تقرير خاص

كيف تسهم التكنولوجيا في تصميم هيكل تنظيمي وثقافة مؤسسية أكثر كفاءة؟

13 دقيقة

لتحقيق أقصى استفادة ممكنة من الموظفين، تحتاج المؤسسات إلى نظام تشغيلي لإدارة الأفراد يتميز بأنه استراتيجي وتعاوني ومرن ويعتمد على البيانات. وإليك كيفية تصميمه.

تشهد إدارة المؤسسات لأهم أصولها، أي موظفيها، تحولاً جذرياً؛ فمع ظهور التكنولوجيا الحديثة وانتشار نماذج العمل الهجين وتعدد الأجيال في القوى العاملة وتزايد المخاطر الجيوسياسية، وغيرها من عوامل الزعزعة الرئيسية، أصبح لزاماً على القادة أن يعيدوا النظر في أساليب جذب أصحاب المواهب وتطويرهم واستبقائهم.

شهدنا خلال العام الماضي وحده ازدياد تبنّي الشركات للتكنولوجيا وابتكارها والاستثمار فيها، لا سيما في الذكاء الاصطناعي التوليدي، ما أحدث تحولاً جذرياً في عمليات إدارة الأفراد يفوق ما شهدناه خلال العقد الماضي كلّه.

أقدمت مؤسسات عدة على اتخاذ خطوات جادة استجابة لتغيُّر توقعات الموظفين بشأن العمل ومن أجل رفع إنتاجيتهم وتعزيز مرونتهم، وهي في العديد من الحالات تتجاوز المنهجيات التقليدية لإدارة الأفراد والنماذج التشغيلية لإدارة الموارد البشرية لتواكب مستقبل إدارة الأفراد.

كيف سيبدو ذلك المستقبل؟ نؤمن من وجهة نظرنا بأنه سيتمحور حول قدرة التكنولوجيا على إعادة تشكيل المؤسسات؛ ففي المستقبل القريب، قد تُتيح التكنولوجيات الناشئة للشركات تقديم تجارب مخصَّصة للموظفين وإعادة تعريف العمل باعتباره علاقة تكاملية بين الإنسان والآلة، إلى جانب تمكين الشركات من قياس الصحة المؤسسية والأداء باستمرار لحل المشكلات قبل ظهورها. علاوة على ذلك، من المتوقع أن تسهم الأتمتة عبر هذه التكنولوجيات الحديثة في توفير وقت المدير، ما يمنحه مساحة أكبر للتركيز على التفاعل الإنساني مع الموظفين من خلال تقديم الإرشاد والتوجيه المهني بما يلائم الاحتياجات الفردية لكل موظف على حدة.

لبلورة هذه الرؤية حول مستقبل إدارة الأفراد، استطلعنا آراء أكثر من 100 خبير في تكنولوجيا إدارة الموارد البشرية، بالإضافة إلى مسؤولين تنفيذيين في كبرى الشركات وأكاديميين وروّاد الفكر في مجالي إدارة الأفراد والتكنولوجيا. وقد أكدت مناقشاتنا معهم ونتائج أبحاثنا الأثر الإيجابي لفاعلية مهام إدارة الأفراد؛ فالمؤسسات التي تتميز في مجالي تطوير العنصر البشري والأداء المالي تزيد احتمالية تفوقها مالياً على نظيراتها بمقدار 4 أمثال، كما أن احتمالية حفاظها على الريادة عاماً بعد آخر تفوق نظيراتها بمقدار مرة ونصف المرة.

ونستعرض في هذا المقال رؤيتنا الجديدة لإدارة الأفراد، ونحدّد العناصر الأساسية للنظام التشغيلي المطلوب لتحويل هذه الرؤية إلى واقع ملموس، كما نقترح خطوات عملية يمكن للمؤسسات اتخاذها لتطبيق نظام تشغيلي جديد لإدارة الأفراد.

استشراف مستقبل إدارة الأفراد

يتطلب نجاح إدارة الأفراد خلال الأعوام المقبلة توجيه مزيد من التركيز إلى اندماج الموظف وتطوره ورضاه وإنتاجيته، فضلاً عن توزيع المهارات بمرونة أكبر بما يضمن توجيهها إلى المهام الأكثر تأثيراً، واتباع نهج قيادي يتمحور حول الإنسان.

تخصيص تجربة الموظف على نطاق واسع

أصبح التخصيص جزءاً لا يتجزأ من حياة الموظف الشخصية، بدءاً من المحتوى الرقمي الموجَّه على وسائل التواصل الاجتماعي، مروراً بخطط التمارين الرياضية المخصَّصة، وصولاً إلى التوصيات في مجالي التجارة الإلكترونية والمحتوى الموسيقي. وبالمثل يتطلع الموظف حالياً إلى مستوى مماثل من التخصيص في بيئة العمل، أي أن يحصل على دعم إرشادي وفرص تدريبية وتطويرية مصممة وفقاً لاهتماماته وتفضيلاته واحتياجاته الفريدة.

على المؤسسات أن ترتقي بتجربة موظفيها لمواكبة هذا التحول في التوقعات. في الماضي، لم تكن القدرات التكنولوجية المتاحة تمكّنها من تقديم تجارب مصممة وفق عوامل مثل اللغة أو الثقافة أو الدور الوظيفي أو التفضيلات الفردية، لا سيما في الشركات الكبيرة والعالمية ذات الهياكل التنظيمية المعقدة، كما أن نقص البيانات أو محدودية القدرة على دمجها من مصادر مختلفة، إلى جانب التكلفة العالية، شكَّل عقبات إضافية أمام تحقيق هذا المستوى من التخصيص.

أحدثت الابتكارات التكنولوجية نقلة نوعية في سهولة التعرّف إلى تجربة الموظف، حيث باتت الحلول التكنولوجية أكثر كفاءة وأقل تكلفة، ما أتاح للمؤسسات جمع بيانات متنوعة من مصادر مختلفة وتحليلها لاستخلاص رؤى ثاقبة وابتكار خدمات جديدة. فعلى سبيل المثال، يمكن للمؤسسات في المستقبل تخصيص التعويضات والمزايا لكل موظف بما يتناسب مع ظروف السوق المحلية، بكبسة زر واحدة. ومن خلال اعتماد نهج فردي في تقديم التعويضات والمزايا بدلاً من تصنيفها حسب الدور الوظيفي، ستتمكن المؤسسات من تعزيز شعور الموظف بالتقدير والمكافأة وفقاً لاحتياجاته الشخصية والمهنية.

ستتمكن المؤسسات أيضاً من تزويد القادة والمدراء والموظفين بخطط توجيهية مخصصة تعزّز تطورهم المهني، وذلك من خلال مراعاة مهاراتهم الحالية والفجوات فيها والاحتياجات المؤسسية الحالية والمستقبلية والأهداف المهنية التي يحدّدها الموظف نفسه. كما ستزداد قدرة الشركات على تخصيص تجربة الموظف في المراحل المفصلية خلال مسيرته المهنية، مثل تقديم برامج إرشادية مصممة خصيصاً عند إعداد الموظفين الجدد وبرامج تدريبية مخصصة وتوجيهات قائمة على الذكاء الاصطناعي للأفراد والفرق على حد سواء.

تحسين التوجيه المهني بالذكاء الاصطناعي

أطلقت إحدى شركات الاتصالات مؤخراً محرك تدريب قائماً على الذكاء الاصطناعي التوليدي ومخصصاً لفريق المبيعات والخدمات التابع لها، مع تدريب هذا المحرك على مؤشرات الأداء الرئيسية الخاصة بكل دور وظيفي استناداً إلى البيانات المستخرجة من نصوص مكالمات مراكز الاتصال وغيرها من مؤشرات خدمة العملاء، ما يُتيح له تحديد الثغرات المعرفية لدى الموظف ومتابعتها. ثم يتلقى الموظف إشعارات وتوصيات تدريبية تساعده على تنمية مهاراته في مجالات محددة وتحسين أدائه، كما يوفّر المحرك بيانات لقادة الفرق ويرشدهم في جهود مساعدة الموظف على تطوير قدراته وضمان التزامه بأهدافه التدريبية وتحفيزه في عمله اليومي وتمكينه من تحقيق النجاح.

علاوة على ذلك، تستطيع المؤسسات وأقسام الموارد البشرية الاستفادة من مصادر البيانات المتقدمة والتحليلات المحوسبة لقياس أثر هذه المبادرات في تجربة الموظف وسلوكياته. ويمكن استخدام هذه المقاييس لتعزيز ثقافة التحسين المستمر (انظر العمود الجانبي "تحسين التوجيه المهني بالذكاء الاصطناعي"). وسيحصل المدراء على معلومات أدق، ما يسمح لهم بالاضطلاع بدور المدربين الفعليين في تطوير الفرق. أمّا بالنسبة للموظف، فقد ينعكس ذلك على زيادة ملحوظة في مستوى الاندماج والرضا والإنتاجية.

استحداث وكلاء شخصيين

استحدثت إحدى شركات خدمات النقل عبر التطبيقاتي آسيا أدوات الوكلاء الشخصيين بقسم الموارد البشرية لديها، وذلك لأتمتة المهام التي تتطلب مستويات مهارية منخفضة ومتوسطة، مثل تقييم خطط التعويضات والمزايا للموظفين في الأسواق المحلية وتقديم لمحة عامة عن اللوائح التنظيمية في هذه الأسواق وتحديث المعلومات المتعلقة بقوانين العمل المحلية التي تخضع لها الشركة، فضلاً عن إدخال بيانات أوصاف الوظائف تلقائياً.

يبشِّر الجيل التالي من التكنولوجيا الحديثة بآفاق واعدة فيما يتعلق بتخصيص تجربة الموظف؛ فقد تصبح تكنولوجيات التوائم الرقمية أو الوكلاء الشخصيين الواجهة الأساسية التي تُتيح للموظف التفاعل مع أنشطته المهنية كلها، ما يُتيح تقديم المساعدة الفورية على مدار الساعة (انظر العمود الجانبي "استحداث وكلاء شخصيين").

نحو مؤسسة بلا عوائق

إذا أرادت المؤسسات مواكبة المستقبل، فعليها أن تتخلص من الأدوار الجامدة والمسارات التقليدية والتراتبية الهرمية والعزلة بين الأقسام التي تعوق تحقيق أهدافها المرجوة؛ إذ تبالغ الشركات حالياً في تعيين الموظفين استناداً إلى خبراتهم السابقة بدلاً من مهاراتهم الحالية أو إمكاناتهم المستقبلية، كما تفضّل مسارات الترقية التقليدية بدلاً من توفير فرص التنقل الوظيفي الأفقي ضمن المستوى الإداري نفسه التي تُتيح للموظف صقل مهاراته وخبراته، على الرغم من أن أبحاث ماكنزي أثبتت أن مؤسسات عديدة تفقد نسبة كبيرة من قيمتها بسبب ضعف فرص التنقل بين الأدوار الوظيفية داخل المؤسسة؛ فأكثر من 80% من التنقلات الوظيفية يحدث بين شركات مختلفة. ولا تزال المسميات الوظيفية والأدوار والمسارات المهنية والدرجات الوظيفية تؤدي دوراً محورياً في تحديد المكانة والنفوذ داخل المؤسسات.

حتى على أعلى المستويات الإدارية، غالباً ما يحاول المسؤولون التنفيذيون في العديد من المؤسسات سد الفجوات القيادية بأسلوب رد الفعل، بدلاً من التخطيط الاستباقي لعملية التعاقب الوظيفي على المدى البعيد، كما يتعاملون مع ضعف الأداء القيادي بعد فوات الأوان، بدلاً من تقديم الملاحظات البنّاءة والدعم التطويري الفعّال آنياً.

مع ازدياد اعتماد المؤسسات على التكنولوجيا، ستصبح إدارة الأفراد أكثر استباقية ومرونة واعتماداً على البيانات؛ إذ ستستعين المؤسسات بالبيانات الاستشرافية لفهم ما يلزم لتحسين صحة المؤسسة وأدائها، وستتمكن من التخطيط الاستراتيجي الآني للقوى العاملة بحيث تزداد قدرتها على استشراف التحولات الاستراتيجية ومواءمة المهارات مع المهام الجديدة بمرونة وفقاً للكفاءات والقدرات المطلوبة، كما ستكون لديها قاعدة بيانات موثوقة تتيح لها اتخاذ قرارات دقيقة بشأن التوظيف أو الاستعانة بالمصادر الداخلية أو التعهيد من خلال التعاقد الخارجي أو صقل المهارات وتحسينها. وستتحول هذه التدخلات إلى ممارسة اعتيادية حيث يصبح التكيف وإعادة التوزيع والتطوير نهجاً راسخاً، لا مجرد إجراء مؤقت.

زيادة مرونة المواهب

يمكن استخدام أنظمة إدارة الفرص الوظيفية لمنح المؤسسات والموظفين مزيداً من المرونة. على سبيل المثال، تخيّل أن شركة عيّنت موظفاً بصفة مساعد، وأشار نظام الفرص الوظيفية إلى أن التعلم والتطوير يمثّلان مجالاً واعداً لمساره المهني المستقبلي. وفي الوقت نفسه، اكتشف النظام أن الحاجة إلى مهام المساعدين ستنخفض في المستقبل القريب. في هذه الحالة، يمكن للنظام إخطار الموظف والإدارة المعنية بهذا "التوافق" المحتمل ومساعدته على تطوير المهارات اللازمة للاستعداد للمهام الجديدة.

تساعد أنظمة إدارة الفرص الوظيفية أيضاً على بناء منظومات عمل أكثر مرونة تتجاوز حدود المؤسسات. فعلى سبيل المثال، وضعت إحدى المدن في منطقة الشرق الأوسط خطة استراتيجية على مستوى المدينة لإدارة القوى العاملة بهدف فهم أفضل الطرق لدعم القطاعات المحلية في صقل مهارات موظفيها وتحسينها. وفي مثال آخر، توفّر منصة رقمية في إسبانيا والبرتغال حلقة وصل بين الشركات والباحثين عن وظائف ومقدمي برامج صقل المهارات المهنية، ما يساعد العاملين على اكتساب مهارات جديدة والتقدم لأدوار جديدة، وبالتالي خلق فرص لتنقل المواهب بمرونة أكبر.

على سبيل المثال، بدأت بعض الشركات فعلياً استخدام الذكاء الاصطناعي لدعم الأنظمة الرقمية التي تزوّد الموظفين بمعلومات حول الفرص الوظيفية المتاحة داخل المؤسسة. وتخطّى بعض هذه الأنظمة الداخلية حدود المؤسسات ليشكّل منصات أوسع لتنقل المواهب، ما يُتيح للعاملين استكشاف فرص تتجاوز نطاق الشركات التي يعملون بها حالياً (انظر العمود الجانبي "زيادة مرونة تنقل المواهب"). ومن خلال هذا النوع من منظومات العمل، تستطيع المؤسسة الاستجابة بسرعة لتغير احتياجات المهارات، كما تستطيع في حالة الوظائف القصيرة الأجل تحديد الموظفين المتعاقدين أو المؤقتين أو المستقلين بسرعة أكبر لتولي مهام معينة، ولكن هذا يستلزم امتلاك قسم إدارة الموارد البشرية خبرة واسعة في تحديد الأهداف الاستراتيجية وترجمتها إلى القدرات اللازمة لتحقيقها.

تعزيز البُعد الإنساني

يقول الخبير الاقتصادي وأستاذ الاقتصاد في كلية لندن للأعمال، أندرو سكوت: "كلما ازدادت كفاءة الآلات في أداء وظائفها، ازدادت حاجة البشر إلى تعزيز قدرتهم على إظهار إنسانيتهم".

ينطبق هذا المبدأ على الأفراد داخل المؤسسات عموماً، لا سيما القادة التنفيذيين؛ إذ سيكون عليهم تشكيل مستقبل جديد للعمل مع ضمان امتلاك القدرة على توجيه دفة التكنولوجيا بدلاً من الانسياق في تيارها دون بوصلة محددة. ولتحقيق ذلك، عليهم تعميق فهمهم لإمكانات التكنولوجيا وكيفية الاستفادة منها على نحو أخلاقي ومسؤول اجتماعياً.

على المدير أن يوجّه مزيداً من الاهتمام إلى الجوانب الإنسانية، مثل إبداء التعاطف والتفهُّم والتقدير السليم والتحفيز، وهي الجوانب التي يعبّر الموظفون عن حاجتهم إليها. ولم يَعد من المقبول إلقاء هذه المسؤولية حصراً على عاتق قسم الموارد البشرية. ومع توفّر المزيد من الوقت بفضل الأتمتة، يستطيع المدير التركيز على مساعدة الآخرين في تبنّي التكنولوجيا الحديثة وإتقان استخدامها، مع تخفيف قلقهم تجاه التغيير والزعزعة التكنولوجية.

تتمثل مهمة قسم الموارد البشرية في تزويد المدير بالتكنولوجيا والأدوات والرؤى اللازمة لتعزيز قدرته على تحقيق التزامه بالقيادة مع مراعاة الأبعاد الإنسانية. وعلى المدى المنظور، قد يحتاج قائد الموارد البشرية إلى أداء دور الاستشاري الأخلاقي للإدارة العليا فيما يخصُّ استخدام التكنولوجيا، فضلاً عن تكثيف جهود تطوير مهارات المدراء والموظفين. أمّا على المدى البعيد، فسيكون قسم الموارد البشرية مطالباً بأداء دور الشريك الفكري الذي يساعد المدراء وفرق القيادة العليا على صناعة القرارات، استناداً إلى فهمه التام للأنظمة والكوادر البشرية والتكنولوجيا والبنية المؤسسية.

تحوّل النموذج التشغيلي لإدارة الأفراد

تشير هذه التغيُّرات إلى أن المرحلة المقبلة من إدارة الموارد البشرية ستتطلب أساليب عمل ومسؤوليات جديدة للعاملين في هذا المجال. وتحديداً، ستتغير المهام الوظيفية، بحيث يتولاها قادة الموارد البشرية ضمن "ثلاثي استراتيجي"، كما سيكون نموذجاً تشغيلياً لإدارة الأفراد أكثر سهولة وانسيابية، وسيتعيّن على العاملين في هذا المجال إتقان استخدام التكنولوجيا بصورة أفضل لمواجهة التعقيدات بفاعلية.

تشكيل الثلاثي الاستراتيجي

ستكون مهام إدارة الموارد البشرية أكثر تحديداً في المستقبل، بحيث تركّز بصورة أساسية على الاستراتيجية والأعمال. وتشير أبحاثنا إلى أن نحو 20% فقط من الأنشطة الاستراتيجية الحالية في الموارد البشرية ستبقى كما هي، بينما يمكن أتمتة نحو ثلثي المهام الحالية إلى حدٍّ كبير (انظر الشكل 1).

نظراً لإمكانية تحقيق مستويات متقدمة من الأتمتة، ستُتاح لقسم إدارة الموارد البشرية فرصة أكبر للتركيز على أنشطة تهدف إلى تحسين أداء المؤسسة، مثل تصميم هيكل تنظيمي وثقافة مؤسسية أكثر كفاءة وتمكين القيادات الإدارية. إضافة إلى ذلك، سيضطلع قسم إدارة الموارد البشرية بدور أساسي في إدارة التغيير وتعزيز القدرة على التكيُّف والتحمُّل في عالم يزداد غموضاً وتعقيداً.

مع تقدم الأتمتة، ستتراجع الحاجة إلى الأدوار التي تتطلب مستويات منخفضة ومتوسطة من المهارات، بينما ستزداد الحاجة إلى المتخصصين في البيانات وتكنولوجيا الموارد البشرية، إضافة إلى الخبراء المتخصصين في مجالات مثل الثقافة المؤسسية أو التعلم أو القيادة أو الفعالية المؤسسية. وبذلك، سيزداد اعتماد وظيفة الموارد البشرية على الخبرة والتكنولوجيا، وسيعمل المتخصصون في هذا المجال بأساليب جديدة كلياً أكثر ترابطاً ومرونة وتركيزاً على المشاريع وأكثر انسجاماً مع الاستراتيجية والقيمة المؤسسية.

ستتحول أقسام الموارد البشرية من جهات تتكبد تكاليف ولا تحقق إيرادات مباشرة إلى جهات رائدة في إضافة قيمة حقيقية. ستتألف من "الثلاثي الاستراتيجي" الجديد، المكوَّن من مدراء وخبراء متخصصين وخبراء تكنولوجيين سيتولون مهمة مراجعة أساليب تنفيذ مهام الموارد البشرية الحالية:

  • خبراء استراتيجيات إدارة الأفراد: مدربون متمرسون يتعاونون مع قادة الشركات لتعزيز الفعالية المؤسسية، يعملون على تحويل استراتيجية الشركة إلى أولويات متعلقة بالموظفين والشؤون التنظيمية استناداً إلى رؤى قائمة على البيانات. وباعتبارهم شركاء لقسم الموارد البشرية، لا بُدّ أن يكون فهمهم للقطاع واستراتيجية الأعمال عميقاً، إضافةً إلى امتلاكهم القدرة على العمل باعتبارهم شركاء استراتيجيين للقادة.
  • علماء إدارة الأفراد: مجموعة صغيرة من الخبراء المتخصصين المتمرسين في مجالاتهم، انتقلوا من أدوار مراكز التميز (COE)، ويستخدمون رؤى قائمة على البيانات لتصميم إجراءات فعّالة تتعلق بالموظفين والشؤون التنظيمية. يُكلَّف علماء إدارة الأفراد عادةً بالانخراط في المشاريع ذات الأولوية القصوى حسب حاجة العمل، حيث يتولون تطوير برامج التعلم وتطوير القدرات القيادية ومبادرات الصحة المؤسسية، وغيرها من المنتجات والحلول التي تهدف إلى تحسين تجربة الموظف والمؤسسة.
  • خبراء تكنولوجيا إدارة الأفراد: خبراء يتمتّعون بمهارات تقنية عالية ويمتلكون قدرات متخصصة أكبر بكثير من تلك المتوفرة في أقسام الموارد البشرية حالياً، وتشمل هذه المجموعة علماء البيانات وخبراء البنية التحتية ومدراء الموردين. يشكّل هؤلاء الخبراء المصدر الرئيسي لمعالجة البيانات وتحليلها بهذا المجال؛ إذ يتولون إنشاء البنية التحتية للبيانات والتكنولوجيا بمختلف الموضوعات المتعلقة بالموظفين والشؤون التنظيمية وصيانتها وتحسينها، ويعملون ضمن فرق افتراضية أو داخل المؤسسة متخصصة في تطوير الحلول الرقمية والتنظيمية.

تبسيط النموذج التشغيلي لإدارة الأفراد

تشير أبحاثنا إلى أن أكثر من ثلاثة أرباع المهام الأساسية لأقسام الموارد البشرية ما زالت تُدار في الغالب وفق نموذج أولريخ (Ulrich Model) الكلاسيكي، مع تقسيم العمل داخلها إلى الشراكة مع الأعمال ومراكز الخدمات المشتركة ومراكز التميز، أو مجموعات تركّز على موضوعات محددة، مثل التعلم والتطوير والتعويضات والمزايا.1

1. ديفيد أولريخ: كتاب "أبطال الموارد البشرية: الأجندة الجديدة لإضافة القيمة وتحقيق النتائج" (Human Resource Champions: The Next Agenda for Adding Value and Delivering Results)، الطبعة الأولى، مدينة بوسطن بولاية ماساتشوستس، صدر عن هارفارد بزنس ريفيو عام 1996

سيتطلب نموذج إدارة الأفراد في المستقبل نموذجاً تشغيلياً يضم مجموعة من الكفاءات أكثر رشاقة ومرونة، مع توزيع الخبراء على أولويات الأعمال الأكثر توليداً للقيمة، من خلال التعاون ضمن فرق تطوير الحلول. بموجب هذا النموذج الجديد، ستتطور مراكز التميز التقليدية إلى مجموعات خبرة افتراضية، حيث يتعاون علماء إدارة الأفراد مع خبراء من تخصصات أخرى لتنفيذ مشاريع ومنتجات وإجراءات تدخلية مشتركة بين عدة أقسام تركّز على تعزيز الصحة المؤسسية والفعالية التنظيمية. وبمجرد تحقيق نتيجة محددة، يُحلُّ الفريق ويُعاد توزيع أفراده على أولويات أخرى استناداً إلى مبدأ الربط بين مهارات الأفراد والقيمة التي تخلقها هذه المهارات للمؤسسة.

ستخضع المهام الإدارية في مراكز الخدمات المشتركة للأتمتة إلى حدٍّ كبير، بالاستفادة من الذكاء الاصطناعي وأتمتة العمليات الروبوتية، وسيقدّمها وكلاء متخصصون. وستركّز مؤسسة الخدمات المشتركة المستقبلية بدلاً من ذلك على معالجة البيانات المتعلقة بالأفراد والشؤون التنظيمية، من خلال إدارة منصات البيانات والتكنولوجيا وتقديم الرؤى المستندة إلى البيانات وتوجيه الموارد إلى قنوات تحقّق أعلى قيمة ممكنة للشركة.

لا بُدّ من مراجعة المعايير المرجعية التقليدية لإدارة الموارد البشرية نظراً لإمكانية الوصول إلى مستويات غير مسبوقة من الأتمتة بمجال إدارة الأفراد في المستقبل؛ فمن غير المنطقي الاعتقاد بأن النسبة الحالية من العاملين في هذا المجال، وتعادل مختصاً واحداً لكل 80 موظفاً، لن تشهد تحسناً ملحوظاً. وفي نهاية المطاف، ستضم وظيفة إدارة الأفراد نسبة أكبر بكثير من أعضاء الفريق التنفيذي ممن يمتلكون قدرات قائمة على الخبرة، ومنها المهارات التكنولوجية.

إتقان التعامل مع التعقيد بفاعلية من خلال التكنولوجيا

تعتمد إمكانات إعادة ابتكار إدارة الأفراد ونموذجها التشغيلي على التقدُّم التكنولوجي في أغلب الأحوال، وأحياناً في الأحوال كلّها. وعلى الرغم من التقدم الملحوظ في الابتكار، مدفوعاً بزيادة تبنّي الابتكارات الحديثة والاستثمار فيها، فلا يزال أمام المؤسسات وأقسامها المرتبطة بإدارة الأفراد طريق طويل؛ إذ يتعيَّن عليها مواصلة تطوير قدراتها لمواكبة التكنولوجيا الحديثة، ومن ثَمَّ يجب أن يتحول الجميع إلى خبراء في التكنولوجيا.

لتلبية احتياجات الأقسام المسؤولة عن إدارة الأفراد في المستقبل، على المؤسسات أن تستثمر في مستودعات مركزية للبيانات تتميز بالتكامل ووحدة المعايير وتضم مجموعة من المعلومات الحيوية المتعلقة بالأفراد وعمليات الشركة، وعليها أيضاً التحول من مزيج غير متكامل من الحلول الجزئية المكلفة إلى بنية تكنولوجية سحابية مدعومة بالذكاء الاصطناعي، مبسطة ومصممة لتناسب الغرض المطلوب (انظر الشكل 2).

يؤدي تبسيط البنية التكنولوجية إلى إلغاء الحاجة إلى العديد من الأنظمة والإجراءات القديمة والمعقدة، مع تمكين الوصول الفوري إلى مؤشرات الموظفين والشؤون التنظيمية (انظر العمود الجانبي "إنشاء مركز موحّد")، كما يوفّر تجربة مستخدم أفضل للموظف من خلال منحه منفذاً فائق التخصيص لمختلف التفاعلات المتعلقة بالعمل، حيث يمكن دمج التطبيقات المرتبطة بإعداد الموظفين الجدد أو التعلم أو الإرشاد بسلاسة ضمن الهيكل الداخلي.

الانتقال إلى العصر الجديد

مثلما أوضحنا سابقاً، ستتميز إدارة الموارد البشرية في المستقبل بالاستراتيجية والتعاون والمرونة والاعتماد على البيانات، وستجمع بين أفضل الإمكانات البشرية والتكنولوجية لضمان تحقيق نتائج إيجابية باستمرار (الشكل 3).

بيد أن أبحاثنا أثبتت أن نسبة قليلة فقط من المؤسسات (نحو 5% من الشركات) تنجح في دمج التكنولوجيات الحديثة بانتظام ضمن مهام إدارة الأفراد. أمّا غالبية المؤسسات فلا تزال في المراحل الأولى، حيث تعمل على تحديد استراتيجياتها ووضع الخطط التوجيهية وتصميم نماذجها، فضلاً عن دراسة المبادئ التوجيهية لاستخدام البيانات والتكنولوجيات على نحو مسؤول وحدود استخدامها. وبناءً على نقطة انطلاق كل مؤسسة، نقترح الخطوات الملموسة التالية (انظر الشكل 4).

  • بالنسبة للمؤسسات الاستراتيجية التي لا تزال في المراحل الأولية، تتمثل الخطوات الأولى في وضع رؤية واضحة وإعداد مبرر استثماري لتعزيز مهمة إدارة الأفراد من خلال الاستثمار في تكنولوجيات حديثة (مثل التحليلات المحوسبة للأفراد) وبناء القدرات؛ إذ تستطيع الشركات تحديد حالات الاستخدام وإطلاق مشاريع تجريبية والاستفادة من البيانات الناتجة عن تلك التجارب لتحديد القدرات المطلوبة.
  • بالنسبة للمؤسسات التوسّعية التي تسعى إلى تحقيق قيمة مضافة من اعتماد التكنولوجيات الحديثة، عليها أن تركّز على التطوير المستمر للقدرات البشرية والتكنولوجية، وهذا يعني ضرورة إجراء الاختبارات والقياسات والاستفادة من الدروس المستخلصة لتوسيع أثر عروضها الرقمية، كما يتعين عليها أيضاً مواصلة تطوير أساليب العمل من خلال مراجعة النموذج التشغيلي لإدارة الأفراد باستمرار وتعزيز التعاون الاستراتيجي مع قطاع الأعمال وتعزيز البنية التحتية للتكنولوجيا والبيانات.
  • بالنسبة للمؤسسات ذات الرؤى المستقبلية التي قطعت شوطاً طويلاً في رحلتها وبلغت مرحلة النضج في استخدام التكنولوجيا والبيانات، فقد حان الوقت للانتقال إلى نموذج تشغيلي لإدارة الأفراد يعتمد بالكامل على الذكاء الاصطناعي وتطوير ممارسات إدارة الأفراد على مستوى المؤسسة. وسيصبح "نظام معلومات الأفراد" لديها أداة أساسية لمساعدة القيادة العليا في صناعة القرارات المتعلقة بالأفراد والمؤسسة وتحديد أفضل الطرق لتوجيه القدرات نحو تحقيق أعلى قيمة للأعمال.

بغض النظر عن هذه الأنماط المختلفة، على المؤسسات والقادة مراعاة المبادئ التالية خلال رحلة التطوير:

  • وضع رؤية واضحة. على المؤسسات استيعاب القيمة التجارية الفريدة لفلسفة إدارة الأفراد المستقبلية وما يترتب عليها من ممارسات ونظام تشغيلي جديد. عليها أيضاً تحديد تطلعاتها على المدى البعيد والمتوسط والمنظور، مع التركيز المستمر على تحقيق القيمة.
  • إنشاء فريق مسؤول عن قيادة التغيير في كيفية إدارة الأفراد. على المؤسسات إنشاء فريق مركزي يضم كبار قادة الأعمال والموارد البشرية والمالية وتكنولوجيا المعلومات. يضمن هذا الفريق مواءمة استراتيجية الأفراد مع استراتيجية الأعمال وتعزيز التعاون بين مختلف التخصصات.
  • إعادة النظر في الحدود، ومنها الحدود الفاصلة بين الأعمال والموظفين. على المؤسسات أن تسعى إلى إعادة تحديد مسؤوليات قادة الأعمال وإدارة الأفراد لتحقيق توازن أفضل. يجب ألّا يقتصر الأمر على رقمنة العمليات الحالية، بل ينبغي إعادة تصميمها للحد من التعقيد المؤسسي والعزلة بين الأقسام والتحديات التشغيلية. عليها أيضاً الاستفادة من المنظومات الخارجية أو تطويرها.
  • إجراء التجارب والتحسين المستمر وتعميم الممارسات التي تثبت نجاحها. على المؤسسات تحديد أولوياتها بدقة عند اختبار الأفكار التي تعود بالفائدة على الموظفين والمدراء والأعمال. يجب أن تبدأ بمبادرات محدودة ثم تتوسّع سريعاً، مع التركيز على التعلم المستمر والتكيف مع المستجدات.
  • الاستثمار في التكنولوجيا والتغيير. في ظل اعتماد الشركات على التكنولوجيا، يجب ألّا تستهين بأهمية الإدارة الفعالة لعملية التبني والتغيير منذ اليوم الأول. سيتطلب ذلك الاستثمار في قدرات قادة الأعمال والمدراء وإدارة الأفراد نفسها، إلى جانب تطوير أساليب تفكيرهم.
  • الحفاظ على الزخم. تشكّل المثابرة عنصراً أساسياً للشركات خلال قياس النتائج والاحتفاء بها والتركيز على تطوير قدرات جديدة.

لا تزال المؤسسات في بداية تحول جذري في إدارة الأفراد، لكن الوقت قد حان لاتخاذ إجراءات ملموسة، حيث ستؤدي إدارة الأفراد دوراً محورياً في مساعدة المؤسسات على التكيف مع مستقبل أكثر تعقيداً وغموضاً. عليها أن تحرز تقدماً ملموساً خلال العقد المقبل نحو نهج قائم على القيمة ويتمحور حول الإنسان ومدعوم بالتكنولوجيا في إدارة الأفراد، ما يعني إعادة هيكلة نظام إدارة الأفراد ليصبح أكثر بساطة واستراتيجية وسلاسة مقارنة بالوضع الراهن. سيؤدي هذا التحول إلى تعزيز الفاعلية التنظيمية، إضافة إلى زيادة تفاعل الموظفين وإنتاجيتهم. مهما كانت نقطة انطلاق المؤسسة، فعليها اغتنام الفرص التي يوفّرها هذا النموذج الفعّال الجديد في إدارة الأفراد وتسخيره لخلق قيمة مضافة للأعمال.

المحتوى محمي