تجميد الجثث بالتبريد: من أفلام الخيال العلمي إلى المختبرات الطبية

5 دقائق
تجميد الجثث بالتبريد: من أفلام الخيال العلمي إلى المختبرات الطبية
مدخل منشأة التخزين في موسكو لشركة كرايوروس (KrioRus)، والتي كانت حتى فترة قريبة الشركة الوحيدة لحفظ الخلايا الحية بالتبريد في أوراسيا.

عندما ذهب آرون دريك بالطائرة من أريزونا إلى مجموعة ينفينغ (Yinfeng) للبيولوجيا في مقاطعة جينان في شرق الصين عام 2016، اكتشف أنه يزور مركزاً فائق الحداثة للتكنولوجيا الحيوية. ويتضمن المركز أكثر من ألف عامل -بما فيهم جيش كامل من حملة شهادات الدكتوراة والأطباء- يجرون أبحاثاً مثل دراسة الخلايا الجذعية الموجودة في دماء الحبل السري. يختص المركز بأبحاث الخلايا البشرية، بدءاً من الاختبارات الجينية وصولاً إلى علاجات السرطان الخاصة.

جثث بشرية ضمن النيتروجين السائل

ولكن إدارة المركز وضعت خططاً أخرى أيضاً، وذلك على شكل خزانات أسطوانية من الفولاذ غير القابل للصدأ، والتي ستوضع فيها لاحقاً جثث بشرية ضمن النيتروجين السائل. لم تكن الخزانات قد رُكِّبت بعد، ولكن ينفينغ كانت تأمل بالحصول على مساعدة دريك في هذه المسألة، وذلك مع استثمارها لمبلغ 7 ملايين دولار تقريباً لإطلاق المشروع الجديد. وبوصفه من أهم الموظفين الجدد، تتلخص مهمة دريك بتوجيه الخطى الأولى للصين نحو عالم حفظ الخلايا الحية بالتبريد، أو تبريد الجثث لإعادة تنشيطها لاحقاً.

كانت البيئة جديدة نوعاً ما على دريك، والذي أمضى السنوات السبع الماضية في منصب مدير الاستجابة الطبية في منظمة ألكور (Alcor) لإطالة الحياة. ومع أن ألكور كانت المنظمة الرائدة منذ فترة طويلة في مجال حفظ الخلايا الحية بالتبريد، فإنها ما زالت منظمة لاربحية صغيرة. لقد كانت تجمد أجسام وأدمغة أعضائها، مع فكرة إعادتهم يوماً ما إلى الحياة، منذ عام 1976.

اقرأ أيضاً: زرع العصبونات البشرية في أدمغة الجرذان: تجربة جديدة واعدة وإشكاليات أخلاقية

وتمكنت المنظمة، إضافة إلى مجال حفظ الخلايا الحية بالتبريد بشكل عام، من الاستمرار خارج نطاق القبول العام. وعلى الرغم من أن حفظ الخلايا الحية بالتبريد كان منبوذاً من قبل الأوساط العلمية، فقد اشتهر بالظهور في العديد من أفلام الخيال العلمي مثل: 2001: أوديسة الفضاء (2001: A Space Odyssey). ولكن المناصرين تمسكوا بالحلم، على أمل أن تصل تطورات الطب في المستقبل إلى مرحلة تسمح بإعادة تنشيط هذه الجثث لإمضاء بضع سنوات إضافية على كوكب الأرض. وبقي هذا الأمل حياً على مدى عدة عقود، بفضل تطورات صغيرة ولكنها مثيرة للاهتمام في التكنولوجيات المتعلقة بهذا المجال، إضافة إلى بعض المشاهير الذين تحولوا إلى كتل مجمدة خاضعة للاختبار، مثل تيد ويليامز. واليوم، تحتوي حجيرات التجميد لدى ألكور على 200 مريض ميت تقريباً، وذلك في حالة تجميد ضمن حرارة 196 درجة تحت الصفر، بما في ذلك مجموعة من المشاهير الذين دفعوا عشرات الملايين من الدولارات من أجل "أمل العودة إلى الحياة" و"الاندماج مرة أخرى في المجتمع" في نهاية المطاف.

حقبة جديدة في حفظ الخلايا الحية بالتبريد

ولكن انضمام ينفينغ إلى هذا المجال منذ فترة قريبة يشير إلى احتمال بدء حقبة جديدة لحفظ الخلايا الحية بالتبريد. وبوجود موارد مالية ممتازة، ودعم حكومي، وطاقم علمي مؤهل، يعتبر مختبر ينفينغ أحد المختبرات القليلة الجديدة التي تركز على تعزيز اهتمام المستهلكين بحفظ الخلايا الحية بالتبريد، وتحاول مرة أخرى زيادة مصداقية نظرية إعادة تنشيط البشر، والتي كانت محط جدل طويل الأمد. وبعد سنة واحدة من استلام دريك لمنصب مدير الأبحاث في معهد شاندونغ ينفينغ لأبحاث علوم الحياة، وهو فرع يتبع لمجموعة ينفينغ البيولوجية للإشراف على برنامج حفظ الخلايا الحية للتبريد، قام المعهد بإجراء أول عملية حفظ بالتبريد. والآن، تحتوي مستوعبات الحفظ على قرابة 12 عميلاً يدفعون ما يصل إلى 200,000 دولار لحفظ الجسم بأكمله.

اقرأ أيضاً: هل يحتاج المرضى المنغمسون في الواقع الافتراضي في أثناء الجراحة إلى تخدير أقل؟

وعلى الرغم من هذا، فما زال هذا المجال يعتمد إلى درجة كبيرة على الإيمان دون وجود أي أدلة فعلية تشير إلى نجاحه. يقول عالم الأعصاب والأستاذ في كلية كينجز لندن، كلايف كون: "إنه طموح يائس يكشف عن جهل فاضح بالبيولوجيا".

حتى لو تمكنا يوماً ما من تذويب جسم بشري متجمد بصورة مثالية، فلن نحصل في نهاية المطاف سوى على جثة دافئة.

تحديات حفظ الجثث بالتبريد

عادة، تتم عملية حفظ الخلايا الحية بالتبريد بالطريقة التالية: عند وفاة الشخص المعني، يبدأ فريق الاستجابة بعملية تبريد الجثة إلى درجة حرارة منخفضة، مع إجراء عملية الدعم القلبي الرئوي للحفاظ على تدفق الدم إلى الدماغ والأعضاء الأخرى. وبعد ذلك، يتم نقل الجثة إلى منشأة التبريد، حيث يتم ضخ سائل حفظ الأعضاء عبر الأوعية الدموية، قبل غمر الجسم بالنيتروجين السائل. ويجب أن تبدأ العملية خلال ساعة واحدة من الوفاة، وكلما طال الانتظار، زاد التلف في خلايا الجسم. وبعد ذلك، وما إن تصبح الجثة المجمدة ضمن حجيرة التبريد، لا يبقى سوى الأمل بعودة الحياة لاحقاً.

ومنذ بدايات هذا المجال في أواخر الستينيات، نال الكثير من الازدراء من الأوساط العلمية، خصوصاً من العاملين في مجال مشابه أكثر احتراماً، وهو علم الأحياء البردي (Cryobiology)، أي دراسة التجميد والحرارة المنخفضة على الكائنات الحية والمواد البيولوجية. بل إن جمعية بيولوجيا البرودة الشديدة حظرت على أعضائها المشاركة في حفظ الخلايا الحية بالتبريد في الثمانينيات، حيث وصف رئيس سابق للجمعية هذا المجال بأنه "أقرب إلى الاحتيال منه إلى الإيمان أو العلم".

ولكن في السنوات الأخيرة، بدأ هذا المجال باجتذاب اهتمام الجمهور الليبرالي من المتفائلين بالتكنولوجيا، ومعظمهم من أثرياء التكنولوجيا الحالمين بالخلود. وقد بدأت بعض الشركات الناشئة الجديدة بتوسيع نطاق هذا المجال. فقد أصبحت شركة تومورو بايوستاسيس (Tomorrow Biostasis) في برلين أول شركة ناشئة في مجال حفظ الخلايا بالتبريد في أوروبا الغربية في 2019، وفي أوائل عام 2022، افتتحت شركة ساوثرن كرايونيكس (Southern Crionycs) منشأة في أستراليا.

اقرأ أيضاً: قطب كهربائي داخل الدماغ لإصلاح الذاكرة يفتح آفاقاً جديدة لعلاج ألزهايمر

يقول مؤسس تومورو بايوستاسيس، إميل كيندزيورا: "أصبح معظم الباحثين منفتحين على المواضيع المستقبلية بعيدة الأمد أكثر مما كانوا منذ 20 سنة تقريباً".

ووصلت الأمور إلى حد إلغاء جمعية بيولوجيا البرودة الشديدة لقيودها السابقة حول حفظ الخلايا الحية بالتبريد. كما أن رئيسها الحالي، غريغ فيهي، وهو مختص ببيولوجيا البرودة الشديدة وبيولوجيا الشيخوخة، هو المسؤول عن شركة توينتي فيرست سينشوري ميديسين (21st Century Medicine)، والتي تعمل على تطوير تقنيات لحفظ الأعضاء والأنسجة البشرية بالتبريد. (وعلى الرغم من هذا، فقد قالت الجمعية في تصريح لإم آي تي تكنولوجي ريفيو إن حفظ الخلايا الحية بالتبريد "ليس علماً، ولكنه توقع أو أمل").

حالياً، يوجد قرابة 500 شخص محفوظ ضمن النيتروجين السائل في كافة أنحاء العالم، والأغلبية العظمى منهم موجودة في الولايات المتحدة. كما يوجد 4,000 شخص تقريباً على قوائم الانتظار لمنشآت الحفظ بالتبريد حول العالم، كما يقول كيندزيورا. يوجد لدى ألكور 1,500 عضو تقريباً، كما يوجد لدى تومورو بايوستاسيس 300 عميل يدفعون رسوماً شهرية زهيدة نسبياً تساوي 25 يورو (مع دفع 200,000 يورو عند الوفاة).

تفاؤل غير منطقي أحياناً

وعلى الرغم من عدم وجود أي دليل على إمكانية إعادة الموتى إلى الحياة يوماً ما، فإن أنصار هذا المجال ما زالوا –وبصورة غير مفاجئة- محافظين على تفاؤلهم، ويلاحظون إمكانية تجميد بعض النسج وتذويبها إلى حالتها الطبيعية بنجاح في الوقت الحالي، مثل النطاف والأجنة والخلايا الجذعية، إضافة إلى مزاعم بعض الباحثين بتحقيق النجاح في تجميد الديدان الصغيرة وكلى الأرانب، وتذويبها إلى حالتها الطبيعية. وعلى سبيل المثال، قام الباحثون في توينتي فيرست سينشوري ميديسين بعملية حفظ بالتجميد تلتها عملية تذويب ناجحة لدماغ أرنب في 2016، ودماغ خنزير في 2018.

ولكن دايونغ غاوم، وهو مختص ببيولوجيا البرودة الشديدة وأستاذ في جامعة واشنطن، يشير إلى أن حفظ بنية الدماغ لا يعني بالضرورة حفظ وظائفه. كما يقول كون من كلية كينجز لندن إن الادعاء بأن هذه الدراسات تدعم أهداف حفظ الخلايا الحية بالتبريد "ضرب من الخداع"، ويصر على أن بنى الدماغ فائقة التعقيد لدرجة يستحيل معها حفظه وإعادة تنشيطه كما يزعم باحثو حفظ الخلايا الحية بالتبريد.

اقرأ أيضاً: شركة ناشئة تعمل على استنساخ البشر لأغراض التبرع بالأعضاء

ولكن، تم إحراز بعض التقدم في أساليب إعادة تدفئة النسج المتجمدة. فقد بينت مجموعة بحثية في جامعة مينيسوتا أن تقنيات التدفئة النانوية، بتحفيز جسيمات نانوية من أوكسيد الحديد عن طريق الأمواج الراديوية، يمكن استخدامها بنجاح على عينات أكبر بحجم 50 ميليمتر. كما نجحت المجموعة الآن في تذويب أعضاء جرذان كاملة بطريقة تحفظ بنية الخلايا بشكل لا يتسبب بتسميمها، مع توجه نحو محاولة إعادة تنشيط وظائف الأعضاء أيضاً. وتقوم المجموعة الآن بإجراء التجارب على أعضاء الخنازير.

تكرس ينفينغ مواردها لحل نفس المشكلة، وتقوم حالياً بإجراء التجارب على طرق حفظ الخلايا الحية بالتبريد في محاولة لحفظ أعضاء بشرية منفردة وأطراف مبتورة لتقوية برنامج زرع الأعضاء الوطني في الصين.

ولكن، وفي نهاية هذا المطاف، لن تؤدي أي من هذه التطورات إلى طريقة لإعادة تنشيط شخص متجمد. حتى لو تمكنا يوماً ما من تذويب جسم بشري متجمد بصورة مثالية، فلن نحصل في نهاية المطاف سوى على جثة دافئة. وما زال الجزء الأكثر صعوبة، أي عكس عملية الموت نفسها، لغزاً محيراً.

وهو أمر يدركه دريك جيداً. ولكنه يقول إن العملاء الذين يسعون للحصول على خدمات التجميد هم في أغلب الأحيان "من غير المؤمنين بحتمية الموت". ويقول: "بدلاً من الإيمان بوجود ’’قوة عظمى‘‘، يؤمن هؤلاء بالعلم، وهم واثقون من قدرة العلوم الطبية على حل المشكلة في نهاية المطاف".

المحتوى محمي