إن كنت ممن لا يعرفون عن الزمن سوى أن الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، سنخبرك أن مفهوم الزمن يتباين كثيراً باختلاف المنظور الذي ننظر منه إليه. وهنا سنلقي نظرة على ما يقوله العلم، حول هذا البعد، فما الزمن إلا بعداً رابعاً يُضاف إلى الأبعاد المكانية الثلاث التي تحدد موقعنا.
ما هو الزمن؟ هل هناك بداية للزمن؟ وهل له نهاية؟ ما هو سهم الزمن؟ هل يختلف الشعور بالزمن مع اختلاف جمل المقارنة؟ ولماذا؟ وهل سنتمكن يوماً من السفر عبر الزمن؟ وغير ذلك الكثير، ستجدونه لاحقاً.
الزمن كبعد رابع، وولادة مفهوم الزمكان
تخيل أنك مدعوٌّ لحفلة، لم يسبق لك الذهاب إلى مكان إقامتها مسبقاً، ستستعين بخارطة تحدد من خلالها مكان تقاطع خطي الطول والعرض للمكان الذي ستُقام فيه. وصلت إلى هذا الموقع على الأرض لتُفاجأ بأن المكان هو ناطحة سحاب، أنت إذا بحاجة إلى تحديد بعد ثالث، الارتفاع، أو الدور الذي ستُقام به الحفلة. هل يكفي ذلك؟ لا؛ أنت بحاجة إلى معرفة دقيقة بموعد الحفلة، فلن تكون بموقف تُحسد عليه إن وصلت متأخراً.
هذه هي الأبعاد الأربعة باختصار شديد التي تحتاجها لتعريف أي حدث وتحديده. لا معنى لتوصيف حدثٍ في أي جملة فيزيائية دون ذكر زمن حدوثه.
يُعرف الفيزيائيون الزمن بأنه تتابع الأحداث من الماضي مروراً بالحاضر نحو المستقبل، يؤلف مع الأبعاد المكانية الثلاث ما يُدعى بالزمكان. الزمن هو قاهرٌ للبشر، إذ لم يتمكنوا حتى اللحظة من لمس هذا البعد فيزيائياً، باستثناء مروره، وآثاره.
كيف نقيس الزمن؟
كما هي كل المقادير الفيزيائية، ترتبط تقديراتنا لها بأدوات القياس، وبالنسبة للزمن إن أدوات القياس هي الساعات.
ربما كانت المزولة، أو الساعة الشمسية، هي الأداة التي دام استخدامها أطول مدة لقياس الزمن، ويعود استخدامها لسومر والمصريين القدامى، يكفي أن تضع عصا في الأرض، تراقب ظلها. مقسما الدائرة التي يصنعها، لتحصل على قياس لمرور الوقت.
قادت الحدود المفروضة لدى استخدام هذه الأداة التي ينحصر استخدامها في ساعات النهار، إلى ظهور نوع آخر من الساعات، هو الساعات المائية التي كانت أداةً مفضلة لدى قدامى الإغريق واليونان، والمصريين أيضاً، ثم ظهرت الساعات الميكانيكية، بعدها أتت ساعات الكوارتز، وهي الساعات التي ما زالت الأكثر شيوعاً حتى الآن.
الأداة الأكثر دقة لقياس الزمن هي الساعات الذرية، واختُرعت للمرة الأولى في خمسينات القرن الماضي، ولا يتجاوز مقدار الخطأ فيها الثانية على مدار عشرات الملايين من السنين، وهي تعتمد على قياس الذبذبات التي تصدرها ذرة السيزيوم لدى انتقال إلكترون فيها من مستوى طاقي إلى مستوى آخر، وتُعرف الثانية المعيارية وفقها بأنها الفترة اللازمة لانقضاء 9,192,631,770 ذبذبة كاملة للإشعاع الصادر عن تغير المستوى الطاقي للإلكترون.
كان الزمن بعداً مطلقاً، إلى أن أتى أينشتاين بنسبيته الخاصة.
اقرأ أيضاً: هذا هو الكسوف الكلي الذي برهن صحةَ نظرية النسبية العامة لأينشتاين
الزمن المطلق ونسبية أينشتاين الخاصة
أرسل أينشتاين إلى مجلة العلوم الفيزيائية في 30 حزيران من عام 1905 أربع أوراق علمية غيرت الفيزياء إلى الأبد، وحملت عنوان "Annus Mirabilis papers"، في هذه الأوراق استند أينشتاين إلى تجارب ذهنية يوضح من خلالها مفهوم التواقت، وقد سار الكثير من الباحثين على خطا أينشتاين في التجارب الذهنية، لتوضيح مفهوم التواقت.
يعتمد قياس الزمن في نظرية النسبية الخاصة لأينشتاين على الإطار المرجعي للراصد، فعلى افتراض وجود جملتي مقارنة، أحدهما أرضية يراقب فيها راصد أرضي انطلاق حزمتي ليزر من شخص يجلس وسط صاروخ يسير بسرعة قريبة من سرعة الضوء، ولنقل بسرعة 80 % من سرعة الضوء، ووُضعت في مقدمة الصاروخ ومؤخرته مرآتان لعكس حزمتي الليزر، بالنسبة للشخص الجالس في الصاروخ، والذي يعتقد أنه ساكن (بالنسبة لجملة مقارنة تضمه وصاروخه المتحرك بالنسبة للراصد الأرضي)، سيرى ارتداد حزمتي الليزر في اللحظة ذاتها، أما الراصد الأرضي، فحزمة الليزر التي انطلقت نحو مؤخرة الصاروخ (المتحركة بالنسبة له) سترتد عن المرآة قبل الحزمة التي انطلقت نحو مقدمة الصاروخ، والتي عليها أن تدرك المقدمة المتحركة بالنسبة للراصد الأرضي.
الحدثان المتواقتان بالنسبة لرائد الفضاء، ليسا كذلك بالنسبة للراصد الأرضي.
من هذه التجربة الذهنية، وغيرها من التجارب، نخلص إلى القول بأن ما ندعوه بـ "الآن" لا يمكننا الادعاء بأنه في جميع أرجاء الكون واحد، فلكل جملة قياس زمنها الخاص، وليست هناك ضرورة فيزيائية تقتضي توازي هذين البعدين في الجمل الفيزيائية، وهذا يلعب دوراً في تمدد الزمن.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن للنسبية الخاصة أن تساعد الذكاء الاصطناعي على التنبؤ بالمستقبل؟
هل يمكن للزمن أن يتمدد؟
قد لا أختبر أنا أوأنت أو أي على الأرض ذلك، والسبب أننا لم نتمكن بعد من صنع تلك المعدات التي تجعلنا نسير بسرعة تقترب من سرعة الضوء لنختبر تمدد الأزمنة.
تخيل أن ترسل البشرية صاروخاً يسير بسرعةٍ تبلغ 99.995% من سرعة الضوء إلى نجم منكب الجوزاء، الذي يبعد عنا 500 سنة ضوئية. ستسير عقارب ساعة رائد الفضاء بسرعة (والقيمة ناتجة عن معادلة رياضية لا سبيل لذكرها هنا) 1/100 من سرعة عقارب الساعات الأرضية. سيفضي بنا ذلك إلى استنتاج أن ما يمر على رائد الفضاء من زمن أثناء الرحلة سيكون 5 أعوام، بينما سيقيس الراصد الأرضي مرور 500 عام تقريباً على هذه الرحلة، أي مع عودة رائد الفضاء إلى الأرض، ستكون أجيال قد ولت ووُلدت غيرها. (تذكر فيلم Intersteller).
تعاني الأقمار الصناعية العاملة في نظام تحديد المواقع العالمي GPS تمدد الزمن، حيث يتأخر وصول إشارتها يوميّاً 7 ميكروثانية، بسبب تأثيرات تمدد الزمن والجاذبية، لذا بُرمجت الأقمار الصناعية ليتم أخذ هذا التأثير بالحسبان.
الزمن يتمدد، وهنا يحق لنا التساؤل: هل يمكن العودة بالزمن إلى الوراء؟ أي وبلغة رياضية، ألا يمكننا أن نسير على هذا البعد (المحور) في الاتجاه المعاكس للاتجاه الموجب، ألا يمكن أن تدور عقارب الساعة ونعود بالزمن إلى الوراء؟ ألا يمكن أن يكون سيناريو مثل "The Curious Case of Benjamin Button" صحيحاً؟
تكمن الإجابة فيما يُسمى بسهم الزمن.
اقرأ أيضاً: كيف يؤثر تمدد الزمن على التقدم في العمر في السفر الفضائي عالي السرعة؟
سهم الزمن
في العالم الطبيعي الذي نحيا به، نختبر مرور الزمن في اتجاه وحيد. أي أننا لا نعرف تناظراً بالنسبة لمحور الزمن، فهو يتحرك من الماضي إلى المستقبل مروراً باللحظة الراهنة. وهذا ما ندعوه بسهم الزمن.
أحد التفسيرات المقدمة لهذه المعضلة، تتفق وقوانين الديناميكا الحرارية. وتحديداً القانون الثاني في الترموديناميك الذي ينص على أن أنثروبي أي منظومة مغلقة تبقى ثابتة أو تزداد. ففي حال تطبيق هذا القانون على الكون باعتباره جملة معزولة لايمكن لإنثروبيته أن تتناقص. بكلمات أخرى، لا يمكن للكون أن يعود لحالة سابقة كان عليها من قبل، أكثر انتظاماً. أي لا يمكننا الرجوع بالزمن إلى الوراء.
هل السفر عبر الزمن ممكن؟
في الأبعاد المكانية الثلاث، يمكننا أن نتحرك على خط الإحداثي الممثل لكل منها: أمام- خلف، فوق-تحت، يمين- يسار، فهل سيصح السير على هذا الخط الزمني وفق اتجاهي ماضي- حاضر؟ الفقرة السابقة تقول لا. كما أن السفر عبر الزمن ينتهك مبدأ السببية، إذ ستخلق العودة بالزمن إلى الوراء مفارقات زمنية، من هذه المفارقات وأشهرها هي مفارقة الجد، التي تنص على أنك إن عدت بالزمن إلى الوراء وقتلت جدك، قبل ولادة والدك أو أمك، فلن تولد أنت. وهنا يعتقد الفيزيائيون حتى الآن باستحالة السفر عبر الزمن، على الرغم من أنهم وجدوا حلولاً لمفارقة الجد، كأن يكون السفر قد تم بين أكوان متوازية.
جدير بالذكر، أن رائد الفضاء يتخلف عن الزمن الأرضي بمقدار 0.01 ثانية كل 12 شهراً، أي بعودته إلى الأرض، يعود للمستقبل، والسبب اختلاف سرعة دوران محطة الفضاء الدولية عن سرعة دوران الأرض.
اقرأ أيضاً: صورة من هابل تجعلنا نفكر فيه كأنه آلة للسفر عبر الزمن
إدراكنا للزمن: لماذا نشعر بأن اللحظات السعيدة تمضي سريعاً؟
في الدماغ البشري، تكون النواة المصالبة هي الجزء المسؤول عن تنظيم ساعتنا البيولوجية. لكن النواقل العصبية والعقاقير المخدرة تؤثر على إدراكنا للزمن، فالعقاقير التي تثير الخلايا العصبية تعطي شعوراً بمرور الزمن سريعاً، في حين تفعل المثبطات مفعولاً معاكساً. وقد يكون هذا هو السبب في شعورنا بمرور الوقت سريعاً حين نكون مبتهجين وسعداء.
هنا قد يقول قائل، بأن اللحظات العصيبة، التي يُفترض أننا نعاني أثناءها احتراقاً عصبيّاً، تمر ببطء. في هذا الصدد، خلُص باحثون في كلية بايلور الطبية في هيوستن، إلى أن نشاط اللوزة الدماغية يغدو كبيراً، وهي المنطقة في الدماغ المسؤولة عن تشكيل الذكريات، ففي الأوقات العصيبة، يتوالى تشكيل الذكريات، فيبدو الوقت يمر ببطء. للسبب ذاته، يشعر الإنسان مع تقدم العمر بمرور الوقت سريعاً، فهو لا يختبر تشكيل كمٍ كبير من الذكريات، كما كان يفعل عندما كان شابا، حين كان يشعر بثقل مرور الوقت عليه.
اقرأ أيضاً: هل سيوفر تلسكوب جيمس ويب إثباتاً لنظرية اقترحها باحثون عرب؟
متى بدأ كل هذا؟ هل للزمن بداية، وهل ستكون له نهاية؟
تلقى نظرية الانفجار العظيم القبول الأوسع بين النظريات العلمية لتفسير بداية الكون، وقبولها يعني القبول بمبدأ لقياس الزمن، هذا المبدأ يفصح عنه إشعاع الخلفية الكونية الميكروي، وهي أشعة متبقية منذ الانفجار العظيم، ويعود عمر الأشعة الميكروية العائدة إلى الانفجار العظيم إلى 13.8 مليار سنة، ولم ترصد أشعة تعود إلى ما قبل هذا الرقم.
إذا استمر التوسع الكوني إلى ما لا نهاية، سيستمر الخط الزمني معه أيضاً. لكن إن كان هناك انفجار عظيم آخر، أو نهاية كونية على شكل (انكماش عظيم) كما تقول بعض النظريات، وجب علينا أن نضع نقطة أخيرة، لنبدأ نقطة مبدأ زمني جديد. لكن فيزياء الجسيمات تخالف التوقعات، ففيها تنشأ جسيمات عشوائية من الفراغ، ومن هذه التجارب يخلص الباحثون إلى أن الكون لن يكون يوماً هذا المكان الممل الذي لا مرور لزمن فيه. كل ما يمكن الجزم به، هو أن تريليونات الأعوام هي التي ستتكفل بالإجابة عن هذا التساؤل، أو ستكون الإجابة قابعة في إحدى زوايا ميكانيكا الكم، أو ربما سنكون محظوظين للغاية، فتخبرنا تصادمات الجسيمات في مسارعات الجسيمات بالحقيقة.