على غرار الكثير من الطلاب، عملت ليري في عدة وظائف بدوام جزئي. تبلغ ليري من العمر 23 عاماً، وتعمل في خدمة المطاعم والمقاهي في مكان قريب من جامعتها.
كما تبيع أيضاً السيارات، وتعمل في مجال التجارة بالتجزئة، وتجري مقابلات العمل وتقود جلسات تعريف الموظفين الجدد بالشركة والعمل كممثلة عن الموارد البشرية، في ألمانيا.
أما قدرة ليري العجيبة على القيام بكل هذه الأعمال في عدة بلدان، فتعود إلى أنها أجّرت وجهها لآور وَن، وهي شركة ناشئة تعتمد على الأشكال البشرية لبناء شخصيات قائمة على الذكاء الاصطناعي للظهور في مقاطع فيديو تسويقية وتعليمية للمنظمات حول العالم. وتمثل هذه الشركة جزءاً من موجة من الشركات التي بدأت بإحداث تغيير شامل في طريقة إنتاج المحتوى الرقمي. وسيؤثر هذا بدرجة كبيرة على القوى العاملة من البشر.
تعمل ليري بخدمة المطاعم والمقاهي شخصياً، لكنها لا تعرف بالضبط ما تقوم به نسخها الرقمية. وتقول: "لا شك في أنه من الغريب التفكير بأن وجهي يمكن أن يظهر في مقاطع فيديو أو إعلانات لشركات مختلفة".
ليست آور وَن الشركة الوحيدة التي تستخدم تكنولوجيا التزييف العميق على هذا المستوى لإنتاج مقاطع فيديو تجمع لقطات حقيقية مع مقاطع مولدة بالذكاء الاصطناعي. فقد استخدمت شركات أخرى ممثلين محترفين لإضفاء مسحة إضافية من الحياة على شخصيات المواد عميقة التزييف. غير أن آور ون لا تطلب وجود أي مهارات محددة. وليس مطلوباً منك سوى التخلي عن حقوق استخدام وجهك.
الاعتماد على الشخصيات
تبني آور ون مجموعة مما تطلق عليه "شخصيات". وتقول إنه أصبح لديها حوالي 100 شخصية، مع المزيد من الشخصيات الجديدة أسبوعياً. تقول ناتالي مونبيوت، مديرة الاستراتيجية في الشركة: "لدينا طابور طويل من الأشخاص المتشوقين للتحول إلى هذه الشخصيات الرقمية".
يستطيع أي شخص التقدم بطلب للتحول إلى شخصية. وعلى غرار وكالات عرض الأزياء، تفلتر آور ون الطلبات، وتختار الأشخاص الذين يتوافقون مع معاييرها. وتهدف الشركة إلى بناء طيف عريض من الشخصيات التي تعكس الأعمار والأجناس والخلفيات العرقية للناس في العالم الحقيقي، كما تقول مونبيوت. (حالياً، تتسم نسبة 80% من الشخصيات بأنها تحت سن الخمسين، كما أن 70% منها إناث، و25% منها بيضاء البشرة).
لبناء الشخصية، تستخدم آور ون كاميرا عالية الدقة 4K لتصوير الشخص وهو يتحدث ويفتعل العديد من التعابير المختلفة على وجهه أمام خلفية خضراء. وبعد هذه المرحلة، ينتهي الدور البشري في عملية الأداء. تقوم الشركة بعد ذلك بتلقيم البيانات في برنامج ذكاء اصطناعي يعمل بطريقة مشابهة للتزييف العميق، وتستطيع آور ون إنتاج كمية غير نهائية من مقاطع الفيديو لهذا الشخص وهو يقول أي شيء تريده الشركة، وبأي لغة.
يدفع عملاء آور ون الأموال لقاء استخدام شخصيات الشركة في مقاطع الفيديو الترويجية أو التجارية. ويقوم العميل باختيار وجه، وتحميل النص المرغوب، ويحصل على مقطع فيديو لما يبدو كأنه شخص حقيقي يلقي النص المطلوب أمام كاميرا. تعتمد أسرع خدمة على برنامج يحول النص إلى كلام منطوق لتوليد أصوات اصطناعية، حيث تُزامن هذه الأصوات مع حركات فم الشخصية وتعابيرها الوجهية. غير أن آور ون تقدم أيضاً خدمة ممتازة، يقوم فيها ممثلون صوتيون محترفون بتسجيل المقطع الصوتي. ومرة أخرى، هناك عملية مزامنة مع حركات الشخصية في الفيديو. تقول آور ون إنها اجتذبت أكثر من 40 عميلاً، بما في ذلك شركات عقارية، وشركات تجارة إلكترونية، ومؤسسات صحة رقمية، وشركات ترفيهية. أحد أهم عملاء آور ون هي بيرلتز، وهي مدرسة لغات عالمية تقدم دروساً مرئية يعلّم فيها الأساتذة عشرات اللغات.
ووفقاً لمونبيوت، فإن بيرلتز تريد زيادة عدد مقاطع الفيديو التي تقدمها، لكنها تواجه صعوبة في تحقيق هذا الأمر باستخدام ممثلين من البشر. فقد كانت فرق الإنتاج مضطرة إلى إعداد نفس البيئة مع نفس الممثل، مراراً وتكراراً، وتقول: "لقد وجدوا أن مواصلة العمل بهذه الطريقة أمر مستحيل. فهناك الآلاف من مقاطع الفيديو".
أما الآن، فتعمل بيرلتز مع آور ون لتوليد المئات من مقاطع الفيديو في ظرف دقائق معدودة. وتقول مونبيوت: "لقد حللنا محل الاستوديو، وليس من الضروري أن يضيع البشري وقته في التصوير".
ومن أوائل الأمثلة على هذه التكنولوجيا أليس ريسيبشينيست، وهي شركة تؤمن للشركات شخصيات رقمية على الشاشة للتعامل مع أسئلة الزوار، للحلول محل موظف الاستقبال في الكثير من المواقع الحقيقية في الولايات المتحدة. وتعمل آور ون مع أليس ريسيبشينيست على تحديث مقاطع الفيديو للممثلين البشر بحيث يمكن جعل موظف الاستقبال الرقمي يقول أشياء مختلفة بلغات مختلفة دون الاضطرار إلى إعادة تصوير ساعات طويلة من المقاطع.
وعلى غرار الآخرين في مجموعة آور ون، تتلقى ليري دفعة مالية صغيرة في كل مرة يقوم فيها أحد العملاء بترخيص مقطع فيديو يعتمد على وجهها. لم تفصح مونبيوت عن المقدار الدقيق لهذه الدفعات، لكنها قالت إنها تقدر بالدولارات، وليس بالسنتات. وتضيف: "لا أستطيع القول إن هذه الدفعات تكفي بالكامل لإعالة أي شخص، ولكنني أعتقد أنها ستكون وسيلة جيدة للحصول على دخل مقبول، إذا جرى كل شيء على ما يرام".
تؤدي هذه التكنولوجيا عملياً إلى التخلص من الحاجة إلى طواقم التصوير، وفنيي الاستوديوهات، وحتى الممثلين (باستثناء بضعة دقائق من التصوير)، ولهذا فإن تكنولوجيا آور ون رائعة للشركات التي ترغب بمضاعفة إنتاج مقاطع الفيديو، كما أنها تقدم طريقة سهلة للحصول على بعض المال لحفنة من الأشخاص مثل ليري. ولكن البعض يشعرون بالقلق من التأثيرات اللاحقة لهذا التوجه على مستقبل العمل.
تغيير الأدوار
تقول جيسي هامرلينج، من مركز أبحاث وتعليم العمالة في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، وتدرس تأثير التكنولوجيات الجديدة على العمل: "تبدو هذه حالة متطرفة بعض الشيء لتقليص التكنولوجيا لدور البشر في ناحية محددة في العمل". وتضيف: "لا تؤدي الأتمتة إلى إلغاء الأدوار البشرية على الدوام، لكنها تغير هذه الأدوار بطرق تؤثر في قدرة الناس على كسب أجور جيدة، أو تحويل عمل ما إلى مهنة طويلة الأمد".
تلحظ هامرلينج أن السماح للشركات باستخدام تصوير ملتقط لمرة واحدة لممثلين ضمن عدة مشاريع فيديو سيخفض من مستوى توافر هذا النوع من العمل التمثيلي. ووفقاً لساج-أفترا، وهو اتحاد أميركي للمؤدين في الأفلام والتلفزيون والراديو، فإن الكثير من الممثلين الذين يؤدون عملاً ترويجياً وتسويقياً لعملاء كهؤلاء يعملون الآن مع آور ون.
ويقول ساج-أفترا إنه من المهم بالنسبة لمن يؤجرون أشكالهم لشركات مثل آور ون أن يتمكنوا من الحفاظ على التحكم بكيفية استخدام أشكالهم.
ويقول أحد الناطقين باسم الاتحاد: "بالنسبة للكثير من المؤدين، فإن أشكالهم تمثل أصولاً قيّمة تستحق الحماية المناسبة والتعويض لقاء استخدامها". ويضيف: "هناك مخاطرة باستخدام هذه الأشكال ضمن محتوى قد يعترضون عليه أو قد يتعارض مع عمل آخر".
ويبدو أن آور ون تفهم هذا جيداً. وعلى الرغم من أن الشركة لا تأخذ برأي الأشخاص حول استخدام أشكالهم أو الكلمات التي ستنطق بها، فقد وضعت سياسة أخلاقية تحدد الصناعات التي ترفض العمل معها. تقول مونبيوت: "نحن متحفظون للغاية إزاء أنواع الشركات التي نعمل معها". وهذا يعني أن الشركة لا تتعامل مع شركات في مجال المقامرة، أو الجنس، أو السياسة.
ولكن ليري لا تشعر بالكثير من القلق. وتقول إنها تثق بأن آور ون لن تستخدم وجهها في أي شيء قد يضايقها. بل إنها نصحت أصدقاءها بتقليدها. وتقول: "لقد أرسل لي العديد من أصدقائي مقاطع فيديو رأوا وجهي فيها، ما أثار لدي شعوراً غريباً، وقد أدركت فجأة أن هذا الأمر حقيقي فعلاً".