تخيل عالماً يمكن فيه تحويل الأفكار إلى كلمات دون الحاجة إلى التحدث أو الكتابة. يبدو أن العلماء يقتربون أكثر فأكثر من تحقيق هذا الإنجاز الرائع. فوفقاً لدراسة حديثة نُشِرت في مجلة نيتشر كوميونيكيشن بيولوجي (Nature Communications Biology)، نجح باحثون في تطوير نموذج ذكاء اصطناعي قادر على تسجيل إشارات الدماغ وتحليلها وفهمها وتوليد اللغة منها. هذا النموذج لا يسهم في تعزيز فهمنا طريقة معالجة الدماغ للغة فحسب، بل يفتح الباب واسعاً أمام تطبيقات ثورية؛ مثل تطوير نماذج ذكاء اصطناعي ذات قدرات متقدمة في فهم اللغة، وتحسين قدرة الأشخاص الذين يعانون صعوبات في النطق على التواصل مع من حولهم، وحتى الإسهام في علاج اضطرابات الكلام.
اقرأ أيضاً: الذكاء الاصطناعي يطور عدة طرق لفهم لغة الحيوانات وكيفية تواصلها
كيف طُوِّر النموذج؟
طوّر العلماء زيي يي ويي تشون وتشينغياو اي من جامعة تسينغ هوا الصينية ومارتن دي من جامعة أمستردام الهولندية وكريستينا ويلا من جامعة كوبنهاغن الدنماركية، نموذج ذكاء اصطناعي يُعرف باسم برين إل إل إم (BrainLLM)، يحلل النموذج تسجيلات نشاط الدماغ ثم يولّد نصوصاً طبيعية تتوافق مع تلك التسجيلات.
طُوِّر النموذج على النحو التالي:
تسجيل نشاط أدمغة المشاركين
استخدم العلماء تقنية تصوير غير جراحية تُسمّى التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI). تسجل هذه التقنية نشاط الدماغ من خلال تتبع تغيرات تدفق الدم في أجزاء مختلفة من الدماغ في أثناء أداء المشاركين مهامَّ فكرية مثل الاستماع أو القراءة.
تدريب النموذج
دُرِّب النموذج باستخدام مجموعة ضخمة من البيانات، تتكون هذه البيانات من آلاف تسجيلات نشاط الدماغ والكلمات المرتبطة به. الهدف هو مساعدته على ربط كل إشارة دماغية مع الكلمات الخاصة بها.
اقرأ أيضاً: 11 من أفضل أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي باللغة العربية
ما مدى دقة برين إل إل إم؟
بعد الانتهاء من تطوير النموذج، اختبره العلماء في ثلاث مهام مختلفة هي:
- إنشاء النصوص: توليد نصوص كاملة بالاعتماد على إشارات الدماغ فقط.
- التنبؤ بالكلمة التالية: قياس دقة النموذج في اقتراح الكلمات التي قد تأتي بعد كلمة معينة بناءً على سياق النص.
- مقارنة نصوص النموذج بنصوص الإنسان: مقارنة النصوص التي ولّدها النموذج مع النصوص التي يولّدها البشر لمعرفة ما إذا كانت دقيقة ومفهومة.
بناءً على هذه الاختبارات، تبين للعلماء أن برين إل إل إم أظهر قدرة جيدة على توليد نصوص مترابطة ومنطقية تتوافق بدقة مع تسجيلات نشاط الدماغ، وكانت الدقة تتحسن بشكلٍ ملحوظ مع توفر تسجيلات دماغية أكثر، يشير ذلك إلى أن زيادة كمية البيانات تساعد النموذج على فهم الأنماط بشكلٍ أفضل وتوليد نصوص أكثر دقة.
أثبتت الدراسة أيضاً أن أفضل أداء تحقق عندما اعتمد برين إل إل إم على بيانات من مناطق رئيسية في الدماغ تلعب دوراً فعّالاً في معالجة اللغة، مثل:
- منطقة بروكا: منطقة تقع بالفص الأمامي في أحد جانبي المخ وغالباً ما تكون في الجانب الأيسر، تلعب دوراً رئيسياً في الكلام.
- القشرة السمعية: جزء من الفص الصدغي، مسؤولة عن معالجة الإشارات السمعية وتفسيرها.
لاحظ الباحثون أن استخدام إشارات من منطقة بروكا فقط أدّى إلى أعلى مستويات الدقة، وهو ما يؤكد دورها المركزي في توليد اللغة.
على الرغم من الدقة الكبيرة التي حققها نموذج برين إل إل إم، فإنه يواجه عدداً من التحديات التي تعوق انتشاره واستخدامه على نطاقٍ واسع. أبرزها التفاوت في الدقة بين الأفراد، حيث تتغير نتائج النموذج بناءً على إشارات الدماغ الفريدة لكل شخص. إضافة إلى ذلك، فإن استخدام تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) ينطوي على تكلفة عالية وتجهيزات معقدة، ما يجعل النموذج حالياً غير مناسب للنشر والاستخدام على نطاق واسع.
اقرأ أيضاً: هل الذكاء الاصطناعي سيجعل تعلُّم اللغات عديم الفائدة؟
يشكّل نموذج برين إل إل إم خطوة مهمة نحو فهم العلاقة بين نشاط الدماغ واللغة، ويبرز الإمكانات الثورية لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في هذا المجال. بفضل قدرته على توليد نصوص متوافقة مع إشارات الدماغ، يُتيح النموذج فرصة غير مسبوقة لتحسين القدرة على التواصل، خاصةً للأشخاص الذين يعانون مشكلات في النطق. لكنه لا يزال غير جاهز للاستخدام العملي على نطاقٍ واسع، حيث يتطلب تحسينات للتغلب على القيود الحالية مثل التكلفة العالية لتقنية التصوير والدقة المتفاوتة بين الأفراد.