذ عند القراءة. وبعد ذلك، تستطيع تحديد المشكلات، وتقديم المساعدة وفق المطلوب.
ومع انتشار التكنولوجيا الرقمية لتعليم القراءة في المدارس -حيث تخدم منصة ليكسيا وحدها أكثر من 3,000 منطقة تعليمية- يشعر بعض خبراء القراءة بالقلق. فالأبحاث حول فاعلية هذه الطريقة ما زالت محدودة. ومع أن البعض يرى أن التكنولوجيا تؤدي دوراً مفيداً في الوظائف المتعلقة بالقراءة، مثل تقييم التلاميذ، بل وحتى تدريب المعلمين، إلا أن الكثيرين يقولون إن البشر أكثر تفوقاً بكثير في عملية التعليم الفعلية.
تستطيع المنصات الرقمية تعزيز مهارات محددة في القراءة، كما تشرح رئيسة القسم الأكاديمي في مؤسسة ذا ريدينغ ليغ (The Reading League) لتدريب المعلمين وأبحاث التعليم، هايدي بيفيرين كاري، ولكن مهمة مراقبة تقدم التلاميذ باستمرار، وتعديل الدروس وفق الحاجة، تقع على عاتق المعلم.
أما مؤسِّسة هاي فايف ليتراسي (High Five Literacy)، وهي خدمة تعليمية واستشارية في قرية بلينفيو بولاية نيويورك، فيث بوروكاوسكي، فلا تتخذ موقفاً سلبياً من تطبيق تعليم القراءة نفسه. وتقول: "في حال وجود برنامج حاسوبي يستطيع بضعة أطفال استخدامه للتدرب على مهارات معينة، فلا مانع لديّ على الإطلاق، شريطة أن يتوافق مع ما نسعى إلى تحقيقه". ولكن، وفي أغلب الأحيان، ليس هذا ما يحدث في الصفوف المدرسية.
ففي مدارس منطقة لونغ آيلاند، التي تعمل بوروكاوسكي معها، يقوم التلاميذ بإنجاز نسبة كبيرة من مهام القراءة باستخدام الحواسيب المحمولة، لأن المدارس دفعت مبالغ طائلة لشراء هذه التكنولوجيات، وهذا ما يجعلها تشعر بضرورة استخدامها، حتى لو لم تكن تلك الطريقة الأفضل لتعليم مهارات القراءة. وتقول: "لقد رأيت بنفسي أن إدارات المدارس تعتقد أنه من الضروري استخدام البرمجيات التي اشترتها". وتضيف قائلة: "تلاقي المناطق التعليمية صعوبة في التراجع عن قراراتها بعد شراء برامج ومواد باهظة الثمن".
يعمل بعض المنصات على تقوية العلاقة بين التعليم على الإنترنت والتعليم الشخصي. يقوم برنامج إغنايت! ريدينغ (Ignite! Reading) -وهو برنامج تعليمي مكثف تم إطلاقه بعد إغلاق المدارس بسبب الوباء- بتعليم مهارات القراءة الأساسية، مثل الوعي الصوتي والصوتيات، عبر منصة للاتصال المرئي، حيث يستطيع معلمو القراءة والتلاميذ التواصل فيما بينهم بشكل صوتي ومرئي.
اقرأ أيضاً: منصة أبجديات لتعلم اللغة العربية تتوسع في دولة الإمارات وخارجها
وتهدف طريقة إغنايت إلى الجمع بين مزايا التكنولوجيا الرقمية والتفاعل البشري. ففي إحدى الجلسات التعليمية، كانت تلميذة الصف الأول بريتاني، وهي من مدينة إنديانا بوليس في ولاية إنديانا، تقرأ كلمات بسيطة ببطء تحت إشراف معلمة القراءة التي كانت تراها عبر كاميرا الحاسوب المحمول. وقرأت بريتاني كلمتي "map" و"cup"، مع النقر على لوح أبيض تحمله في يدها في كل مرة تصدر فيها صوتاً، أي ثلاث نقرات مقابلة لثلاثة أصوات في كل كلمة. وفي الوقت نفسه، كان اللوح الأبيض الرقمي على شاشة الحاسوب المحمول يبين نقرات الأصوات: واحد، اثنان، ثلاثة. ومع تلفّظ بريتاني لكل كلمة، كانت المعلمة تراقب فم الطفلة عبر كاميرا الحاسوب، وتعطي ملاحظاتها أثناء العملية.
تقول الرئيسة التنفيذية والمشاركة في تأسيس إغنايت، جيسيكا سليويرسكي، إنها تعمل على بناء مجموعة كبيرة من معلمي القراءة عن بعد للتعاون مع المعلمين في مساعدة الأطفال على استدراك ما فاتهم بعد سنوات الوباء. وتُخصص للتلاميذ جلسات مدة كل منها 15 دقيقة خلال اليوم المدرسي، وبعد انتهاء الجلسات، يخضع المعلمون لتدريب إضافي حول كيفية زيادة فعالية هذه الجلسات القصيرة.
وتعتقد سليويرسكي أن التكنولوجيا يمكن أن تكون مفيدة للغاية في منح التلاميذ درجة أعلى من الاهتمام الفردي. وتقول: "نحن نستثمر التكنولوجيا وفق مقاربة مختلفة، فنحن نقوم بربط كل تلميذ مع شخص مدرب جيداً ومسؤول عن عمله. وهذا جوهر العملية، وفي الواقع، فإن هذا الجوهر لا يتعلق بالتكنولوجيا على الإطلاق".
الحفاظ على القراءة العميقة
ما إن يتمكن التلاميذ من فك رموز الكلمات واستيعاب معانيها، يبدأ العمل الحقيقي لتعلم القراءة. وهو ما تطلق عليه وولف اسم "القراءة العميقة"، وهي مجموعة محددة من العمليات الإدراكية والمؤثرة التي تتيح للقارئ استيعاب أجزاء كاملة من النص دفعة واحدة، والتنبؤ بما سيرد لاحقاً، وتطوير الاستيعاب فائق السرعة. وتتكامل هذه العمليات التفاعلية ضمن الدماغ، وتجعل الاستيعاب أكثر سرعة.
ولكن، بما أن القراءة لدى اليافعين –بل والجميع، في الواقع- تقتصر في معظم الأحيان على القراءة السريعة للمقالات على الإنترنت، أو منشورات فيسبوك، أو رسالة نصية من صديق، في أثناء الانتقال من صفحة إلى أخرى ضمن متصفح الويب، فقد أصبحت القراءة العميقة، بوصفها عملية إدراكية، في خطر. وإذا اقتصرت القراءة لدى أطفال اليوم على الشاشات، وفقاً لوولف، فقد لا يتعلمون القراءة العميقة في المقام الأول على الإطلاق، ما قد يؤدي إلى عدم تشكّل دارات القراءة المعقدة في الدماغ. ومن الممكن أن القراءة باستخدام الشاشات "ستؤدي إلى اختلال القدرات ذاتها وتقويضها التي يُفترض بأن تسهم في تطويرها".
وتضيف وولف قائلة: "نعمل حالياً على تجميع البيانات التي تشير إلى أن دماغ القارئ يخضع لتغيرات تقلل من قدرته على استخدام العمليات الأكثر أهمية وتعقيداً مع مرور الوقت عندما يصبح استخدام الشاشات هو المعيار السائد". كانت القراءة العميقة مهارة يكتسبها الكثير من القراء بشكل طبيعي قبل ظهور التكنولوجيا الرقمية والحواسيب الشخصية، عندما كان أمامهم متسع من الوقت الذي يمكن إمضاؤه فقط في قراءة كتاب، ولكن بوجود الأدمغة ثنائية المهارة لدى القراء الصغار في هذا العصر، لا يمكن أن نفترض أنهم سيتعلمون هذه المهارة بشكل تلقائي.
اقرأ أيضاً: جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي: الجامعة الأولى من نوعها في العالم العربي
ويولي بعض المعلمين أهمية إضافية لكيفية مساعدة التلاميذ على البدء بتعلم القراءة العميقة. فدوغ ليموف -على سبيل المثال- أسس مدرسة مستقلة، ويعمل حالياً بدوام كامل على تدريب المعلمين باستخدام كتب ودروس "كيف تعلّم مثل الأبطال" (Teach Like a Champion)، ويشعر بقلق عميق إزاء ما يراه لدى الكثير من طلبة المدارس في المراحل المتوسطة والثانوية من تراجع في سعة الانتباه وعدم القدرة على التركيز على النص لفترة طويلة من الوقت. ولهذا، يشجع المعلمين الذين يدربهم على بناء "بيئات متواضعة تكنولوجياً وغنية بالنصوص" في صفوفهم المدرسة، مع الكثير من الكتب الورقية والأقلام والأوراق. ففي بيئة كهذه، يزيد التلاميذ ببطء من سعة الانتباه لديهم، وذلك عن طريق التركيز على قراءة كتاب أو كتابة شيء ما وحسب، حتى لو بدأ التدريب على هذا الأمر لفترة لا تتجاوز الدقائق المعدودة كل مرة.
يقول ليموف: "يمكن الانطلاق اعتماداً على هذه الفترة القصيرة حتى نصل إلى مدة 20 دقيقة، سواء في مجموعة أو بشكل إفرادي، وذلك بالاقتصار على قراءة النص، لزيادة قدرة الانتباه والحفاظ على التركيز. تؤدي الكتابة إلى النتيجة ذاتها، فهي تحسّن التركيز والانتباه المطلوبين لدى التلاميذ للقراءة العميقة".
من المحتمل، بطبيعة الحال، أن سعة الانتباه لدى الأطفال لم تتغير فعلياً بدرجة كبيرة مع ظهور التكنولوجيا الرقمية. وبدلاً من ذلك، يقول عالم الإدراك ويلينغام في كتابه: "عقل القارئ: مقاربة إدراكية لآلية القراءة في العقل" (The Reading Mind: A Cognitive Approach to How the Mind Reads) إن توقعات الأطفال الترفيهية هي التي تغيرت. حيث يقول في كتابه: "لم يؤدِّ التفاعل طويل الأمد مع التكنولوجيات الرقمية إلى عجز في الحفاظ على الانتباه. بل أدى إلى قلة الصبر والتحمل مصحوبة بالشعور بالملل. إنه توقّع دائم لضرورة وجود شيء مثير للاهتمام يمكن الاستماع إليه أو مشاهدته أو قراءته، والفكرة التي تقول إن بناء تجربة مثيرة للاهتمام يجب ألا يحتاج سوى إلى القليل من الجهد". من ناحية أخرى، فإن القراءة العميقة تتطلب "الصبر الإدراكي"، وهو مجموعة مختلفة تماماً من المهارات التي تتطلب من الصغار في أغلب الأحيان بذل جهد كبير لقاء مكافأة قد لا يصلون إليها إلا بعد عدد كبير من الصفحات.
اقرأ أيضاً: حوار مع بشار كيلاني حول مستقبل العمل ودور التكنولوجيا في رسمه
ولكن، وفقاً لوجهة نظر وولف، فإن التخلص من جميع تكنولوجيات القراءة لا يقل سوءاً عن الاعتماد عليها بالكامل. وبدلاً من هذا، فهي تأمل بإطلاق حوار حول أهمية التوازن، وجمع الأدلة حول أفضل الطرق لاستخدام التكنولوجيا الرقمية لصالح مجموعة متنوعة من المتعلمين ومختلف الشرائح العمرية، وهي معلومات يمكن أن تساعد المناطق التعليمية والمعلمين على توجيه القرارات التي يتخذونها حول تعليم القراءة. فالطفل الذي يتعلم القراءة بعمر 5-10 سنوات يختلف من حيث الحاجات عن طفل بعمر 12 سنة، أو عن طالب مدرسة ثانوية يحمل هاتفه الذكي خمسة تطبيقات للتواصل الاجتماعي. تكمن أكبر فائدة للأطفال الصغار، الذين بدؤوا للتو ببناء دارات القراءة لديهم، في الكتب والتفاعل البشري. أما الأطفال الأكبر سناً فيستطيعون الاستفادة من "الحكمة الرقمية" لاتخاذ خيارات أكثر ذكاء مع العمل على تطوير القدرة على الانتقال السلس بين عالم المطبوعات والعالم الرقمي.
ولكن بعض الصغار قد يشعرون بالملل من هذا التنقل المستمر. فأستاذ اللغة الإنجليزية للمرحلة الثانوية في مدينة أتلبورو في ولاية ماساتشوستس، مات رايان، لا يسمح بأي كتب إلكترونية في صفه، وعندما يحدد رواية ما لقراءتها، فهذا يعني أنه يقصد النسخة المطبوعة حتماً. ويقول إنه لا يواجه أي معارضة من الطلاب على الإطلاق، بل إنه يشعر أنهم مرتاحون بعض الشيء.
اقرأ أيضاً: الذكاء الاصطناعي يحيط بالأطفال من كل جهة، ولهذا عليهم أن يعلموا كيف يعمل
ويقول رايان: "إن العوامل المشتتة تمثل مشكلة حقيقية، ولهذا فإن القراءة على جهاز إلكتروني لن تكون فعّالة بالنسبة لمعظم الطلاب، وأعتقد أن الكثير مما يفعلونه يتم باستخدام هذه الأجهزة، ولهذا فهم يرحبون بأي فرصة للتخلي عنها".