ما الذي قد يدفع طبيباً شهيراً ومرموقاً في الولايات المتحدة الأميركية ويعيش حياة هانئة فيها ليترك كلّ هذا ويتجه إلى الشرق الأوسط، وتحديداً إلى قطر ليتسلم بناء مشروع طبي جديد في الوقت الذي كانت لا تزال قطر فيه في بدايات تطوّرها؟
البروفيسور زياد موسى حجازي هو الرئيس الطبي ورئيس مركز أمراض القلب في سدرة للطب، عضو مؤسسة قطر، وهو أحد رواد إصلاح العيوب الخلقية والهيكلية في القلب بالطرق غير الجراحية في العالم، وهو من مؤسسي التدخلات العلاجية لأمراض القلب لدى الأطفال في أميركا. زار قطر عدة مرات لإجراء عمليات في مستشفى حمد العام، وكان عضو مجلس إدارة محايداً في وايل كورنيل للطب – قطر، الجامعة الشريكة لمؤسسة قطر، وكان يسمع دائماً عن مشروع مستشفى السدرة، لكنه لم يفكر يوماً في أن يترك عمله وأسرته في شيكاغو ويتجه إلى قطر.
يقول البروفيسور حجازي: "الإنسان إمّا أن يرحل بحثاً عن ظروف معيشية أفضل وإمّا لأسباب عائلية. بالنسبة لي لم يكن لدي أي سبب منها. حتى تلقيت اتصالاً عام 2013 لأكون المؤسس لإدارة طب الأطفال في سدرة للطب".
يتابع: "كانت الفكرة بعيدة في البداية، لكن كان لديّ إيمان برؤية قيادة دولة قطر ورؤية صاحبة السمو الشيخة موزا بنت ناصر رئيس مجلس إدارة مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، لا سيما أن قطر كانت حينها قد فازت باستضافة بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022، وكنت أرى ما استطاعت قطر تحقيقه عندما كنت أسافر على متن الخطوط الجوية القطرية التي تعد إحدى أفضل وجهات الطيران في العالم".
يضيف: "كنتُ أعلم أنني إذا توفرت لي الإمكانات نفسها والدعم، يمكنني تأسيس أفضل مستشفى في العالم متخصص في النساء والأطفال. كان مشروع السدرة عندما تقرأه على الورق مشروعاً خيالياً، فهو مستشفى تعليمي أكاديمي وبحثي على أرقى مستوى، ولن يتكرر في تاريخنا المعاصر أبداً".
وحسبما قال البروفيسور حجازي، كان الدافع الأكبر بالنسبة له ليترك عمله في شيكاغو ويتجه إلى الدوحة هو أن عالمنا العربي بحاجة أكبر إلى خبرات الأطباء العرب، موضحاً: "في أميركا يوجد أكثر من زياد حجازي، لكن عالمنا العربي بحاجة أكبر إليّ، حيث نواجه نقصاً في عدد الأطباء والجرّاحين الذين يجرون العمليات نفسها التي أجريها أنا في أميركا".
ويتابع: "اليوم، صُنِّفت سدرة للطب من بين أفضل 250 مستشفى في العالم، وأفتخر أن مستشفى السدرة أصبح وجهة عالمية للمرضى والسياحة العلاجية، حيث نستقبل مئات المرضى سنوياً من الدول المجاورة، وكذلك من أميركا وروسيا وجنوب أميركا وكذلك للمرضى في قطر الذين باتوا يفضّلون العلاج في سدرة على الرغم من إمكانية تلقي العلاج في الخارج، لأنهم آمنوا بمستشفى السدرة والعناية الصحية التي نوفّرها والنتائج التي نقدّمها، وهذا إنجاز حققناه في غضون خمس سنوات ونصف، وهذا ما أعتز وأفتخر به لأننا أسسنا إحدى أفضل المؤسسات الطبية ليس فقط في منطقة الخليج، بل في العالم".
براءة الأطفال هي ما دفعت البروفيسور حجازي للاختصاص في أمراض القلب لدى الأطفال، فما ذنب طفل يولد بتشوه خلقي في القلب؟ ما ذنبه أن يعاني دون أن يستطيع التعبير عن مرضه؟ أن يكبر ويكبر هذا المرض معه؟ أو أن يُحرم من تلقي العلاج بسبب التكلفة المادية الباهظة الثمن؟
يوضّح البروفيسور حجازي: "أكثر من نصف مرضى القلب تقريباً بالغون وأعمارهم أكثر من 18 سنة لكن لديهم تشوهات خلقية في القلب، البعض منهم شُخِّص منذ الولادة، ولكن هناك قسماً كبيراً لم يُشخَّص لأنه لم تظهر عليهم أعراض. وهذا هو التحدّي بالنسبة لطبيب الأطفال، لأنه يعتمد على فحص الجسم وإجراء المحادثات مع الوالدين وخاصة الأم".
يتابع: "عندما تعالج طفلاً و"تلمس" قلبه"، فأنت تصبح جزءاً من ذاكرته وقصة حياته، بل وفرداً من أسرته لأنك أنقذت حياة أحد أحبائها من الموت، وأن ترى الأطفال الذين عالجتهم يكبرون ويصبحون راشدين وممتنين لما قدّمته لهم، فهو أكبر إنجاز يحلم به أي طبيب أطفال".
وفقاً للبروفيسور حجازي، فإن العائق أمام عمليات تشوهات القلب الخلقية للأطفال هو الإمكانات المادية لأنها مكلفة جداً، وهو ما يتطلّب دعماً من الحكومات في العالم وجمع التبرعات لإنقاذ حياة الأطفال الذين يشكّلون مستقبل البلاد. ويقول البروفيسور حجازي: "أفخر بأن علاج هذه الأمراض مجاني في قطر للمواطنين والمقيمين. نحن في العالم العربي بحاجة إلى مثل هذا الدعم وأن نطالب بجمع التبرعات بتوفير العلاج المجاني لعلاج أمراض الأطفال كلها مجاناً، لأنهم بناة المستقبل".
وعلى الرغم من أن له باعاً طويلاً في مجال الطب، لا يزال البروفيسور حجازي متعطشاً أكثر من الأطباء في بداية مسيرتهم المهنية: "أستيقظ كلّ يومٍ وأنا أفكر كيف يمكنني أن أنجز اختراعاً جديداً يساعد المرضى؟ فحب العلم لا حدود له وهناك دائماً ما يمكننا أن نقدمه".
بالعودة إلى بداية المسيرة المهنية البروفيسور حجازي في الثمانينيات، فقد كان تخصص أمراض القلب نادراً آنذاك إلى جانب قلّة عدد الأطباء والجرّاحين والمداخلات العلاجية التي يمكن تقديمها للمرضى، ويُعد البروفيسور حجازي من مؤسسي هذا التخصص، وأصبح عالماً من أعلامه في العالم.
شارك البروفيسور حجازي في تطوير الصمام الرئوي "فينوس" الذي يمكن زراعته دون الحاجة إلى خضوع المريض لعملية القلب المفتوح. ويقول: "بعد إجراء التجارب على المرضى في عدة دول على مستوى العالم، أثبتنا أن النتائج أفضل بكثير من صمام الجراحة. ويعد مستشفى السدرة الوحيد في الشرق الأوسط الذي أجرى عمليات زراعة صمام "فينوس".
يضيف: "أصبحت لدينا في قطر كبلد ناشئ في مجال البحوث إمكانية إجراء تجارب عالمية، واستقطاب تقنيات تُجرب في قطر للمرة الأولى بدلاً من ألمانيا أو أميركا، فلدينا المتطلبات كلها التي تمكننا من إجراء أبحاث على مستوى عالمي، ولدينا برامج تدريب للأطباء ويعملون تحت إشرافنا لتطبيق زراعة هذا الصمام، وسوف نجري زيارات لعدة مراكز طبية في الشرق الأوسط لتطبيق هذه التقنية لديهم".
ويردف: "هذه أمثلة على الجهود التي نبذلها، ولدينا العديد من الاختراعات الأخرى التي نعمل على تطوريها من خلال جهودنا البحثية وبالتعاون مع الجهات المعنية وعلى رأسها وزارة الصحة العامة في قطر، وتقديم النتائج بشأنها دورياً".
إلى جانب توفير الرعاية الصحية وإجراء الأبحاث، يُعد سدرة للطب مرفقاً أكاديمياً وتعليمياً، حيث لديه تعاون مع وايل كورنيل للطب – قطر، الجامعة الشريكة لمؤسسة قطر، وجامعة قطر، ويوفّر برامج الإقامة في طب الأطفال، كما يمنح زمالة التخصص الفردي في أمراض القلب أو الأمراض التنفسية أو أمراض الأعصاب، وبدوره يدعم البروفيسور حجازي طلاب الطب ليضعوا خبراتهم في الدول العربية.
وفي هذا الصدد يقول: "رحلتي في الحياة هي رحلة أخذ وعطاء، لأنني لم أبخل في يومٍ من الأيام في مساعدة أي إنسان يرغب في التخصص من الطلاب العرب، وهم الآن يعتبرون قادة في مجالاتهم في العالم".
مضيفاً: "بفضل الله، خرّجنا عدة أطباء في هذه التخصصات، ويجدون استفادة كبيرة لدينا لأنهم يتعاملون مع أمراض معقدة إلى حدّ ما تابعة لمنطقتنا. وخلال جائحة كورونا كان لدينا تعاون مع وايل كورنيل للطب – قطر، الجامعة الشريكة لمؤسسة قطر، وأجرينا أبحاث نُشِرت في أفضل المجلات الطبية العالمية، وهذا كلّه يعود للدعم المستمر واللامحدود الذي نحظى به من مؤسسة قطر للعلم والعلماء، حيث تتوفر الإمكانات كلها، والمطلوب منا فقط هو أن نبتكر ونبدع".
من خلال تجربته في قطر وسدرة للطب، وجّه البروفيسور حجازي رسالة "للعقول المهاجرة" وللأطباء العرب في الخارج داعياً لهم لتكريس خبراتهم في الدول العربية إذا توفرت لهم فرص مناسبة.
وقال: "صحيح أنكم تجدون فرصاً رائعة هناك، لكن الدول العربية بحاجة ماسة إليكم من الدول الأجنبية، فأعداد الأطباء أقل والمرضى أكثر بكثير وهم بحاجة إلى اختصاصكم. أحثُ أي طبيب عربي أن يكمل اختصاصه وأن يحصل على أفضل علم، ثم يعود إلى وطنه العربي، لأن العائد على استثماره سيكون أكبر وسيمنحه شعوراً بالرضا والإنجاز، وهناك فرص حقيقية متاحة للأطباء في العالم العربي بسبب قلّة عددهم في مختلف المجالات".
كما دعا الدول العربية إلى توفير المناخ المناسب للعلماء العرب لتسهيل استقطابهم إليها، قائلاً: "هذا ينطوي على عدة عوامل مهمة مثل الدعم المادي للأبحاث، والأمان الوظيفي والمالي، ويمكنني القول إن قطر توفّر كل ما يحتاج إليه الطبيب، وقد كان لي دور في استقطاب عدة أطباء إلى قطر، وكان قراراً صائباً لأن البيئة التي وجدناها هنا هي بالمستوى العالي الذي تجده في أي مكان متقدّم بالعالم".