لقد غّير فيروس كورونا المستجد الطريقة التي يعمل بها العالم، ومن المرجح أن نلحظ تداعياته على الكيفية التي تعمل بها الحكومات والمؤسسات بعد فترة طويلة من انتهاء الأزمة. وقد أصبح العمل عن بُعد وفي بيئة افتراضية قاعدة مقبولة بالنسبة للمؤسسات العاملة في القطاعين العام والخاص، كما باتت الأحداث الرياضية تُنظم في ملاعب خالية من الجماهير، وتقدم المدارس والكليات فصولاً دراسية عبر الإنترنت، ويحضر الناس حفلات الزفاف إلكترونياً.
كذلك أصبحت الخدمات والأدوات والمنصات الرقمية والمحتوى الرقمي المتاح عبر الإنترنت بمنزلة قواسم مشتركة، واضطلعت بدور فعال في استمرار دوران عجلة الحياة خلال هذه الفترة. كما أن عمليات الإغلاق التي تم فرضها في مختلف أنحاء العالم قد سلطت الضوءَ على أهمية التكنولوجيا الرقمية في الحفاظ على تواصل الأشخاص وعمل المؤسسات، ومن ثم استمرار الموظفين في وظائفهم. وعلى الرغم من أن العديد من الأمور قد تعود إلى طبيعتها خلال الأيام والأشهر القادمة، إلا أن الطلب على الخدمات الرقمية وتقبلها سيزداد بشكل أكبر.
وقضت الجائحة كذلك على فكرة أن الحكومات لا تستطيع اتخاذ قرارات سريعة؛ فالقادة الرقميون الحاليون أصبحوا على دراية جيدة بطرق العمل المرنة، الأمر الذي يسمح لهم باتخاذ الإجراءات خلال أيام وليس شهور. على سبيل المثال، تمكّن القطاع العام في فنلندا من الانتقال إلى نموذج العمل عن بُعد بين عشية وضحاها، في الوقت الذي تمكنت فيه الحكومة من رفع قدراتها في مجال تكنولوجيا المعلومات في غضون أيام دون تعطيل الخدمات. وعلى نحو مماثل، أطلقت البحرين 41 خدمة رقمية متكاملة -منها إصدار شهادات الميلاد وغيرها من الخدمات- خلال الأسبوع الأول من ظهور الجائحة في البلاد.
ومع ذلك، فقد تسبب الانتقال المتعجل إلى التكنولوجيا الرقمية في جميع أنحاء العالم في ظهور تحديات وتعقيدات جديدة خاصة به. لذا، دعونا نلقي نظرة على بعض هذه التحديات، وكيف يمكن للحكومات تحويلها إلى فرص لتحسين تجارب المواطنين وعدم الاكتفاء بمعالجتها فحسب.
فجوة رقمية
لم يكن لدى حوالي 3.6 مليار شخص -أي ما يقرب من نصف سكان العالم- إمكانية الوصول إلى شبكة الإنترنت عندما أصابتنا الجائحة، وذلك على الرغم من أن 93% من سكان العالم يعيشون ضمن المدى الذي تصل إليه خدمات النطاق العريض للهواتف المحمولة أو خدمات الإنترنت. وتهدد عوامل مثل عدم المساواة في الوصول إلى الإنترنت ونقص المعرفة الرقمية، بتفاقم التفاوتات القائمة بالفعل في جميع أنحاء العالم.
وهذا الأمر لا يمكن قبوله في مستقبل مُرتكز على الإنسان وأولوية التكنولوجيا الرقمية؛ إذ ينبغي أن يصبح الوصول إلى الأدوات والخدمات الرقمية والقدرة على استخدامها بشكل فعال حقاً أساسياً وليس امتيازاً.
بالإضافة إلى ذلك، تم الدفع بالعديد من الخدمات على المنصات الرقمية دون توفير إدارة مناسبة لهذا التغيير. ويعني ذلك أنه ينبغي على موظفي القطاع العام والعملاء على حد سواء أن يكتشفوا بأنفسهم كيف يجري العمل دون الحصول على الكثير من الدعم، الأمر الذي يؤدي إلى ظهور المشكلات المتعلقة بإمكانية الوصول إلى الخدمات والتجارب السيئة.
ويتطلب سد هذه الفجوة الرقمية اتباع نهج ثلاثي المحاور. أولاً، التركيز على محو الأمية الرقمية. ثانياً، توسيع نطاق البنية التحتية الرقمية لتحسين وصول الجماهير إلى الإنترنت بتكلفة معقولة. ثالثاً، اعتماد نهج “الشمول عن طريق التصميم” في تطوير الخدمات الرقمية.
وبالرغم من أن هناك نُهج رسمية لمحو الأمية الرقمية مثل برامج تدريب الأفراد والموظفين، إلا أنه لا ينبغي إغفال دور المجتمع المحلي في دعم المهاجرين الرقميين والأجيال الأكبر سناً. ويتعين على الحكومات أن تشجع مؤسسات المجتمع المدني والمجتمعات المحلية على تحمل هذه المسؤوليات، من خلال رفع الوعي بهذه القضايا وتشجيع المتطوعين على العمل.
على صعيد البنية التحتية، يمكن للحكومات أن تعيد النظر في سياساتها المتعلقة بشبكات الجيل الخامس للإسراع باستخدامها ونشرها. كما يمكنها التفكير في تقديم حوافز -مثل تخفيض أسعار الطيف الترددي وغيرها من التكاليف- إذا شاركت شركات الاتصالات في البرامج الحكومية الخاصة بتوفير الوصول الشامل وضمان توصيل الإنترنت إلى المناطق الريفية والمهمشة، وتلك التي يتعذر الوصول إليها في البلاد. كما أن السياسات والممارسات الخاصة بتقاسم البنى التحتية للاتصالات وتفكيك التراخيص ستساعد على دخول صغار اللاعبين أيضاً إلى السوق، وتوسيع الخدمات لتشمل عملاء جدد. كما يتعين أيضاً مراعاة الأبعاد غير الرقمية، مثل توافر الكهرباء والأجهزة.
ويجب على الحكومات أن تضمن تمتع الناس بالقدرة على إتمام معاملاتهم بأقل مجهود ومن المرة الأولى. ويحاول نهج “الشمول عن طريق التصميم” جعلَ الخدمات الرقمية متاحة وقابلة للاستخدام بالنسبة لذوي الاحتياجات الخاصة. ويمكن أن يتمثل ذلك في شكل توفير وسائل دعم، مثل إتاحة الوصف السمعي والبصري، وتغيير حجم الخط واللون، فضلاً عن دمج المساعدين الرقميين في تقديم الخدمات. ومع تزايد التركيز على فكرة الاعتماد على التكنولوجيا الرقمية بشكل تلقائي، فمن الأهمية بمكان ألا نترك أي قطاع من المجتمع يتخلف عن الركب.
وقد أدرج القادة العالميون في مجال الممارسات الحكومية الرقمية بالفعل الإدماج الرقمي ضمن أفضل الممارسات، إلا أنه يجب أن يصبح أولوية إستراتيجية. علاوة على ذلك، فإن ثمة حاجة إلى المزيد من العمل لتوفير بيانات تفصيلية على الصعيدين المحلي والإقليمي حول الدخل والجنس والموقع والمجتمعات المحلية والفئات العمرية والاستخدام، وذلك لتحديد الفجوات الحقيقية والسماح لصناع السياسات بتوجيه الموارد المحدودة في الاتجاهات الصحيحة.
مخاوف تتعلق بخصوصية البيانات وحمايتها
إن أحد أكبر التحديات التي تواجه تطبيق نظام قوي لتبادل المعلومات -وهو أحد الشروط الأساسية لإنشاء أدوات ومنصات رقمية فعالة- هو القلق بشأن خصوصية البيانات؛ فالأسئلة المتعلقة بمعرفة من الذي يتحكم في المعلومات ويستخدمها وطريقة استخدامه لها أثارت العديد من القضايا السياسية والقانونية في مختلف أنحاء العالم.
وكان القانون الأوروبي العام لحماية البيانات (GDPR) قد حظي بترحيب كبير باعتباره أحد الإنجازات الرئيسية وخطوة نحو حماية خصوصية البيانات الشخصية. وبينما نحن على مشارف مرحلة جديدة ستشهد انفجاراً في كمية البيانات مع طرح شبكات الجيل الخامس تجارياً، فمن المتوقع أن تظهر قوانين ولوائح مماثلة تتعلق بخصوصية البيانات في جميع أنحاء العالم. ونظراً لأن الحكومات تنظر إلى هذه المسألة باعتبارها مسألة حساسة، فإنها يجب أن تتبع مبدأ “الخصوصية من خلال التصميم” في تطوير خدماتها وأدواتها ومنصاتها الرقمية.
وينبغي على الحكومات أيضاً أن تتحقق مما إذا كانت هيئات القطاع العام تتجاهل سياسات الخصوصية والأمان عند تبنيها الحلول الخاصة بالعمل عن بُعد أثناء جائحة كوفيد-19. وتشير دراسة استقصائية أجرتها الرابطة الدولية لخبراء الخصوصية وإيرنست ويونغ إلى أن نشر هذه الحلول بسرعة بين عشية وضحاها أجبر نحو 60% من المؤسسات على تخطي هذه العمليات أو التعجيل بها. وعلى الرغم من أن معظم المشاركين في الدراسة الاستقصائية كانوا يعملون في القطاع الخاص، إلا أن القطاع العام توجب عليه أيضاً أن يخوض نفس الموقف، ومن الضروري دراسة العمليات والسياسات والأدوات التي تم تبنيها لدعم العمل عن بُعد.
علاوة على ذلك، يتوجب على الحكومة تأمين الموارد والخدمات الرقمية التي تقدمها وحماية سلامة البيانات التي يجري تداولها. ويحظى هذا الأمر بأهمية خاصة نظراً للزيادة التي حدثت مؤخراً في حجم الهجمات الإلكترونية المدعومة من الدول؛ فوفقاً لتقرير التحقيقات الخاصة باختراق البيانات الذي أصدرته شركة فيريزون عام 2019، فقد شكلت الهجمات الإلكترونية المدعومة من الدول 23% من حالات اختراق البيانات المُبلغ عنها عام 2019، مقارنة بنسبة 12% فقط عام 2018. ولا شك أنك لا تريد لخدماتك أن تفشل عندما تصبح قطاعات أكبر من المجتمع معتمدة على المعاملات الرقمية أو أثناء حالات الطوارئ مثل جائحة كوفيد-19.
وهذا يعني الاستثمار في إنشاء وتطوير إطار قوي للأمن السيبراني وفي بنية تحتية تدعمه. وبالرغم من أن العديد من الحكومات في جميع أنحاء العالم أنشأت “فرق استجابة للطوارئ الحاسوبية”، وتجري اختبارات منتظمة للتدريب تحسباً لتعرضها للاختراق، إلا أن المستخدمين البشر الغافلين غالباً ما يمثلون الحلقة الأضعف؛ لذا فإن إنشاء برامج توعية لكل من موظفي القطاع العام والمستخدمين النهائيين يمثل أهمية بالغة. ويمكنك دمج هذه البرامج ضمن برنامج التعلم والتطوير الخاص بموظفيك، في الوقت الذي يُمكن فيه استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كأداة قوية للتفاعل مع المواطنين.
بالإضافة إلى ذلك، يجب على الحكومات استكشاف كيفية الاستفادة من التقنيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي والتحليلات المتقدمة والسجلات الموزعة لتعزيز حماية الخدمات الرقمية. ومن المتوقع وجود حوالي 1.2 مليار اتصال بتكنولوجيا الجيل الخامس و41.6 مليار جهاز متصل بحلول عام 2025، ما يعني إجراء أكثر من 4900 معاملة رقمية لكل شخص يومياً. وسيكون من الصعب رصد هذا القدر الكبير من الأنشطة وتأمينه بالوسائل التقليدية والقوى العاملة البشرية المتاحة.
كما أشار تقرير تم إعداده بتكليف من مكاتب الاتصالات الحكومية البريطانية (GCHQ) إلى أن دمج الذكاء الاصطناعي في تدابير الأمن السيبراني المعمول بها في البلاد يُشكل أهمية بالغة بالنسبة للأمن القومي؛ من أجل اكتشاف التهديدات التي تفوق قدرات صنع القرار البشري والحد من خطورتها على نحو استباقي.
القدرة على توفير الخدمات الرقمية وتوسيع نطاقها
نظراً لكون الخدمات الرقمية هي السبيل الوحيد للوصول إلى الخدمات في العديد من أنحاء العالم أثناء الجائحة، فلا يسعني هنا سوى أن أشدد على أهمية بناء الحكومات للقدرات الخاصة بتوفير الخدمات العامة الرقمية وتوسيع نطاقها.
ويُعد تبني الحوسبة السحابية مكوناً تمكينياً مهماً لإنشاء الحكومة الرقمية وتحسين تجربة المستخدم، فضلاً عن كونه أكثر فعالية أيضاً من حيث التكلفة؛ فهو يوفر، من ناحية، المزيد من المرونة والقابلية للتطوير وسرعة الأداء، والوصول إلى الأدوات والتطبيقات والقدرات وما إلى ذلك. ومن ناحية أخرى، يتيح تحسين التعاون بين مختلف الوكالات الحكومية. وستسمح السحابة الحكومية للوكالات العامة بالتعامل مع الزيادات الحادة في استخدام القنوات الرقمية، ومن دونها يمكن أن تتعطل الخدمات بسبب الحمل الزائد على الخوادم.
ويتعين على الحكومات أيضاً النظر إلى هذا الأمر من زاوية متانة البنية التحتية للاتصالات وقدرتها على توفير إمكانية الوصول إلى المحتوى الرقمي بجودة عالية. وهنا يبرز الدور الهام الذي تضطلع به هيئات تنظيم الاتصالات؛ إذ يجب عليها التحقق من أن شركات الاتصالات قد استثمرت ما يكفي لتوفير الحد الأدنى من معايير الإنترنت التي وعدت بها عملاءها.
ملاءمة القواعد واللوائح القائمة
ثمة مسألة رئيسية أخرى ينبغي معالجتها لضمان توفير خدمات رقمية عالية الجودة للناس، وهي تتعلق بمدى ملاءمة القواعد واللوائح الحالية لمجتمعنا الرقمي المعاصر الذي يتسم بدرجة عالية من الديناميكية والتطور. على سبيل المثال، لا تزال الكيفية التي تتعامل بها السلطات مع تطبيقات حجز سيارات الأجرة في العديد من أنحاء العالم غير واضحة.
ومع أننا تطرقنا بالفعل إلى اللوائح المتعلقة بخصوصية البيانات، إلا أن دعم الخدمات الرقمية يعني أيضاً توفير إطار قانوني لبعض العوامل التمكينية الرئيسية، مثل التوقيعات الرقمية والهويات الرقمية، لضمان تقديم خدمات رقمية شاملة.
كما ترتبط النقاشات التنظيمية أيضاً بوضع أطر أخلاقية لاستخدام التقنيات الجديدة، وكذلك استخدام المؤسسات العاملة بالقطاعين العام والخاص للبيانات. وعلى الرغم من الخلافات الدائرة حول هذه الأطر، إلا أن عملية صنع القرار بمساعدة الخوارزميات تحرز تقدماً في القطاع العام في جميع أنحاء العالم. على سبيل المثال، تستخدم مدينة نيويورك الخوارزميات على نطاق واسع في مجموعة من الأنشطة، من ضمنها اتخاذ القرارات الخاصة بمن يبقى في السجن ومن يخرج منه، وتقييمات المعلمين، ومكافحة الحرائق، وتحديد مضاعفات الحمل الخطيرة، وغيرها من المجالات.
ومن المتوقع أن يكتسب هذا الاتجاه زخماً أكبر مع اكتشاف المزيد والمزيد من فوائد الذكاء الاصطناعي. بيد أن الاستخدام الواسع النطاق للذكاء الاصطناعي -من ناحية أخرى- يمكنه أن يؤدي أيضاً إلى بعض العواقب غير المرغوب فيها إذا ظل دون رادع. ومن ثم، فإن هناك حاجة إلى وضع إطار أخلاقي لمراقبة استخدام الذكاء الاصطناعي؛ بحيث يمكنه إلقاء الضوء على مشاكل التمييز الناجمة عن عوامل من قبيل تحيز المبرمجين. وبما أن الدوافع الربحية هي التي تحرك القطاع الخاص في المقام الأول، فمن غير المرجح أن نرى تنظيماً ذاتياً جدير بالثقة لهذه الصناعة.
ويتعين على الحكومات أن تتبع نهجاً استباقياً في تعاملها مع هذا التحدي.
كيفية المضي قدماً – نهج تجريبي معتمد على البيانات
وأخيراً، وبينما تزيد الحكومات من الزخم اللازم للعمل الرقمي، من المهم توجيه الأسئلة إلى الأشخاص الأكثر قرباً من المشكلات، وهو ما يعني الاستماع إلى مواضع شكوى المستخدمين وكذلك الأشخاص الذين يقفون وراء توفير مختلف الخدمات. وللقيام بذلك بشكل فعال، يجب على الحكومات تشكيل مجموعة أساسية تركز على البيانات وتتمتع بالكفاءة والقدرة على إدارة البيانات والتحليلات المتقدمة مركزياً.
مثلت التطورات التي شهدها مجال التحليلات ظاهرة حديثة نسبياً بالنسبة للحكومات. وتقوم المؤسسات ببناء أنظمة تحليلية متوافقة مع العمليات والهياكل القائمة. وبدلاً من أن تقدم هذه الأنظمة رؤى لصناع القرار لتحسين الأوضاع القائمة حالياً، فإنها يجب أن تمثل القوة المحركة لما يتم تطويره وتوفيره للناس في المقام الأول، ثم العمل بعد ذلك كأداة لمواصلة التحسين.
وعند استخدام هذه المجموعة التحليلية الأساسية بكفاءة، فإنها ينبغي أن تتيح للحكومات تبني نهج حقيقي مرتكز على الإنسان في تصميم وتنشيط التجارب الحياتية لمواطنيها على نحو استباقي، لتمكينهم من عيش حياة آمنة وصحية وراضية وذات معنى.