يشهد سوق العمل الحر تغيرات جذرية مع تطور الذكاء الاصطناعي التوليدي بقيادة نماذج مثل تشات جي بي تي، ما يؤدي إلى خلق فائزين وخاسرين واضحين بين الفئات المهنية المختلفة، وفقاً لدراسة جديدة نُشرت في مجلة السلوك الاقتصادي والتنظيم. ووجد الباحثون أن الذكاء الاصطناعي يعزز الطلب على الخبرات المتخصصة، لكنه في الوقت نفسه يحل محل العاملين في وظائف بمجالات مثل الكتابة والترجمة، ما يدفع العديد من المستقلين إلى إعادة التفكير في مستقبلهم المهني.
اقرأ أيضاً: أيّهما أخطر: الذكاء الاصطناعي العام أمْ إساءة استخدام الذكاء الاصطناعي الحالي؟
العمل الحر في عصر الذكاء الاصطناعي: مَن يربح ومَن يخسر؟
أجرى باحثون من جامعات أوكسفورد ولندن وكامبريدج دراسة تحليلية شملت أكثر من 3 ملايين وظيفة منشورة على إحدى أكبر منصات العمل الحر عبر الإنترنت. باستخدام تقنيات تحليل البيانات المستندة إلى الذكاء الاصطناعي، إذ صنّفوا 116 فئة مهنية ثم درسوا كيف تغير الطلب على هذه المهارات بعد إطلاق تشات جي بي تي.
وكانت النتائج واضحة:
- انخفاض الطلب على المهارات القابلة للاستبدال بالذكاء الاصطناعي، مثل الكتابة والترجمة وإدخال البيانات، بنسبة 20-50%.
- زيادة كبيرة في الطلب على المهارات التكميلية للذكاء الاصطناعي، مثل تطوير بوتات الدردشة المدعومة بالذكاء الاصطناعي (+179%)، وبرمجة التعلم الآلي (+24%).
- انخفاض الطلب على العاملين المستقلين ذوي الخبرة المحدودة، ما يشير إلى أن أصحاب العمل يفضلون التخصص والمهارات المتقدمة.
الأرقام تكشف التأثير الحقيقي للذكاء الاصطناعي
كشفت الدراسة عن بعض الإحصائيات التي تعكس التحولات في سوق العمل الحر بعد إطلاق تشات جي بي تي:
الوظائف التي شهدت تراجعاً حاداً:
- الترجمة بين اللغات الأوروبية الغربية: انخفاض بنسبة 23%.
- الكتابة العقارية (Real Estate Writing): انخفاض بنسبة 52%.
- كتابة "من نحن" لمواقع الشركات: انخفاض بنسبة 59%.
- كتابة المدونات والمقالات: انخفاض بنسبة 20%.
المهارات التي شهدت ارتفاعاً في الطلب:
- تطوير بوتات الدردشة المدعومة بالذكاء الاصطناعي: زيادة بنسبة 179%.
- وظائف التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي: زيادة بنسبة 24%.
كما أظهرت الدراسة أن أكثر الوظائف المتضررة كانت العقود القصيرة الأجل (1-3 أسابيع)، في حين بقيت العقود الطويلة الأجل أكثر استقراراً.
سوق العمل الحر يتحول إلى الاحترافية والخبرات المتخصصة
تشير الدراسة إلى أن الأثر الأساسي للذكاء الاصطناعي ليس مجرد أتمتة بعض الوظائف، بل تغيير نوع العمل المتاح. فالطلب على المستقلين المبتدئين في المجالات التكميلية للذكاء الاصطناعي تراجع بشكل ملحوظ، ما يعني أن أصحاب العمل يفضلون توظيف خبراء متخصصين بدلاً من العاملين ذوي المهارات العامة.
هذا يتناقض مع بعض الدراسات السابقة التي توقعت أن الذكاء الاصطناعي سيزيد من إنتاجية العاملين المبتدئين؛ إذ يرى الباحثون أن كفاءة الذكاء الاصطناعي داخل الشركات تقلل الحاجة إلى توظيف مستقلين جدد في بعض المجالات.
وبحسب الباحثين المشاركين في الدراسة: "بينما يعزز الذكاء الاصطناعي الإنتاجية داخل الشركات، فإنه يقلل الحاجة إلى العمل الحر في بعض المجالات".
اقرأ أيضاً: كيف يؤثّر نقص بيانات التدريب في كفاءة نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي؟
مقارنة تأثير الذكاء الاصطناعي مع موجات الأتمتة السابقة
تشبه آثار تشات جي بي تي في سوق العمل الحر التحولات التي أحدثتها الموجات السابقة من الأتمتة. في عام 2017، توقعت دراسة أن 50% من الوظائف في الولايات المتحدة معرضة لخطر الأتمتة، بينما أظهرت أبحاث لاحقة أن نسبة الوظائف التي يمكن استبدالها فعلياً بالذكاء الاصطناعي أقل من 10%.
ما يجعل الذكاء الاصطناعي التوليدي مختلفاً عن الموجات السابقة من الأتمتة هو أنه يؤثر في الوظائف المكتبية والمهنية وليس فقط الوظائف اليدوية. وتوضح الدراسة أن بعض المستقلين يستفيدون من التحولات التي يفرضها الذكاء الاصطناعي، بينما يواجه آخرون تحديات غير مسبوقة، خاصة في مجالات مثل الترجمة والكتابة.
كيف يمكن للمستقلين التكيُّف مع عصر الذكاء الاصطناعي؟
مع استمرار الذكاء الاصطناعي في إحداث تغييرات كبيرة، يجب على العاملين المستقلين تطوير مهاراتهم لضمان بقائهم في السوق. تقترح الدراسة عدة استراتيجيات:
- تعلم المهارات التكميلية للذكاء الاصطناعي: مثل برمجة الذكاء الاصطناعي، تطوير روبوتات المحادثة، وأتمتة المهام.
- استخدام الذكاء الاصطناعي أداةً مساعدة: بدلاً من التنافس معه، ويمكن للمستقلين استخدامه لتحسين الإنتاجية.
- التخصص في المجالات التي تصعب أتمتتها: مثل الكتابة الإبداعية، والترجمة التقنية، والاستشارات المهنية.
- تطوير مهارات هجينة: الجمع بين الذكاء الاصطناعي والمهارات التقليدية مثل التسويق والتصميم لخلق فرص جديدة.
اقرأ أيضاً: هل الذكاء الاصطناعي سيجعل تعلُّم اللغات عديم الفائدة؟
مستقبل العمل الحر في ظل الذكاء الاصطناعي
تؤكد الدراسة أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة، بل قوة محركة لإعادة تشكيل سوق العمل الحر. في حين أن بعض المستقلين سيستفيدون من زيادة الطلب على المهارات التكميلية للذكاء الاصطناعي، سيواجه آخرون تحديات كبيرة إذا لم يواكبوا التغيير.
المفتاح في هذه المرحلة هو القدرة على التكيف وتطوير المهارات المطلوبة في عصر يزداد فيه الاعتماد على الذكاء الاصطناعي.
يقول الباحثون المشاركون في الدراسة: "يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل سوق العمل في الوقت الفعلي، محدثاً تأثيرات كبيرة على الطلب على المهارات. التحدي الأكبر للمستقلين هو تحديد كيفية الاستفادة من هذا التحول بدلاً من مقاومته".