شهد مطلع الألفية الثالثة تبلور الذكاء الاصطناعي في تطبيقاتٍ محدودة المجالات. وقد ازدهرت على سبيل المثال أنظمة التوصية والإعلانات الموجّهة عبر منصات التجارة الإلكترونية، مبرهنةً على أن التحليلات التنبؤية والتخصيص يمكن أن يحققا أرباحاً طائلة. وفي الوقت ذاته، أدركت مؤسسات القطاع العام إمكانات الذكاء الاصطناعي في المجالات المتخصصة كالدفاع واستكشاف الفضاء، لكنها واجهت صعوباتٍ في توسيع نطاق هذه التطبيقات بسبب البنية التحتية المكلفة والقدرات الحاسوبية المحدودة والعزوف العام عن تمويل هذا المجال، الذي كان يُعدُّ حينذاك عالي المخاطر وقليل الجدوى.
وعلى مدى العقد الماضي، تصدر الذكاء الاصطناعي الكثير من النقاشات الدولية في مجالات السياسة والاقتصاد والرفاه الاجتماعي. فقد دخلت هذه التكنولوجيا مختلف القطاعات. ومع هذا التوسّع، بات الذكاء الاصطناعي رافعة استراتيجية في مجالي التجارة والجغرافيا السياسية، ما أثار جدلاً حول الأطر التنظيمية المتعلقة باتخاذ القرار المؤتمت وتقنيات التعرف إلى الوجوه، فضلاً عن كيفية حوكمة ابتكارات جديدة مثل الذكاء الاصطناعي التوليدي. وتحظى الشركات الناشئة في مجالات الروبوتات والمركبات الذاتية القيادة والرعاية الصحية المتقدمة باستثمارات قياسية، في دلالة على حماسة السوق وإدراكه آثار الذكاء الاصطناعي الثورية. لكنّ هذا النمو السريع أفضى أيضاً إلى اتساع دائرة التوترات حول حوكمة البيانات، خصوصاً فيما يتعلق بالتدفقات العابرة للحدود وسيادة البيانات الرقمية، وهو تحدٍّ تتعامل معه الحكومات في شتى أنحاء العالم في أثناء سعيها للموازنة بين المصالح الوطنية ومزايا الاقتصاد الرقمي المترابط. وهناك العديد من التجارب على مستوى الدول التي يمكن أن تقدّم رؤى قيّمة حول استخدام الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع:
المملكة المتحدة
نجحت المملكة المتحدة في ترسيخ مكانتها بوصفها مركزاً للابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي داخل أوروبا. ويعود الفضل في ذلك إلى نظامٍ جامعيٍّ متين تحتضنه مؤسسات مرموقة مثل جامعة أكسفورد وجامعة كامبريدج وإمبريال كوليدج لندن، ما يوفّر بيئة خصبة للمواهب والأبحاث. وقد أطلقت الحكومة ما يُسمَّى "الاتفاقية الخاصة بقطاع الذكاء الاصطناعي" (AI Sector Deal) ضمن استراتيجيتها الصناعية الأشمل لدعم الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي، وتطبيق أطر أخلاقية، واجتذاب الشراكات الدولية. وتعتمد مشروعات التكنولوجيا المالية المزدهرة في لندن على تحليلات الذكاء الاصطناعي وتقييم المخاطر لتقديم منتجات مالية جديدة.
وعلى الصعيد التنظيمي، تنخرط المملكة المتحدة بفاعلية في وضع أطر سياسات توازن بين الابتكار وحماية المستهلك. فالمؤسسات الفكرية مثل معهد آلان تورينغ (Alan Turing Institute) تعمل جنباً إلى جنب مع صانعي القرار لبلورة إرشادات حول الاستخدام المسؤول للذكاء الاصطناعي، بغية الحفاظ على القدرة التنافسية للمملكة المتحدة والتخفيف في الوقت نفسه من الأضرار الاجتماعية المحتملة. وفي ظل مرحلة ما بعد "بريكست"، يحافظ الذكاء الاصطناعي على موقعه ركيزة استراتيجية لتحافظ المملكة المتحدة على نفوذها الاقتصادي عالمياً.
اقرأ أيضاً: كيف يؤثّر نقص بيانات التدريب في كفاءة نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي؟
الولايات المتحدة
لا تزال الولايات المتحدة تتمتّع بدورٍ قياديٍّ في أبحاث الذكاء الاصطناعي بفضل منظومتها الثرية برأس المال المغامر، ووجود تجمعات تكنولوجية عملاقة. ويُعدّ وادي السيليكون بؤرة للمشروعات الناشئة في الذكاء الاصطناعي على الصعيد العالمي، ويحظى بدعمٍ من مؤسّسات أكاديمية مرموقة مثل معهد إم آي تي وجامعة ستانفورد وجامعة كارنيغي ميلون، كما توفّر عدة وكالات حكومية، مثل وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة داربا (DARPA)، تمويلاً استراتيجياً لأبحاث الذكاء الاصطناعي، انطلاقاً في الأساس من دوافع الأمن القومي.
وعلى الساحة السياسية، تدور نقاشات محتدمة بشأن خصوصية البيانات والمراقبة بالذكاء الاصطناعي ومستقبل العمل. وقد تبنّت بعض الولايات، وعلى رأسها كاليفورنيا، قوانين خصوصية مثل قانون حماية خصوصية المستهلك (CCPA)، ما ينعكس على معايير حوكمة البيانات ويمتد تأثيره إلى المستوى الوطني والدولي. واقتُرِح أيضاً ما يُسمَّى “وثيقة الحقوق الفيدرالية للذكاء الاصطناعي”، لتُثير جدلاً محتدماً حول التحيّز والشفافية والمساءلة، وتُسلّط الضوءَ على تعقيدات تنظيم التكنولوجيا سريعة التطوّر.
الاتحاد الأوروبي
اتّبع الاتحاد الأوروبي نهجاً أكثر تحفظاً وتركيزاً على الإنسان في تعامله مع الذكاء الاصطناعي. فاستناداً إلى نجاح اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR)، اقترح واضعو السياسات الأوروبيون ما يُعرف بـ "قانون الذكاء الاصطناعي" (Artificial Intelligence Act)، الذي يُصنِّف تطبيقات الذكاء الاصطناعي وفقاً لمستويات المخاطر المحتملة على أمن المواطنين وحقوقهم الأساسية. ويعكس ذلك تركيز أوروبا على الحوكمة والخصوصية والاعتبارات الأخلاقية، في مقابل النهج المتحرر في بعض المناطق الأخرى.
ورغم القيود التنظيمية الصارمة، تمتلك أوروبا قوة عاملة متعلّمة وأسواقاً رقمية واسعة وصناعات متقدمة. ففي ألمانيا، تتصدر مبادرات التصنيع (الصناعة 4.0) المشهد التقني، بينما تدعم فرنسا أبحاث الذكاء الاصطناعي عبر مبادرات مثل استراتيجية "الذكاء الاصطناعي لخدمة الإنسانية" (AI for Humanity). ومع ذلك، فإن التباين بين الدول الأعضاء، وبطء الإجراءات بسبب البيروقراطية، وشُح رؤوس الأموال الاستثمارية مقارنة بالولايات المتحدة أو الصين، يظل من أبرز العوائق أمام بناء قوة أوروبية موحّدة في مجال الذكاء الاصطناعي.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن أن تستفيد الشركات العربية الناشئة من قانون الاتحاد الأوروبي لتنظيم الذكاء الاصطناعي؟
منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تنظر دولٌ كالإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية إلى الذكاء الاصطناعي على أنه محرّك رئيسي لتنويع اقتصاداتها. وتسعى دبي لتكون مركزاً عالمياً للذكاء الاصطناعي، بدمجه في الخدمات الحكومية وقطاع النقل والسياحة. وفي السعودية، تضم مدينة نيوم NEOM مشروعات المدن الذكية، التي تعتمد بدرجة كبيرة على النُظم الروبوتية وتقنيات الذكاء الاصطناعي.
وعلى الرغم من الاستثمار الكثيف في دول الخليج، يبقى تبنّي الذكاء الاصطناعي متفاوتاً في بقية أرجاء المنطقة. فثمّة دولٌ تعاني تحديات هيكلية مثل ضعف البنية التحتية وقصور الثقافة الرقمية والضبابية التنظيمية. ومع ذلك، تتزايد الرغبة في الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي في مجالات الزراعة (خصوصاً إدارة الموارد المائية) والصحة العامة والخدمات المالية، وهي قطاعات يمكن أن تجني فوائد جمّة من القرارات القائمة على البيانات.
اقرأ أيضاً: مقوّمات نجاح الشركات المبتكِرة في مجال الروبوتات في السعودية
توصيات
يقف الذكاء الاصطناعي عند مفترق طرق يجمع بين وعوده العظيمة وتحدّياته الملموسة، إذ يحرّك عجلة النمو الاقتصادي ويكشف في الوقت ذاته عن فجوات عميقة في شتى أنحاء العالم. ومع نمو هذه التقنية وتطوّرها، تتصاعد قدرتها على إعادة تشكيل الصناعات والتأثير في القرارات السياسية. كما تُظهر مسيرة الذكاء الاصطناعي، التي اتسمت بأوقات شهدت فيها طفرة في التطوير وأخرى انحسرت فيها الاستثمارات، أن التقدم ليس مضموناً ولا هو موزّع بالتساوي. ومن ثَمَّ، تقع على عاتق الدول مسؤولية إدراك الخلل البنيوي الذي قد يُحدِثه توظيف حلول الذكاء الاصطناعي دون مراعاة كافية لنقص البنى التحتية والفراغات التنظيمية واحتياجات المجتمع.
وفي مواجهة هذه التحديات، تتضاعف أهمية انتهاج سياسات اقتصادية شاملة، وتطوير التعليم بصورة مستمرة، والاعتماد على أنظمة تنظيمية مبنية على أسس علمية. كما يمثّل تنسيق الأطر القانونية عبر مختلف الولايات القضائية، مع تشجيع الابتكار، مساراً فعّالاً لتحقيق إدماجٍ أكثر إنصافاً للذكاء الاصطناعي. وبالمثل، يوسّع دعم الشراكات بين القطاعين العام والخاص آفاق البحث والتطوير، بما يضمن توظيف ابتكارات الذكاء الاصطناعي في مواجهة القضايا المجتمعية المُلحّة، من الرعاية الصحية والتغيّر المناخي إلى التعليم والبنى التحتية. ويبقى العامل الجوهري في كلِّ ما سبق هو غرس مبادئ أخلاقية تتمحور حول الإنسان في صلب كلِّ تطبيق للذكاء الاصطناعي، ما يكفل الشفافية والمساءلة في كيفية إعادة تشكيل هذه التقنيات للمجتمعات والمشهد العالمي. ومن خلال التوفيق بين الطموح والمسؤولية والتعاون، يستطيع صانعو السياسات وقادة الصناعات ومؤسسات المجتمع المدني توجيه الذكاء الاصطناعي نحو مستقبل يحقّق الازدهار الجماعي دون التفريط بالحقوق الفردية أو القيم الديمقراطية.