وصلت موسيقى الذكاء الاصطناعي فجأة إلى لحظة مفصلية. ففي 24 يونيو/حزيران، دخلت شركتا سونو (Suno) وأوديو (Udio) الناشئتان، وهما شركتان رائدتان في مجال موسيقى الذكاء الاصطناعي وتصنعان أدوات لتوليد أغانٍ كاملة خلال ثوانٍ معدودة بالاعتماد على أمر نصي وحسب، معركة قضائية بعد أن رفعت عدة علامات تجارية كبرى متخصصة في صناعة الموسيقى دعوى قضائية ضدهما بتهمة الانتهاك الواسع النطاق لحقوق التأليف والنشر. تزعم شركات سوني ميوزيك (Sony Music) ووارنر ميوزيك غروب (Warner Music Group) ويونيفيرسال ميوزيك غروب (Universal Music Group) أن هذه الشركات استفادت من المحتوى الموسيقي المحمي بموجب حقوق التأليف والنشر في بياناتها التدريبية "على نطاق يصعب تصوره تقريباً"، ما سمح لنماذج الذكاء الاصطناعي بتوليد أغانٍ "تحاكي جودة التسجيلات الصوتية البشرية الأصلية".
اقرأ أيضاً: دليلك لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي دون انتهاك حقوق الملكية الفكرية والنشر
بعد يومين، أفادت صحيفة فايننشال تايمز (Financial Times) بأن منصة يوتيوب تتبع نهجاً نزيهاً نسبياً. فبدلاً من تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي الموسيقية على مجموعات بيانات سرية، تشير التقارير إلى أن الشركة تعرض على كبرى العلامات التجارية الموسيقية مبالغ مالية غير محددة تُدفع مرة واحدة لقاء تراخيص لاستخدام مجموعاتها الموسيقية في التدريب.
رداً على الدعاوى القضائية، أصدرت كلتا الشركتين، سونو وأوديو، بيانات ذكرت فيها أنها بذلت جهوداً كبيرة لضمان عدم تقليد نماذجها للأعمال المحمية بموجب حقوق التأليف والنشر، لكن لم تحدد أي من الشركتين إن كانت مجموعات التدريب تحتوي على هذه الأعمال. وقالت أوديو إن نموذجها "’استمع‘ إلى مجموعة كبيرة من التسجيلات الموسيقية وتعلم منها"، وقبل أسبوعين من رفع هذه الدعاوى، أخبرني الرئيس التنفيذي لسونو، مايكي شولمان، أن مجموعة التدريب التي تعتمد عليها الشركة "متوافقة مع معايير الصناعة وقانونية"، غير أن تفاصيل مكوناتها بحد ذاتها تعد ملكية للشركة.
وعلى حين أن الأحداث تتوالى بسرعة، لا يمثّل أي إجراء من هذه الإجراءات مفاجأة فعلية، فقد أصبحت المعارك القضائية التي تدور حول بيانات التدريب أشبه بطقس تقليدي تمر به شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي. وقد دفع هذا التوجه بالكثير من هذه الشركات، بما فيها أوبن أيه آي (OpenAI)، إلى دفع تكاليف صفقات الترخيص مع تطور حيثيات هذه القضايا.
بماذا يختلف تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي الموسيقية عن حالة نماذج توليد الصور؟
ومع ذلك، فإن مخاطر النزاع على بيانات التدريب في موسيقى الذكاء الاصطناعي تختلف عن حالة نماذج توليد الصور أو بوتات الدردشة. فشركات الذكاء الاصطناعي التوليدي التي تعمل في مجال النصوص أو الصور تمتلك خيارات تُتيح الالتفاف حول الدعاوى القضائية، بما في ذلك تجميع مجموعات بيانات مفتوحة المصدر لتدريب نماذجها. من ناحية أخرى، فإن الموسيقى الخاضعة للملكية العامة محدودة للغاية مقارنة بالنصوص والصور، كما أنها ليست من الأنواع التي يرغب معظم الناس في الاستماع إليها.
ويمكن لشركات الذكاء الاصطناعي الأخرى أيضاً أن تعقد صفقات ترخيص بسهولة أكبر مع الناشرين والمنتجين المهتمين، وهم كثر، لكن الحقوق في مجال الموسيقى أكثر تركيزاً بكثير من الحقوق في مجالات الأفلام أو الصور أو النصوص، كما يقول الخبراء في هذه الصناعة. وتخضع إدارة هذه الحقوق إلى حد كبير إلى أكبر ثلاث علامات تجارية موسيقية -الجهات الجديدة المدعية- التي تمتلك فروعها المختصة بالنشر مجتمعة أكثر من 10 ملايين أغنية، وأغلب الأعمال الموسيقية التي تمثّل علامة فارقة في القرن الماضي. (تشير ملفات الدعاوى إلى قائمة طويلة من الفنانين الذين تزعم العلامات التجارية أن أعمالهم مضمّنة على نحو مخالف للقانون في البيانات التدريبية، بدءاً من فرقة آبا (ABBA) وصولاً إلى الفنانين في الموسيقى التصويرية للعرض الموسيقي هاملتون [Hamilton]).
إضافة إلى ما سبق كلّه، من الصعب إنتاج موسيقى تستحق الاستماع إليها أيضاً، فتوليد قصيدة صالحة للقراءة أو رسم توضيحي قابل للتصديق باستخدام الذكاء الاصطناعي يمثّل تحدياً تقنياً، غير أن تزويد النموذج بالذوق المطلوب لإنتاج موسيقى يمكن أن نحبها يمثّل تحدياً تقنياً مختلفاً تماماً.
من الممكن بالطبع أن تفوز شركات الذكاء الاصطناعي بهذه المعركة القضائية، وعندها ستكون هذه العوامل كلّها غير مؤثرة، وسيصبح المجال مفتوحاً أمام هذه الشركات لتدريب نماذجها على محتوى قرن كامل من الموسيقى المحمية بموجب حقوق التأليف والنشر دون أي عوائق. لكن الخبراء يقولون إن الحجج التي تقدمها العلامات التجارية الموسيقية قوية ومؤثرة، وإن الاحتمال الأقرب هو أن شركات الذكاء الاصطناعي ستضطر قريباً إلى دفع الأموال -وستكون طائلة في الواقع- إذا أرادت أن تواصل عملها. إذا قضت محكمة ما بمنع شركات التوليد الموسيقي بالذكاء الاصطناعي من تدريب نماذجها باستخدام المجموعات الموسيقية لدى هذه العلامات التجارية الموسيقية مجاناً، فإن صفقات الترخيص الباهظة الثمن، على غرار الصفقات التي تقول التقارير إن منصة يوتيوب تسعى إلى إبرامها، تبدو السبيل الوحيد للمضي قدماً. من شأن هذا أن يضمن بصورة فعّالة للشركات القادرة على دفع أكبر قدر من الأموال أن تحقق الريادة في هذا المجال.
ستؤدي نتيجة هذه الدعوى القضائية المتعلقة ببيانات التدريب، بصورة تفوق أي دعوى مماثلة سابقة، إلى تحديد معالم قطاع واسع من الذكاء الاصطناعي، وإن كان ثمة من مستقبل لهذا القطاع في يوم من الأيام.
إيجابيات القضية
أعلنت سونو منذ أقل من عام أنها طرحت مولّدها الموسيقي للعموم، لكنها استقطبت 12 مليون مستخدم، وأنجزت مؤخراً جولة تمويل جمعت خلالها 125 مليون دولار، وأبرمت عقد شراكة مع مايكروسوفت كوبايلوت (Microsoft Copilot). أمّا أوديو فقد دخلت المشهد حتى بعد سونو، حيث باشرت العمل في أبريل/نيسان بتمويل أولي بلغ 10 ملايين دولار من مستثمرين موسيقيين من أمثال ويليام (will.i.am) وكومون (Common).
تزعم العلامات التجارية الموسيقية أن كلتا الشركتين الناشئتين منخرطتان في انتهاكات حقوق التأليف والنشر من حيث تدريب النماذج والجوانب المتعلقة بمُخرجاتها.
يقول أستاذ قانون المواد الرقمية والمعلومات في كلية الحقوق في جامعة كورنيل، جيمس جريملمان: "تتمتع الجهات المدعية في هذه القضية بما يمكن تشبيهه بأفضل فرصة للفوز يمكن أن تحظى بها جهة تقاضي شركة للذكاء الاصطناعي". ويقارن بين هذه المعركة القضائية والدعوى الجارية التي رفعتها صحيفة نيويورك تايمز (New York Times) ضد شركة أوبن أيه آي (OpenAI)، التي يقول إنها كانت تُعَد، حتى الآن، أفضل مثالٍ عن جهة مالكة للحقوق لديها حجة قوية وحيثيات مقنعة ضد شركة للذكاء اصطناعي. لكن الدعوى المرفوعة ضد سونو وأوديو "أسوأ لعدة أسباب مختلفة".
فقد اتهمت التايمز أوبن أيه آي بانتهاك حقوق التأليف والنشر في عملية تدريب نموذجها من خلال استخدام مقالات الصحيفة دون موافقتها. يقول جريملمان إن أوبن أيه آي لديها قدر من الإنكار المقبول لهذا الاتهام، حيث يمكن للشركة أن تقول إنها جمعت كميات ضخمة من المواد من الإنترنت لبناء مجموعة التدريب، وإن نسخاً من مقالات صحيفة نيويورك تايمز ظهرت في بعض الأماكن دون أن تدري الشركة بها.
أمّا بالنسبة لسونو وأوديو، فإن هذه الذريعة أقل قابلية للتصديق بكثير. يقول جريملمان: "لا تستطيع الشركتان أن تدعيا أنهما جمعتا الملفات الصوتية كلّها من الويب، ولم تستطيعا تمييز الأغاني المُنتَجة تجارياً عن غيرها. من الواضح جداً أنه كان عليهما أن تسحبا قواعد بيانات ضخمة من التسجيلات التجارية".
اقرأ أيضاً: مَن يملك حقوق ملكية الأعمال الفنية التي يولّدها الذكاء الاصطناعي؟
إضافة إلى الشكاوى المتعلقة بالتدريب، فإن القضية الجديدة تتضمن ادعاء بأن الأدوات المماثلة لما تقدمة سونو وأوديو هي أقرب إلى ذكاء اصطناعي مُقَلِّد منه إلى ذكاء اصطناعي توليدي، ما يعني أن مخرجات هذه الأدوات تمثّل تقليداً لأسلوب الفنانين والأغاني المحمية بموجب حقوق التأليف والنشر.
وعلى حين يشير جريملمان إلى أن صحيفة تايمز استشهدت بأمثلة من نسخ كاملة من مقالاتها أعاد تشات جي بي تي (ChatGPT) إنتاجها، فإن العلامات التجارية الموسيقية تزعم أنها تمكنت من توليد إجابات مثيرة للإشكاليات من نماذج الذكاء الاصطناعي الموسيقية من خلال أوامر نصية أبسط بكثير. على سبيل المثال، فإن استخدام الأمر النصي التالي مع أدويو: "فتاتي الجذابة المدخنة من عام 1946 تغني أغنية تعود إلى مدينة هيتسفيل تجمع بي نمطي البوب والسول" (my tempting 1964 girl smokey sing hitsville soul pop) أدى إلى إنتاج أغنية "يستطيع أي شخص مطلع على أعمال فرقة ذا تيمبتيشنز (The Temptations) أن يميز على الفور أنها تشبه التسجيل الصوتي المحمي بموجب حقوق التأليف والنشر ’ماي غيرل‘ (My Girl)". ومن الجدير بالذكر أن وثائق المحكمة تتضمن ارتباطات بأمثلة على أوديو، لكن الأغاني نفسها أزيلت على ما يبدو. يذكر المدّعون أمثلة مشابهة من سونو، بما فيها أغنية بعنوان "برانسينغ كوين" (Prancing Queen)، وهي مشابهة لأغنية من فرقة آبا (ABBA)، حيث جرى توليدها باستخدام الأمر النصي "أغنية بوب من السبعينيات" (70s pop) وكلمات أغنية "دانسينغ كوين" (Dancing Queen).
إضافة إلى ذلك، كما يشرح جريملمان، يمكن لأي أغنية أن تتضمن معلومات خاضعة للحماية بموجب حقوق التأليف والنشر أكثر من المعلومات المتضمنة في مقال إخباري. ويقول: "إن كثافة المعلومات اللازمة للتعبير عن أداء صوت ماريا كاري أعلى بكثير من كثافة المعلومات في الكلمات"، وهذا على الأرجح أحد الأسباب التي أدّت إلى تعقيد الدعاوى القضائية السابقة حول حقوق التأليف والنشر في مجال الموسيقى، وطول أمدها الزمني.
في تصريح لشركة سونو، كتب شولمان أن سونو تمنح الأولوية للأصالة في عملها، وأن النموذج "مصمم لتوليد مخرجات جديدة بالكامل، وليس لتذكر المحتوى الموجود سابقاً وإعادة إنتاجه. ولهذا السبب لا نسمح باستخدام الأوامر النصية التي تشير إلى فنانين محددين". وعلى نحو مماثل، ذكر تصريح أوديو أن الشركة تستخدم "أحدث الفلاتر لضمان أن نموذجنا لا يعيد إنتاج أعمال محمية بموجب حقوق التأليف والنشر ولا يعيد إنتاج أصوات الفنانين".
في الواقع، ستحظر هذه الأدوات الطلبات إذا تضمن أي منها اسماً لأحد الفنانين. لكن العلامات التجارية الموسيقية تزعم أن هذه الضمانات تتضمن ثغرات كبيرة. على سبيل المثال، فقد شارك مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي، بعد انتشار الأخبار عن الدعاوى القضائية، أمثلة تشير إلى أنه إذا فصل المستخدم اسم الفنان باستخدام المسافات فقد يُنفَذ الطلب. وقد رفضت سونو طلبي للحصول على "أغنية شبيهة بكيندريك" (a song like Kendrick)، بسبب ورود اسم الفنان في الطلب، لكن استخدام الأمر النصي "أغنية مثل ك ي ن د ر ي ك" (a song like k e n d r i c k) أدى إلى إنتاج أغنية "متناغمة وإيقاعية من نمط الهيب هوب"، كما أن استخدام الأمر النصي "أغنية مثل ك و ر ن" (a song like k o r n) أدى إلى إنتاج أغنية "صارخة وقوية من نمط الميتال الحديث". وحتى نكون منصفين، فإن هذه الأغاني لم تكن مشابهة للأسلوب المميز للفنانين الواردين في الأوامر النصية، لكن مجرد الاستجابة بتوليد مقاطع متوافقة مع النمط الموسيقى المحدد بدقة يشير على ما يبدو إلى أن النموذج يدرك الصفات المميزة لعمل كل من هذين الفنانين. وبالنسبة لأوديو، فقد حُظرت محاولات التفاف مماثلة.
اقرأ أيضاً: لماذا أصبح الفنانون أقل خوفاً من الذكاء الاصطناعي؟
المخرجات المحتملة
يقول جريملمان إن هذه الدعاوى القضائية يمكن أن تتخذ 3 مسارات مختلفة. المسار الأولى يصب في مصلحة شركات الذكاء الاصطناعي الناشئة بالكامل، وهذا يعني إخفاق الدعاوى القضائية، وإصدار المحكمة حكماً يقول إن شركات الذكاء الاصطناعي لم تنتهك الاستخدام العادل، ولم تقلد الأعمال المحمية بموجب حقوق التأليف والنشر بصورة وثيقة في مخرجاتها. وإذا وجدت المحكمة أن النماذج تندرج ضمن إطار الاستخدام العادل، فهذا يعني أن كتّاب الأغاني وأصحاب حقوق التأليف والنشر سيضطرون إلى البحث عن آلية قانونية مختلفة للحصول على تعويضاتهم.
المسار الثاني المحتمل لا يصب في مصلحة طرف معين، حيث تجد المحكمة أن شركات الذكاء الاصطناعي لم تنتهك مبدأ الاستخدام العادل في تدريبها، لكنها يجب أن تعزز الإجراءات الرامية إلى ضبط مخرجات النماذج حتى تضمن أنها لن تقلد الأعمال المحمية بموجب حقوق التأليف والنشر بأسلوب مرفوض. يقول جريملمان إن هذا مشابه لما حدث في إحدى الأحكام الأولى التي أصدرتها المحاكم ضد شركة نابستر (Napster)، حيث أُرغِمت الشركة على حظر البحث عن الأعمال المحمية بموجب حقوق التأليف والنشر في مكتباتها (على الرغم من أن المستخدمين سرعان ما تمكنوا من الالتفاف على هذا الحظر).
أمّا المسار المحتمل الثالث، الذي يمثّل عملياً خيار الدمار الشامل بالنسبة إلى شركات الذكاء الاصطناعي، فهو أن تقضي المحكمة بوجود مخالفة قانونية في كلتا الناحيتين المتعلقتين بنماذج الذكاء الاصطناعي، أي التدريب والمخرجات. هذا يعني أن شركات الذكاء الاصطناعي لن تتمكن من استخدام الأعمال المحمية بموجب حقوق التأليف والنشر في التدريب دون تراخيص، وأنها لن تسمح بإنتاج أي أعمال مشابهة بصورة وثيقة للأعمال المحمية بموجب حقوق التأليف والنشر. كما يُمكن أن يُطلب من الشركات دفع تعويضات عن الأضرار الناجمة عن انتهاك حقوق التأليف والنشر، ما يعني خسائر قد تصل إلى مئات الملايين من الدولارات لكل شركة. وإذا لم يؤدِّ هذا الحكم إلى إفلاس شركات الذكاء الاصطناعي، فسوف يرغمها على إعادة هيكلة عمليات تدريبها بالكامل، وذلك من خلال صفقات الترخيص التي قد تكون باهظة التكلفة.
مصدر المقطع الصوتي: تقدمة من سونو. أيه آي
ترخيص أو لا ترخيص
على الرغم من أن الأهداف المباشرة لجهات الادعاء تتلخص بدفع شركات الذكاء الاصطناعي إلى التوقف عن التدريب ودفع تعويضات عن الأضرار، فإن رئيس مجلس إدارة رابطة صناعة التسجيلات الأميركية (Recording Industry Association of America)، ميتش غلازيير، يتطلع منذ الآن إلى مستقبل الترخيص. وقد كتب مؤخراً في مقال رأي في المجلة الأميركية المتخصصة في مجال صناعة الموسيقى بيلبورد (Billboard) يقول: "كما حدث في الماضي، سيعمل مؤلفو الموسيقى على فرض حقوقهم لحماية المحرك الإبداعي للفنون البشرية، وتمكين تطوير سوق مرخصة سليمة ومستدامة تعترف بقيمة الإبداع والتكنولوجيا في الوقت نفسه".
يمكن لمثل هذه السوق للتراخيص أن تعكس ما حدث بالفعل بالنسبة إلى أنظمة توليد النصوص. أبرمت أوبن أيه آي صفقات ترخيص مع عددٍ من مؤسسات متخصصة في نشر الأخبار، بما في ذلك صحيفة بوليتيكو (Politico) ومجلة ذي أتلانتيك (The Atlantic) وصحيفة وول ستريت جورنال (The Wall Street Journal). وتَعد هذه الصفقات بأن يكون المحتوى الذي تنشره مؤسسات النشر هذه قابلاً للبحث عنه في منتجات أوبن أيه آي، على الرغم من أن قدرة النماذج على الاستشهاد بشفافية بالمصادر التي حصلت منها على المعلومات ما زالت محدودة في أحسن الأحوال.
إذا اتبعت شركات توليد الموسيقى بالذكاء الاصطناعي هذا النمط، فقد تصبح الإمكانات المالية لهذه الشركات العامل الحاسم في تحديد قدرتها على بناء نماذج موسيقية قوية. قد يكون هذا ما تفكر فيه يوتيوب بالضبط. لم ترد الشركة على الفور على الأسئلة التي وجّهتها لها مجلة إم آي تي تكنولوجي ريفيو حول تفاصيل مفاوضاتها، لكن نظراً للمقدار الهائل من البيانات المطلوبة لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي، وتمركز النسبة المرتفعة لأصحاب حقوق التأليف والنشر في مجال الموسيقى، يمكن أن نفترض أن تكاليف الصفقات التي ستُبرَم مع العلامات التجارية الموسيقية ستكون مرتفعة إلى درجة مذهلة.
تجاوز عملية الترخيص بالكامل
نظرياً، يمكن لشركة الذكاء الاصطناعي أن تتجاوز عملية الترخيص بالكامل من خلال بناء نموذجها حصرياً باستخدام الموسيقى الخاضعة للملكية العامة، لكنها ستكون مهمة صعبة للغاية. لقد بُذلت جهود مماثلة في مجال مولدات النصوص والصور، بما في ذلك الجهود التي بذَلتها شركة للاستشارات القانونية في شيكاغو، حيث صممت نموذجاً مدرباً على وثائق مكثّفة تتعلق بالقوانين الناظمة، وهناك نموذج من شركة هاغينغ فيس (Hugging Face) دربته الشركة على صور تعود للعشرينيات من القرن الماضي لشخصية ميكي ماوس. لكن هذه النماذج صغيرة وغير ملحوظة. إذا أُرغِمَت أي من سونو أو أوديو على تدريب نماذجها باستخدام المواد الخاضعة للملكية العامة وحسب -مثل موسيقى العروض العسكرية أو الأغاني غير الخاضعة لحقوق الملكية الموجودة في مقاطع الفيديو الخاصة بالشركات (لكن الحصول عليها ليس مجانياً بالضرورة [royalty-free])- فإن النموذج الناتج سيكون بعيداً للغاية عما هو موجود حالياً.
أمّا إذا قررت شركات الذكاء الاصطناعي أن تمضي قدماً في إبرام اتفاقيات ترخيص، فقد تكون المفاوضات معقدة وشائكة، على حد قول جريملمان. تتسم عملية ترخيص الموسيقى بالتعقيد بسبب وجود اثنين من حقوق التأليف والنشر، حيث يتعلق الأول بالأغنية، الذي يشمل عموماً تأليف الأغنية، مثل اللحن والكلمات، على حين يتعلق الآخر بالتسجيل الأصلي، أي أنه يشمل التسجيل الصوتي الذي تسمعه عند البث الرقمي للأغنية.
تمكن بعض الفنانين، مثل تايلور سويفت وفرانك أوشن، من الحصول على ملكية التسجيلات الأصلية لمجموعاتهم الموسيقية بعد معارك قانونية طويلة، وهذا ما سيمكّنهم من الإمساك بزمام الأمور عند طرح أي صفقات ترخيص محتملة. ومع ذلك، يحتفظ الكثير من الفنانين الآخرين بحق تأليف الأغاني ونشرها فقط، على حين تحتفظ العلامات التجارية الموسيقية بحقوق تأليف ونشر التسجيل الأصلي. في هذه الحالات، قد تكون العلامات التجارية الموسيقية قادرة نظرياً على منح شركات الذكاء الاصطناعي رخصة لاستخدام الموسيقى دون إذن الفنان، لكن هذا الإجراء قد يؤدي إلى نتائج سلبية تتمثل بإفساد العلاقات مع الفنانين، وإشعال المزيد من المعارك القانونية.
أدّت مسألة ترخيص الفنانين أعمالهم الموسيقية لمثل هذه الشركات إلى إحداث انقسامات بين مجموعات الفنانين. ففي قواعد العقود التي تبنتها نقابة ممثلي الشاشة -الاتحاد الأميركي لفناني الراديو والتلفزيون، أو اختصاراً ساغ-أفترا (SAG-AFTRA)، التي تمثّل فناني التسجيلات الموسيقية إضافة إلى الممثلين، يُسمح باستخدام الذكاء الاصطناعي في إنتاج نسخ عن أصوات أعضاء النقابة، على الرغم من وجود حد أدنى للتعويضات المطلوبة لقاء هذا الامتياز. في ديسمبر/كانون الأول المنصرم، عبّرت مجموعة تحمل تجمّع الموسيقيين المستقلين عن خيبة أملها نتيجة تقصير أهم اتحاد للعازفين، وهو الاتحاد الأميركي للموسيقيين (AFM) الذي يضم 70,000 عضو، في حماية أعضائه من شركات الذكاء الاصطناعي في العقود. وقد قال التجمع إنه سيصّوت ضد أي اتفاقية "ترغم أعضاء الاتحاد الأميركي للموسيقيين على تدمير أنفسهم بأنفسهم من خلال المشاركة في تدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي التي ستصبح بديلة دائمة لنا، دون أي حق يشترط موافقتنا أو الحصول على تعويضات أو الاعتراف بالمساهمة".
اقرأ أيضاً: تعرّف إلى ميوزك إل إم (MusicLM): أداة جوجل لتوليد الموسيقى من النصوص
غير أن الاتحاد الأميركي للموسيقيين لا يبدو أنه متحمس في هذه المرحلة لتسهيل أي صفقات. سألت أمين الخزينة الدولي في الاتحاد الأميركي للموسيقيين، كينيث شيرك، إن كان يعتقد أن الموسيقيين يجب أن يتعاملوا مع شركات الذكاء الاصطناعي ويسعوا إلى الحصول على تعويض عادل، مهما كان المعنى الدقيق لهذا التعويض، أو يجب أن يقاوموا صفقات الترخيص بالكامل.
وقد قال لي: "عندما أفكر في هذه الأسئلة، أجد أن المسارين الممكنين أحلاهما مُر، وكأنني يجب أن أختار بين أن يزحف على جسمك سرب من النمل الفتاك، أو التقلب على سرير من الزجاج المكسور. نحن نريد أن يحصل الموسيقيون على المال، لكننا نريد أيضاً أن نضمن أن الذين سيأتون من بعدنا سيتمكنون من العثور على حياة مهنية في مجال الموسيقى".