قبل ثلاثين عاماً، وتحديداً يوم 15 يونيو 1991، ثار بركان جبل بيناتوبو في الفلبين بقوة هائلة لدرجة أنه أصبح ثاني أكبر ثوران بركاني في القرن العشرين. ولمدة تسع ساعات متواصلة، ظلت فوهة البركان تقذف الرماد والغاز إلى الغلاف الجوي بقوة كبيرة حتى اخترق عمود الرماد البركاني طبقة الستراتوسفير التي تمتد من نحو 10 كم إلى 50 كم فوق سطح الأرض. وبحسب وكالة ناسا، فقد حقن البركان أكثر من 15 مليون طن من ثاني أكسيد الكبريت في الستراتوسفير. وتسبب تفاعل الغاز مع الماء في تشكيل طبقة ضبابية من جسيمات الهباء الجوي المكونة أساساً من حمض الكبريتيك. وعلى مدار العامين التاليين، نشرت رياح الستراتوسفير القوية هذه الجسيمات حول العالم.
فكرة من قلب البركان
هندسة المناخ عبر تبييض السحب
لنعد بالزمن عاماً واحداً إلى الوراء. في عام 1990، زعم عالم فيزياء السحب جون لثام، أن كمية الإشعاع الشمسي التي تعكسها السحب يمكن أن تزداد عن طريق تعزيز جسيمات الهباء الجوي الموجودة في السحب بجسيمات الملح البحري. لم تحظَى هذه الدراسة باهتمام كبير حينها، ولكن مع مرور الوقت ومع تزايد خطر التغير المناخي، بدأت فكرة تبييض السحب البحرية (Marine Cloud Brightening) -كما يُطلق عليها الآن- تحظى باهتمام متزايد من المجتمع العلمي، باعتبارها تمثل نهجاً واعداً لتعديل مناخ الأرض بشكل مقصود (أي "التدخل المناخي" أو "هندسة المناخ") من أجل مواجهة الاحترار العالمي الناجم عن الأنشطة البشرية.
وانطلاقاً من هذا المبدأ، تسعى تقنية تفتيح السحب البحرية إلى جعل السحب أكثر بياضاً من خلال تعزيز تركيز القطيرات الأصغر حجماً. ولتحقيق ذلك، يقترح مؤيدو الفكرة إطلاق كميات كبيرة من الجسيمات المجهرية، مثل رذاذ الملح البحري، في السحب البحرية. ستعمل هذه الجسيمات كنوى تكاثف للسحب (CCN): سوف تتجمع جزيئات بخار الماء حول نوى التكاثف لتشكيل قطيرات دقيقة.
بشكل عام، تؤدي الزيادة في أعداد هذه النوى إلى زيادة عدد قطيرات السحابة مع تقليل حجمها. ومن خلال ظاهرة تُعرف باسم تأثير تاومي (Twomey effect)، يعزز هذا التركيز العالي للقطرات انعكاسية السحب. وفي الأجزاء النائية من المحيط، تكون معظم شبكات نوى تكاثف السحب ذات أصل طبيعي وتتكون في الغالب من ملح البحر الناتج عن تحطم أمواج المحيط.
اقرأ أيضاً: نظام ذكاء اصطناعي من ديب مايند يتنبأ بموعد ومكان هطل الأمطار بدقة مذهلة
ولكن.. كيف سنقوم بتوصيل هذه الجسيمات إلى السحب؟
أبرز المقترحات هو حقن الهباء الجوي في طبقات السحب البحرية المنخفضة عن طريق رش مياه البحر من فوهات عشرات الآلاف من السفن التي تجوب مياه المحيطات يومياً. يتساءل العلماء: ماذا لو قللت هذه السفن من انبعاثاتها من الملوثات السامة التي تساهم في زيادة الاحتباس الحراري وأطلقت جسيمات تجعل السحب أكثر بياضاً؟
ويشير القائمون على المشروع إلى أن هدفهم هو تطوير تقنية رش يمكنها أن تولد أحجاماً وكميات مضبوطة من جسيمات مياه البحر الصغيرة التي تقل أحجامها عن الميكرومتر بأعداد كافية لزيادة تبييض السحب المنخفضة في البيئة البحرية. ثم إجراء تجارب ميدانية محدودة المساحة باستخدام تقنية الرش هذه، لتوفير فهم جديد للتفاعلات التي تحدث بين الهباء الجوي والسحب، مع إمكانية التحكم في جسيمات الهباء الجوي ونمذجتها وقياس تأثيراتها بدقة.
ويقول باحثو المشروع إن السفن عند إبحارها تترك وراءها "مسارات للسفن" أو سحب بيضاء مالحة (يمكن رؤيتها بوضوح في الصورة السابقة)، وتعكس هذه السحب قدراً أكبر بكثير من ضوء الشمس إلى الفضاء مقارنة بغيرها.
وبعيداً عن الولايات المتحدة، أُجريت العديد من التجارب الأخرى على مستوى العالم لتنفيذ هذه الفكرة بشكل عملي. ومن ضمن هذه المحاولات اختبار تم إجراؤه العام الماضي من قبل تحالف مكون من أربع مؤسسات بحثية أسترالية، هي جامعة ساوثرن كروس ومعهد سيدني للعلوم البحرية (SIMS) وجامعة سيدني وجامعة كوينزلاند للتكنولوجيا (QUT). ويعرض المقطع التالي مشاهد من عملية اختبار المعدات التي طورها باحثو التحالف بالاشتراك مع شركة إيمي كونترولز (EmiControls) الإيطالية، لرش مياه البحر -بعد تفتيتها إلى قطيرات صغيرة- وضخ تريليونات منها في الثانية الواحدة، في السحب الموجودة في طبقة الحدود الكوكبية (PBL) الواقعة فوق الحيد المرجاني العظيم، بالقرب من ولاية كوينزلاند بشمال أستراليا.
اقرأ أيضاً: هل يمكن استلهام حلول لمشاكل حركة المرور الفضائية من أعالي البحار؟
عقبات في الطريق
تشير مجموعة ديفيد كيث البحثية بجامعة هارفارد إلى أن أبحاث تبييض السحب البحرية قيّمة، ويمكن أن تعلمنا الكثير عن الطرق التي يمكن أن تؤثر بها السحب على مناخنا. ومع ذلك، فإنهم يعتبرون أن المقترحات الحالية لتبييض السحب تنطوي على العديد من المخاطر الواضحة والتي تحتاج إلى فهمها بطريقة أفضل. على سبيل المثال، حتى لو نجحت عملية تبييض السحب البحرية في أن تقلل نظرياً من الإشعاع الشمسي الذي يصل إلى سطح الأرض، فإنها لن تقلل من تركيز غازات الدفيئة في الغلاف الجوي.
وقد تؤثر هذه التقنية على أنماط المناخ والطقس بشكل كبير إذا تم استخدامها على نطاق واسع بما يكفي لتعويض بعض تأثيرات تغير المناخ. كما أنه لا يمكن تبييض السحب البحرية سوى في مناطق محدودة (ربما 10٪ فقط من سطح الكوكب)، حيث توجد الأنواع المناسبة من السحب.