يبدو أننا على أعتاب عصر حيث يعيش فيه البشر خارج كوكب الأرض (أو كما يطلق عليه البعض "النقطة الزرقاء الباهتة"، نسبة إلى صورة فوتوغرافية لكوكبنا التقطها مسبار من مسافة معينة)، فوفقاً لبعض الوثائق المسربة مؤخراً من "الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء الأميركية" (ناسا)، تأمل الوكالة في بناء قاعدة على القمر بحلول عام 2028. ستسمح لنا تلك المستوطنة باختبار المهارات والأدوات التي سنحتاج إليها للوصول إلى كوكب المريخ، وذلك حسب "ناسا"، ولا أحد يعلم حينها إلى أين سنذهب من هناك، وفيما إذا يمكن لمستوطني ورواد الفضاء تتبع الوقت؟
مشكلات استيطان الفضاء الخارجي
هناك عقبات تقنية كبيرة أمام إنشاء مستوطنات فضائية وإطلاق رحلات لأجل طويل، فمثلاً، كيف سينتج البشر الغذاء؟ وأين ستذهب النفايات التي سنخلّفها؟ غير أن هناك عقبات مجردة ولوجستية والتي نعتبرها أمور مسلم بها هنا على كوكب الأرض، وأحد تلك الأمور التي سنحتاج إلى معرفتها هو كيفية تتبع الوقت من الفضاء.
قد يبدو الحل جلياً، فما عليك سوى حمل ساعة وتقويم زمني وتمييز الأيام! هذه هي الطريقة التي تتعامل بها مستوطنة الفضاء الوحيدة التي تعمل بدوام كامل مع الوقت، وهي محطة الفضاء الدولية، التي يعمل طاقمها على توقيت غرينتش، ومن خلال تواصلهم الوثيق مع الأرض، يحصلون على معلومات محدّثة بشأن الزمن.
ولكن هناك تحديات أمام إبقاء قاطني الفضاء على نظام ضبط الوقت المرتبط بالأرض، وأول تلك التحديات هو أن التطبيق العملي لاستخدام نظام ضبط الوقت يتجاهل واقعك المحلي. إن إبقاء رواد الفضاء على نظام الـ 24 ساعة، أي النظام القائم على توقيت غرينتش، يسهّل التحكم بمجريات الأمور على الأرض، لكنه يؤثر سلباً على نوم رواد الفضاء، حيث يضيع إيقاعهم اليومي خلال دورة الضوء غير المنتظمة نسبياً، إذ تدور محطة الفضاء الدولية دورة كاملة حول الأرض كل 90 دقيقة، لذلك على مدار "يوم" الأرض المعتاد الذي يستغرق 24 ساعة، يرى الطاقم 16 شروقاً وغروباً للشمس.
بينما يمكن لرواد الفضاء البقاء هناك لعدة أشهر في كل صعود لهم، إلا أن هذا الوضع لا يدوم في محطة الفضاء الدولية إلى الأبد. وقد يتّبع مستوطنو الفضاء الذين ينشئون قواعد في أماكن أبعد الوقت والتقاويم المتبعة على الأرض أثناء إنشائهم للمجتمعات الجديدة، ولكنهم قد يحتاجون إلى إيجاد حل دائم أكثر ملاءمة لحياتهم مع مرور الوقت.
قدم الفلكيون وكتّاب الخيال العلمي وهواة الفضاء المتحمسون مجموعة من المقترحات لأنظمة جديدة من أجل ضبط الوقت للمستوطنات الفضائية المحتملة. وبما أن كوكب المريخ يحمل نوعاً من الإثارة لأولئك الذين يحلمون ببناء مستوطنات في الفضاء، فإنه بعيد وغامض بما يكفي لكي يتخيل المرء المستوطنين الذين سيعيشون هناك فترة طويلة. من المؤكد أنهم سيطورون أنظمتهم الخاصة.
كيفية تتبع الوقت من الفضاء الخارجي
طرح توماس جانجل، مبتكر تقويم داريان، تصميمه عام 1985، وتم استخدامه من ذلك الحين في العديد من كتب الخيال العلمي بما فيها "رواية لص الكوانتم" (The Quantum Thief) للمؤلف هانو راجانيمي، وضمن رواية "إدارة عمليات التحقيق الزمني" (Department of Temporal Investigations) ضمن "سلسلة روايات "ستار تريك" (Star Trek)، التي تؤرخ مغامرات إحدى الوكالات التي تحقق في السفر عبر الزمن.
يقول جانجل: "إذا أردنا إرسال البشر إلى المريخ والاستقرار هناك، فسوف يحتاجون إلى حساب الوقت وفقاً للإيقاعات الطبيعية لذلك الكوكب". ويعمل نظام جانجل على تكييف طرقنا التقليدية في ضبط الوقت مع دوران المريخ ومداره الشمسي. وبينما تدور الأرض مرة كل 23 ساعة و56 دقيقة، إلا أن دوران المريخ أطول قليلاً، فاليوم هناك يقرب إلى 24 ساعة و40 دقيقة وهي وحدة يطلق علماء الفلك عليها اسم "سول" (sol. Mars). يُقدر مدار كوكب المريخ الشمسي بحوالي ضعف مدار كوكب الأرض، ويستغرق 687 يوماً من أيام الأرض المقدرة بـ 365 يوماً، وبتحويل ذلك الرقم إلى وحدة سول تكون النتيجة 668 سولاً.
يمكننا ترك قياس الزمن على مستوى وحدة سول فحسب، وتشير بعض مقترحات تقويم المريخ إلى ذلك في الواقع. وهنا على كوكب الأرض، يحدد تقويم يوليان (Julian calendar) رقماً لكل يوم من أيام الأرض منذ 1 يناير/كانون الثاني 4713 قبل الميلاد، وهو "اليوم 0"، ما سهل حساب معالم إرشادية مهمة قائمة على اليوم مثل تواريخ انتهاء صلاحية الأطعمة، "وفي يوليو/تموز 2019 سنكون في اليوم 2,458,600 بحسب تقويم يوليان".
وسيعمل تقويم المريخ القائم على وحدة سول على نحو مشابه مع بدء التعداد من "اليوم 0" الذي نحتاج إلى اتخاذ قرار بشأنه. يقول جانجل إنه ربما يمكننا افتراض أن بداية أي تقويم للمريخ سيكون في تاريخ أول مراقبة تلسكوبية رصدها جاليليو للمريخ، التي كانت في يناير/كانون الثاني من عام 1610. أو ربما يتزامن "اليوم 0" مع معالم مهمة أخرى على كوكب المريخ، مثل أول إقلاع ناجح إلى الكوكب عبر "مسبار مارينر 4" في تاريخ 14 يوليو/تموز 1965، أو أول هبوط على سطح المريخ عبر "مسبار مارس 2" في تاريخ 27 نوفمبر/تشرين الثاني 1971.
لكننا نحن البشر مخلوقات نحب اتباع روتين ثابت، ومن المحتمل أن نبني مجتمعات تتمحور حول بعض القيم والتقاليد ذاتها التي لدينا هنا على الأرض. يقول جانجل: "يفشل الكثير من علماء الفلك في الأخذ بعين الاعتبار النواحي المجتمعية لضبط الوقت؛ إنهم يركزون جميعاً على علم الفلك فقط، ولكن ما يهم أيضاً هو الناس وكيف سيستخدمون الوقت".
من المحتمل أن نرغب في اعتماد معايير الأسابيع والأشهر لتتبع المعالم الاجتماعية والاجتماعية الاقتصادية، مثل أيام العطلات وأعياد الميلاد والمواعيد التي تستحق فيها المدفوعات وعطلات نهاية الأسبوع وتقارير المستثمرين الفصلية والتخطيط للإجازات ومواسم الزراعة. ذكر "جانجل" أنه قد استهوته في البداية فكرة مزامنة أشهر المريخ مع حركة قمريه، والطريقة التي ترتبط بها أشهر الأرض مع مدار القمر الذي يستمر 27 يوماً، لكنها لم تكن عملية، فالقمر "فوبوس" (Phobos) يدور حول المريخ ثلاث مرات في اليوم، ويكمل "ديموس" (Deimos) مداره مرة كل 30 ساعة.
يردف "جانجل" قائلاً: "المدة قصيرة جداً لاستخدامها كأساس لتقسيم السنة إلى فترات يمكن الاستفادة منها". وعوضاً عن ذلك، قسّم السنة (السنة التي تعادل 668 يوماً من أيام الأرض) إلى 24 شهراً من 27 أو 28 سولاً لكل منها، ولكل شهر أربعة أسابيع مدتها سبعة أيام. تم تسمية أيام الأسبوع على اسم الأجرام السماوية في نظامنا الشمسي؛ أي أن أسماء الأشهر تتناوب بين أسماء لاتينية وسنسكريتية لمجموعات نجوم الأبراج.
أسماء الأيام والأشهر الجديدة ممتعة ولكنها مفيدة أيضاً، لأنه باستخدام أسماء مميزة يتجنب مستوطنو كوكب المريخ الخلط بينها وبين أوقات الأرض "التي ستكون مهمة، لأنك سوف تبدل بينها ذهاباً وإياباً"، على حد قول "جانجل". فالثلاثاء على سطح كوكب المريخ لن يتزامن دائماً مع يوم الثلاثاء ذاته على الأرض، وقد يحّل شهر يناير/كانون الثاني على أحد الكوكبين بينما يحّل شهر مارس/آذار على الكوكب الآخر. ومثلما أُطلق على يوم المريخ "سول"، يمكن للمستوطنين في المستقبل الخروج بمصطلحات مختلفة لكل من "الشهر" و"السنة" أيضاً، وذلك من أجل التمييز التام عن نظام الأرض.
قد تطور المستوطنات الفردية أعرافاً خاصة وفقاً للمحددات المحلية. إذ عمل "جانجل" على تكييف تقويم "داريان" لأقمار كوكب المشتري "آيو" و"جانيميد" و"كاليستو" و"يوروبا"، وقمر كوكب زحل "تيتان"، الذي قد يكون مركز الاستيطان البشري التالي بعد كوكب المريخ. وبالنسبة إلى المستوطنين الذين سيقيمون بالقرب من الأرض (أي على الكوكب الأقرب إليه)، فإنّ "مجموعة لونار كلوك" (LunarClock.org) غير الربحية تؤيد اعتماد التوقيت النموذجي للقمر والتقويم القمري، حيث تتكون السنة من 12 "يوماً" (مماثلة لأشهر الأرض) يُسمى كل منها باسم شخص سار على سطح القمر، ومقسم إلى 30 "دورة" (مماثلة لأيام الأرض) المكونة من 24 ساعة قمرية.
ضبط التوقيت بين كوكب الأرض والفضاء الخارجي
يتمثل التحدي الآخر الذي سيواجهه المستوطنون في تطوير بدائل لوقت الأرض هو "ضبط" الوقت، حيث يُقاس الوقت على الأرض بواسطة ساعات ذرية ثابتة للغاية، والتي تنحرف بمقدار ثانية واحدة فقط كل 15 مليار سنة، لكنها لسوء الحظ بحجم الثلاجات. تضبط المركبات الفضائية الوقت على متنها باستخدام مذبذبات مستقرة للغاية، تسمى اختصاراً "يو إس أو" (USO)، والتي تسمح للمركبة الفضائية بالتخطيط وتنفيذ المناورات، لكنها "ليست مستقرة ’حقاً‘، إذ إنها تنحرف مع مرور الوقت" كما يقول جيل سوبرت، مستكشف الفضاء البعيد في "وكالة ناسا".
تم استخدام أول مذبذب من ذلك النوع في المسبار الفضائي "فوياجر" في سبعينيات القرن الماضي، وما زال يُستخدم في الأقمار الاصطناعية حتى يومنا هذا. حتى فيما يخص يوم الأرض، ينبغي إعادة تقويم تلك الأقمار الاصطناعية لضمان دقة التقنيات مثل تقنية "النظام العالمي لتحديد المواقع" (جي بي إس) قدر الإمكان، إذ إنّ توقفها عن العمل بمقدار جزء من المليون من الثانية قد يعني وجود تباين في نظام "جي بي إس" بمئات الأمتار.
يعالج المهندسون حالياً هذه المشكلة من خلال التحويل بين التوقيت الدقيق للأرض وقراءات الـ "يو إس أو" للمركبات الفضائية. ولكن مع تعمقنا في الفضاء أو الحاجة إلى إجراء مناورات لحظية، فإن الاعتماد على توقيت الأرض سوف يصبح مرهقاً بسرعة. وفي حين أن الفارق بين الأرض والقمر ليس أكثر من ثانية واحدة، إلا أن هذا الفارق يتمدد ليصبح بين 7 و22 دقيقة بين الأرض وكوكب المريخ، وهذا يتوقف على الأوضاع النسبية للكوكبين، والتي تختلف خلال دورانها. يقول سوبرت، وهو نائب الباحث الرئيسي لفريق من مهندسي "وكالة ناسا" في "مختبر الدفع النفاث" الذي يبني أول ساعة ذرية لتُستخدم في الفضاء: "في الوقت الحالي، تطفو كل مركبة فضائية موجودة هناك في الفضاء البعيد بمساعدة طاقم موجود على سطح الأرض. إننا نحسب تسوية المسارات على الأرض ونحمّلها على نظام المركبة الفضائية".
ولكن عوضاً عن الاعتماد على الاتصالات مع الأرض، يمكن أن تحمل المركبات الفضائية ساعاتها الذرية الخاصة، ما يتيح لها ضبط التوقيت المحلي على نحو أكثر دقة وحساب مواقعها الخاصة وتنفيذ المناورات دون مساعدة من أي طاقم على سطح الأرض. في أواخر يونيو/حزيران من العام 2019، تم تحميل ساعة ذرية مخصصة للفضاء البعيد لرحلة على متن صاروخ "سبيس إكس"؛ وابتداء من شهر أغسطس/آب، بدأ علماء "مختبر الدفع النفاث" تقييم الساعة لمدة عام كامل من أجل تحديد ثباتها.
التقنيات اللازمة لاستيطان الفضاء الخارجي
بالإضافة إلى ذلك، سيكون من الضروري وجود تقنيات أخرى لازمة لاستيطان الفضاء؛ تماماً مثل ضبط الوقت ونظام "جي بي إس" المحلي. إذ كثيراً ما تعرض أفلام الخيال العلمي رواد الفضاء يتجولون على سطح القمر أو كوكب المريخ وهم يحملون شاشة معروض عليها خريطة تُظهر تقدمهم. هذا غير ممكن في الوقت الحالي، ولكن يمكن أن توفر ساعة ذرية موجودة في الفضاء البعيد الدقة اللازمة للوقت والموقع لدعم التتبع لذلك الزمن الفعلي.
إن معظم أفكار ضبط الوقت في الفضاء التي ظهرت حتى اليوم هي أفكار مشابهة لما نقوم به هنا على الأرض. قد لا يكون طرحي عملياً، ولكن ربما يستغل المستوطنون فرصة مغادرة كوكبنا لاستحداث أعراف جديدة تماماً، إذ يمكننا إلغاء الأسابيع والأشهر والسنوات جميعها، ونعتمد بدلاً من ذلك على الأيام المحلية فقط، مثل "نظام ستارديت" المستخدم في "سلسلة ستار تريك" أو تقويم المريخ القائم على وحدة سول. أو إذا حاولنا أن نكون أكثر تمرداً على السائد، فربما يتّبع المستوطنون في الفضاء نهج بلدة سوماروي الواقعة في منطقة القطب الشمالي لإلغاء الوقت تماماً.
إذ مع مرور أشهر من الظلام يتبعها أشهر من ضوء الشمس، يفتقر أولئك المواطنون النرويجيون إلى دلائل نمطية مرتبطة بـ "اليوم"، وهو أمر من المحتمل أن يختبره المسافرون عبر الفضاء في رحلات طويلة تمتد لسنوات، أو المستوطنون على أراض جديدة على حد سواء.
في مقابلة على "موقع جيزمودو"، تحدث مواطن من بلدة سوماروي يدعى كجيل أوف هفيدينج عن حكم الساعة الاستبدادي، وقال: "عليك الذهاب إلى العمل، وحتى بعد العمل فإن الانشغال بالساعة يأخذ وقتك، إذ عليك فعل هذا وذاك. ومن حكم تجربتي، أرى أن "الناس" قد نسوا كيف تكون العفوية، فعليهم اتخاذ قرارات بشأن الطقس الجيد والشمس المشرقة، لماذا لا نعيش فحسب! في الفضاء، قد لا تكون الشمس مشرقة وقد لا يكون الطقس جيداً، ولكن في حال فكرنا جيداً فإننا سنصل إلى الخلاصة ذاتها، وهي أننا نود العيش فقط، مع إمكانية تتبع الوقت من الفضاء الخارجي.