مع انتشار تطبيقات الذكاء الاصطناعي اللغوية مثل تشات جي بي تي وجيميناي، بدأت تغيرات طفيفة تظهر في طريقة الكلام المنطوق والكتابة. فهل بتنا نتبنى كلمات وتعابير مستوحاة من هذه النماذج في أحاديثنا ونصوصنا اليومية؟ تشير دراسات علمية حديثة إلى أن الإجابة قد تكون نعم، وإن كان التأثير تدريجياً وبطريقة غير مباشرة.
مفردات جديدة تتسلل إلى قاموسنا اليومي
من الملاحظ أن مصطلحات مرتبطة بالذكاء الاصطناعي دخلت سريعاً في أحاديثنا اليومية. على سبيل المثال، بات الناس يشيرون إلى "تشات جي بي تي" في الحوار اليومي: "سأستعين بتشات جي بي تي لإجابة هذا السؤال" أو "اسأل جيميناي"، وهو أمر لم يكن موجوداً قبل سنوات قليلة. كذلك، هناك عبارات شاعت بسبب استخدامها المتكرر من قبل النماذج اللغوية. فعلى سبيل المثال، اشتهرت عبارة "بصفتي نموذجاً لغوياً.." التي يكررها تشات جي بي تي تمهيداً لإجاباته عن مواضيع حساسة. هذه العبارة بالذات ظهرت في العديد من المنشورات على الإنترنت بالصدفة، حيث نسي بعض المستخدمين حذفها عند نسخ إجابة الآلة، لتصبح علامة فارقة تدل على المحتوى المولد بالذكاء الاصطناعي، بل وأصبحت محل سخرية وميم (meme) يتداوله المستخدمون على وسائل التواصل الاجتماعي، مثل هذا العريس الذي بدأ خطاب نذور زواجه بها.
الأمر لا يقتصر على ذكر اسم الأدوات أو عبارات معروفة منها، بل يتعداه إلى نوعية المفردات التي نستخدمها. تشير دلائل إلى أن اللغة التي تنتجها النماذج اللغوية الكبيرة بدأت تتغلغل في طريقة تعبيرنا. فمنذ إصدار تشات جي بي تي في أواخر عام 2022، أصبحت بعض الكلمات الإنجليزية الرسمية تظهر بوتيرة أعلى في أحاديث ومقالات الناس.
وقد رصدت دراسة حديثة من معهد ماكس بلانك في ألمانيا هذا التأثير عبر تحليل 280 ألف نص تفريغ لمقاطع فيديو (لخطب ومحاضرات أكاديمية باللغة الإنجليزية). وجدت الدراسة زيادة ملحوظة في تكرار كلمات معينة بعد ظهور تشات جي بي تي مقارنة بما قبلها. من بين هذه الكلمات الإنجليزية: "delve" (بمعنى التعمق في البحث) و"meticulous" (شديد التفصيل والدقة) و"realm (عالم أو مجال) و"adept" (ماهر أو بارع).
ارتفع استخدام بعض هذه المفردات بنسبة تتراوح بين نحو 35% و50% خلال 18 شهراً بعد إطلاق تشات جي بي تي. هذا التغير غير الاعتيادي في معدل انتشار المفردات ربطه الباحثون مباشرةً بتأثير الذكاء الاصطناعي التوليدي: فهذه الكلمات نفسها معروفة بأنها متكررة في إجابات تشات جي بي تي ومخرجاته النصية. بعبارة أخرى، يبدو أن البشر بدؤوا يتبنون مفردات وأسلوباً أقرب لما تنتجه الآلة في سياقات الكلام الرسمي والمهني.
دراسات تؤكد بصمة تشات جي بي تي على اللغة
لم يكن بحث معهد ماكس بلانك الوحيد في هذا المجال، فقد سبقه تحليل لغوي لملخصات أبحاث علمية (قبل النشر) أظهر ازدياداً ملحوظاً في استخدام كلمات مثل "underscore" (يؤكّد أو يبرز) و"intricate" (معقد) و"delve" وغيرها بعد ظهور نماذج توليد النصوص. ويرجح أن سبب ذلك هو اعتماد الباحثين على أدوات مثل تشات جي بي تي لتحرير كتاباتهم، ما أضفى لمسة لغة الآلة على أسلوب الصياغة البشري. كذلك، تناولت دراسات أخرى الخصائص الأسلوبية لهذه النماذج وتأثيرها المحتمل.
في تحليل لغوي نشر عام 2024، تبين أن تشات جي بي تي ينتج بالفعل مفردات جديدة ويستخدم إشارات ثقافية وتقنية متنوعة في نصوصه، كما أن أسلوبه شديد التهذيب والتنظيم؛ إذ وجد الباحثون أن نحو 80% من مخرجاته تتسم بنبرة مهذبة ومراعية لقواعد اللباقة، ويستخدم نحو 75% منها أدوات ربط خطابية (مثل كلمات الانتقال والتنظيم) للحفاظ على هيكلية النص. هذه الصفات الأسلوبية قد تنتقل إلى كتابات البشر الذين يستعينون به في صياغة رسائلهم وتقاريرهم، فيتبنون درجة أعلى من التهذيب أو التركيب المنطقي في الجمل مستلهمين ما يرونه في مخرجات الذكاء الاصطناعي.
الأدلة العلمية الحديثة إذاً تؤكد وجود بصمة لغوية للذكاء الاصطناعي بدأت بالظهور.
وصرح باحثو معهد ماكس بلانك بأن ما توصلوا إليه يعد "أول دليل تجريبي على أن البشر باتوا يحاكون النماذج اللغوية الضخمة في أسلوب كلامهم"، وعبروا عن القلق من أن هذا التأثير قد يزداد مع الوقت، ما قد يؤدي إلى تراجع التنوع اللغوي واضمحلال الفروقات الأسلوبية بين الناس. فإذا كان الجميع سيستخدم التعابير المنتقاة والمنمقة نفسها التي تقترحها الآلة، فقد نفقد شيئاً من ثراء اللغة الطبيعي القائم على اختلاف خلفيات المتحدثين وأساليبهم المميزة.
نقلد الآلة دون أن نشعر؟
كيف يحدث أن نتأثر بهذه الدرجة بلغة الآلة؟ يفسر علماء اللغة ذلك بظاهرة نفسية اجتماعية تعرف بنظرية التكيف في التواصل. هذه النظرية، التي وضع أسسها هوارد جايلز، تقول إن الأفراد يميلون تلقائياً إلى مواءمة أسلوب كلامهم مع من يتحاورون معه. فمثلما نجد أنفسنا نكتسب لهجة أو ألفاظ المحيطين بنا عند العيش في منطقة جديدة، فإن التفاعل المتكرر مع بوت دردشة ذكي قد يجعلنا نستبطن بعض أنماطه اللغوية.
يشير خبراء إلى أن المستخدم الذي يكثر من محاورة تشات جي بي تي مثلاً، سيتعود دماغه على تراكيب معينة ومفردات يستخدمها النموذج، فينعكس ذلك لاحقاً في طريقة تعبيره العفوية، إنه تأثير غير مباشر، نتحدث كما تتحدث الآلة معنا من حيث لا ندري.
بعض المراقبين بدؤوا بالفعل يلمسون هذا الأمر. فيرى هؤلاء أن استخدام مفردات إنجليزية متقدمة والتنظيم المنهجي للجمل، وهي أمور تطبع إجابات تشات جي بي تي، أصبحت أكثر بروزاً في أحاديث الناس اليومية. فربما تسمع أحدهم يستخدم كلمة معقدة أو عبارة شديدة الرسمية في سياق عادي، على نحو يذكر بصياغات المساعد الذكي. وقد يدفع ذلك البعض مازحين للسؤال: "هل استعنت بتشات جي بي تي لكتابة ما قلت؟".
تأثيرات في اللغة العربية: هل يصل إلينا الدور؟
حتى الآن، تتركز أغلب الأبحاث حول تأثير الذكاء الاصطناعي اللغوي في اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات العالمية ذات المحتوى الغزير. يعود ذلك إلى أن نماذج مثل تشات جي بي تي تدربت أساساً على نصوص إنجليزية، واستخدامها أوسع انتشاراً في العالم الناطق بالإنجليزية. لكن ماذا عن اللغة العربية؟ هل سنتأثر بدورنا؟
من المبكر إعطاء إجابة حاسمة، إذ لا تتوفر بعد دراسات ترصد تغيرات محددة في أسلوب الكلام العربي جراء استخدام النماذج اللغوية. مع ذلك، يمكن التكهن بأن المبدأ نفسه قابل للتطبيق. فمع بدء توفر نماذج ذكاء اصطناعي تتعامل مع العربية بشكل أفضل، قد نرى إدخال مفردات أو أساليب جديدة إلى اللغة العربية الدارجة، وربما تظهر تعابير مقتبسة من أسلوب إجابات الآلة، خاصة في الكتابات الرسمية أو الأكاديمية التي قد يستعين أصحابها بالذكاء الاصطناعي في التحرير. على سبيل المثال، قد يشيع استخدام مصطلحات تقنية أو علمية إنجليزية النشأة ضمن سياق عربي بسبب اعتمادها من قبل نماذج الذكاء. وأيضاً قد يزداد الطابع الرسمي والمنمق لبعض الكتابات العربية إذا ما بدأ الكتاب بالاستفادة من مقترحات الصياغة التي يقدمها الذكاء الاصطناعي.
بين توحيد الأسلوب وفقدان التنوع
يقدم لنا هذا الواقع الجديد منفعة واضحة تتمثل في تحسين مستوى الكتابة لدى البعض وتسهيل الوصول إلى لغة فصيحة منظمة. على سبيل المثال، قد يساعد الذكاء الاصطناعي على صقل رسائل البريد الإلكتروني أو التقارير لتصبح أكثر وضوحاً وترتيباً. لكن في المقابل هناك مخاطر لغوية وثقافية ينبغي التنبه لها. يشير خبراء إلى أن الانتشار الواسع للنماذج اللغوية قد يضيق نطاق التنوع الأسلوبي بين الناس. فهذه النماذج تميل إلى لغة قياسية واضحة، لكنها أقل تنوعاً من حيث اللهجة والأسلوب مقارنة باللغة الطبيعية للبشر. الإكثار من اعتماد أسلوب الآلة قد يهمش الخصوصيات المتعلقة باللهجات والتعابير المحلية التي تميز مجتمعاتنا وثقافاتنا. وبمرور الوقت، قد نجد أنفسنا أمام لغة أكثر توحداً وأقل ثراء من حيث الصور الجمالية والتعبيرات العفوية.
لقد أثار بحث معهد ماكس بلانك تحديداً مخاوف من أن يؤثر ذكاء الآلة في التنوع اللغوي العالمي بصورة غير مقصودة. فإذا أصبحت مخرجات النماذج اللغوية مرجعاً لأسلوب "الصواب اللغوي"، ربما تضعف استعمالات كانت سائدة ولم تشملها تلك النماذج في تدريباتها، كما أن هناك تخوفاً من إمكانية استغلال هذه الظاهرة بشكل متعمد للتأثير على الرأي العام عبر صياغة رسائل موحدة الأسلوب والمفردات يسهل تلقيها واعتبارها سليمة؛ أي أن اللغة قد تصبح أداة للتأثير الجماعي على نطاق أوسع إذا ما سيطرت عليها قوالب جاهزة تأتي من ذكاء اصطناعي مركزي.
الذكاء الاصطناعي بلا شك سيصبح شريكاً لغوياً لنا أكثر فأكثر، ولكن التحدي أمامنا أن نستفيد من مزاياه؛ مثل تحسين جودة الكتابة وتسهيل التعلم، دون أن نفرط بالهوية اللغوية وثراء التعبير البشري. لغتنا في نهاية المطاف مرآة لإنسانيتنا وتنوع ثقافاتنا، وأي تطور تقني ينبغي أن يعززها لا أن يطمس فرادتها.