في شهر مارس من عام 2007، أنفقت شركة جوجل مبلغاً وصل إلى نحو 3.1 مليارات دولار للاستحواذ على شركة البرمجيات دبل كليك (DoubleClick)، وقد لاقى هذا الاستحواذ اعتراضاً كبيراً من عدة جهات، من ضمنها المنظمات المعنية بحقوق الخصوصية الرقمية التي رأت أن عملية الاستحواذ ستمنح جوجل قدراً كبيراً من المعلومات حول ما يفعله الأفراد على الإنترنت، ومن ثَمَّ قدراً كبيراً من السلطة لتشكيل المحتوى الذي يتم إنشاؤه.
ولكن جوجل تمكنت في النهاية من إقناع الجهات التنظيمية بعملية الاستحواذ التي أصبحت حجر الأساس لما وصلت إليه الآن من قوة مالية وتكنولوجية، حيث تمكنت من خلال هذا الاستحواذ من احتكار شبه كامل لقطاع الإعلانات الرقمية عبر الإنترنت.
ولكن الآن بعد 17 عاماً من عملية الاستحواذ، تواجه شركة جوجل أخطر مرحلة في تاريخها والتي قد تطيح بها من عرش قطاع الإعلانات الرقمية، وذلك بعد رفع وزارة العدل الأميركية دعوى قضائية تزعم فيها بأن الشركة قد هيمنت بشكلٍ غير عادل على قطاع تكنولوجيا الإعلانات، ما أثّر سلباً في كلٍ من المعلنين والناشرين. فما هي أبعاد هذه القضية؟ وهل يمكن أن تؤدي نتيجة المحاكمة في حالة إدانة جوجل إلى تغيير مشهد الإعلانات عبر الإنترنت؟
اقرأ أيضاً: كيف نتعلم الابتكار على نهج جوجل؟
موجز عن دعوى وزارة العدل الأميركية ضد شركة جوجل بخصوص ممارساتها الإعلانية
في شهر يناير من العام الماضي 2023، رفعت وزارة العدل الأميركية دعوى قضائية ضد شركة جوجل ذكرت فيها أن الشركة انخرطت في ممارسات غير عادلة للحفاظ على احتكارها لمجموعة تكنولوجيا الإعلان، والتي تشمل مكونات مثل خوادم إعلانات الناشرين وتبادلات الإعلانات، حيث تُتهم جوجل بربط منتجاتها معاً بطريقة تجبر المستخدمين على الاعتماد على خدماتها حصرياً، ومن ثَمَّ زيادة التكاليف للمعلنين وتقليل الإيرادات للناشرين.
وفي ردها على الدعوى، ذكرت جوجل أن منتجات تكنولوجيا الإعلان الخاصة بها ببساطة أكثر فاعلية وسهولة في الاستخدام من منتجات منافسيها، وأكدت أن المعلنين والناشرين يختارون جوجل ليس بدافع الضرورة، ولكن بسبب الأداء المتفوق لأدواتها، كما أكدت أنها في طريقها لاستئناف الحكم بحجة أن هذا الحكم يقيد وصول المستهلك إلى الخدمات المفضلة.
اقرأ أيضاً: هل تحتكر جوجل عمليات البحث كما تقول وزارة العدل الأميركية؟
لماذا تُعدّ هذه اللحظة أخطر مرحلة في تاريخ شركة جوجل؟
على مر تاريخها، واجهت شركة جوجل المئات من الدعاوى القضائية التي فازت في بعضها وتم تغريمها في بعضها الآخر، ولكن أخطر الدعاوى القضائية ما تواجهه حالياً، والتي تستهدف بنيتها الأساسية ومصدر إيراداتها المربحة الرئيسية، وهي تقنية الإعلانات التي حققت لها أرباحاً وصلت إلى أكثر من 237 مليار دولار عام 2023.
ومصدر الخطورة هو أنه إذا تمكنت وزارة العدل من الفوز بهذه القضية، فهذا من شأنه أن يُجبر جوجل بناءً على الأوامر القضائية على إنشاء أدوات من شأنها أن تسمح لشركات الطرف الثالث باستخدام تقنية الإعلانات الخاصة بها، ومنحها إمكانية الوصول إلى عملائها، وقد يؤدي ذلك أيضاً إلى تفكيك منتجات الشركة المترابطة إلى كيانات منفصلة كلٌ يعمل بمفرده، ما يمنع مشاركتها البيانات مع بعضها بعضاً.
اقرأ أيضاً: هل نقسِّم الشركات التكنولوجية الكبيرة أم أن الأفضل هو إلزامها بمشاركة بياناتها؟
ما هي الآثار المترتبة على مستخدمي الإنترنت في حالة خسارة جوجل الدعوى القضائية؟
قد يؤدي الحكم ضد جوجل إلى:
- إعلانات أقل إزعاجاً: مع زيادة المنافسة، قد يتحفز المعلنون لإنشاء إعلانات أكثر جاذبية وأقل إزعاجاً، ما يؤدي إلى تجربة تصفح أكثر صلة.
- شفافية محسنة: قد يسمح تفكيك احتكار جوجل لتكنولوجيا الإعلان بهياكل تسعير أكثر وضوحاً وفهم أفضل لكيفية عمل الإعلانات، ما يعود بالنفع على المستهلكين وشركات الإعلان الأصغر.
- تجارب إعلانية متنوعة: قد يؤدي ظهور المزيد من اللاعبين في مجال تكنولوجيا الإعلان إلى تنوع في تنسيقات الإعلان واستراتيجيته، ما قد يحسّن رضا المستخدم بشكلٍ عام عن المحتوى عبر الإنترنت.
اقرأ أيضاً: كيف تعمل خرائط جوجل؟
لماذا ازدادت مؤخراً دعاوى مكافحة الاحتكار ضد شركات التكنولوجيا الكبرى؟
لسنوات عديدة تمكنت جوجل من التغلب والتحايل على العديد من دعاوى مكافحة الاحتكار، ما سمح لها بإنشاء إمبراطورية مترامية الأطراف تشمل العشرات من المنتجات والخدمات التي تتقاطع جميعها مع بعضها بعضاً. ولكن ارتباط هذه الخدمات والمنتجات مع بعضها كان السبب الذي جذب انتباه الجهات التنظيمية للضغط عليها ومحاولة تفكيكها.
وحقيقة الأمر فإن المسألة لا تتعلق بشركة جوجل وحدها، بل بشركات التكنولوجيا الكبرى جميعها والتي تُعرف باسم حراس الإنترنت (Gatekeepers of The Internet)، والتي أصبحت في مرمى الجهات التنظيمية. على سبيل المثال، تركّز معظم الدعاوى ضد شركات التكنولوجيا الكبرى على أن قوتها أصبحت مركزة للغاية. على سبيل المثال، احتكار جوجل سوق محركات البحث أو قيام شركة ميتا بجمع بيانات مستخدمي تطبيقاتها أو اعتماد الشركات الصغيرة بشكلٍ شبه كُلي على شركة أمازون، أو حتى التحكم المطلق الذي تتمتّع به شركة آبل على ما يتم تشغيله على الهواتف التي تصنعها، حيث يُجادل الذين يؤيدون تفكيك شركات التكنولوجيا الكبرى بأن ذلك سيؤدي إلى المزيد من المنافسة والمزيد من الخيارات.
على سبيل المثال، يمكن للمستهلكين التواصل عبر منصات الدردشة المختلفة دون الحاجة إلى التبديل في كل مرة، أو بدلاً من أن يضطر مطورو التطبيقات إلى دفع نسبة من مبيعات تطبيقاتهم إلى جوجل وآبل، سيكون هناك العديد من متاجر التطبيقات المتاحة وكّلها تتنافس لتقديم أفضل التطبيقات عن طريق خفض هامش ربحها.
اقرأ أيضاً: بينغ وجوجل: أين وصل صراع الجبابرة؟
هل سيؤثّر إجبار جوجل على تغيير ممارستها الإعلانية في سوق الإعلانات الرقمية؟
حالياً تُعدّ تكنولوجيا الإعلان الرقمي التي تقدّمها جوجل من أهم الأدوات التي تستخدمها شركات الإعلان عبر الإنترنت، وتعتبر أحد أهم أذرعها المربحة والنشطة جداً في جمع بيانات المستخدمين الشخصية. ونظراً إلى أن جوجل هي المالكة لهذه البيانات، فمن المحتمل جداً أن تبيعها إلى وكالات الإعلان الرقمي (Digital Advertising Agencies) التي سوف تستخدمها في مساعدة أعمالها التجارية على الوصول إلى المستهلكين عبر الإعلانات المستهدفة.
لهذا السبب يرى دعاة إجبار الشركة على التخلص من أجزاء من أعمالها في مجال تكنولوجيا الإعلان أن ذلك سيكون في صالح الشركات المنافسة التي ستكون أكثر حرصاً على تخصيص الإعلانات المستهدفة وجعلها أكثر تحديداً والمستخدمين من خلال جعل عملية استهدافهم بالإعلانات أكثر صعوبة، لأنهم سيكونون المالكين لبياناتهم الشخصية وليست شركة جوجل.
فمن المحتمل في حالة استخدامك محرك بحث جوجل أن تكون الشخص الوحيد الذي لديه حق الوصول الكامل إلى سجل التصفح، الذي يحتفظ بسجل المنتجات التي بحثت عنها واشتريتها، لأن بيانات التصفح ستكون غير متصلة مع بقية منتجات الشركة الأخرى مثل تطبيق الخرائط أو منصة يوتيوب.
بالإضافة إلى ذلك، قد تتضمن المعلومات الأخرى التي قد تكون مملوكة لك كيفية تنقلك إلى العمل ومقاطع الفيديو التي شاهدتها والبيانات الصحية التي جمعتها ساعتك الذكية، وربما مستقبلاً قد تحتفظ بهذه البيانات على خادم مشفر وستقدّم الشركات المختلفة تطبيقات لمساعدتك على تنظيم معلوماتك وإدارتها، وستواجَه بإعلانات مستهدفة أقل لأن كل خدمة تستخدمها ستكون منفصلة عن الأخرى.
اقرأ أيضاً: كيف تعمل جوجل على الحد من تأثير بوت تشات جي بي تي في محرك البحث الخاص بها؟
هل ستدفع رسوماً مقابل استخدام محرك بحث جوجل؟
على الرغم من أن تفكيك شركة جوجل قد يكون له فوائد عديدة للمستخدم، فإن المستخدم سيكون أول المستهدفين، وهذا يعود إلى أن جوجل ستفقد جزءاً كبيراً من إيراداتها الربحية التي تجلبها لها تقنيات الإعلانات وجمع البيانات التي تستخدمها، ومن ثَمَّ لتعويض هذا النقص قد ينتهي بها الأمر إلى فرض رسوم على المستخدمين مقابل الخدمات التي تقدمها.
وفي حين أن تفكيك جوجل قد يهدف إلى تعزيز المنافسة وخفض التكاليف في سوق الإعلان الرقمي، فإنه يفرض أيضاً مخاطر قد تؤثّر سلباً في الشركات الصغيرة والناشرين الذين يعتمدون على خدمات جوجل الإعلانية المتكاملة.
كما من المتوقع ألّا يؤدي حكم المحكمة النهائي إلى إعادة تشكيل عمليات شركة جوجل فحسب، بل قد يؤدي أيضاً إلى إنشاء سوابق مهمة لإنفاذ قوانين مكافحة الاحتكار ضد شركات التكنولوجيا الأخرى مثل آبل وأمازون وميتا، التي لديها أيضاً سوابق قضائية تتعلق بممارسات احتكارية ضمن نماذج عملها.
جدير بالذكر أنه من المتوقع أن يصدر الحكم المبدئي في قضية وزارة العدل ضد جوجل بشأن تكنولوجيا الإعلان الخاص بها بحلول نهاية العام الحالي 2024، بعد انتهاء المحاكمة بالمرافعات الختامية في 25 نوفمبر الماضي، وبعد هذه المرافعات ستستعرض القاضية المكلفة القضية وتصدر حكماً مكتوباً، وإذا كان الحكم لصالح وزارة العدل فقد يؤدي ذلك إلى عقد جلسات استماع أخرى لتحديد الحلول المناسبة والتي قد تشمل تغييرات كبيرة في عمليات الإعلان الخاصة بجوجل.