يعج نظامنا الشمسي بالمذنبات التي تتحرك بسرعة والتي اعتدنا على تعقبها على مدى قرون مضت. إلا أن البشر لم يشاهدوا حتى الآن سوى جسمين زائرين من خارج النظام الشمسي. فهناك أوماموا، الكويكب البينجمي الذي نعتقد أنه قد يكون في الواقع صخرة مسطحة تشبه الفطيرة نشأت من بقايا كوكب خارجي يشبه بلوتو. إنه كويكب غريب للغاية لدرجة أن الناس ظنوا أنه ربما كان مركبة تعود لمخلوقات فضائية. ولكنه ليس كذلك.
وهناك أيضاً 2-آي/بوريسوف، المذنب الذي بدا إلى حد كبير وكأنه مجرد مذنب عادي. تم اكتشافه لأول مرة في أغسطس 2019، ليشق طريقه حول الشمس في ديسمبر التالي. خلال الفترة الواقعة بين هذين الشهرين، كانت معظم البيانات المتدفقة عنه تشير إلى أن العلماء كانوا ينظرون إلى جسم تقليدي، مكون من مواد مذنبية عادية جداً (جليد الماء، غبار، مواد غازية).
ربما كان حرياً بنا التحلي بالصبر فقط؛ فهناك ورقتان بحثيتان جديدتان تم نشرهما مؤخراً تقدمان أفكاراً مثيرة حول بوريسوف، تتضمن اكتشافاً بأنه قد يكون واحداً من أكثر المذنبات التي درسها البشر استقراراً وبدائية على الإطلاق. كما أنهما تشيران إلى أن الظروف التي أدت إلى تشكّل بوريسوف قد لا تكون غريبة على الإطلاق. في الواقع، ربما ينحدر من نظام نجمي لا يختلف كثيراً عن نظامنا الشمسي.
لقد درسنا ما يكفي من المذنبات ضمن نظامنا الشمسي لنعلم أنها تشكّلت خلال المراحل المبكرة من عمره، وذلك عندما كان هناك كميات هائلة من المواد التي تتحرك كالدوامات وتندمج لتشكل أجراماً منفردة. إنها أجرام مصنوعة من الجليد أساساً، إلا أنه يتعين عليها من أجل البقاء أن تتشكل على مسافة تضمن لها عدم التعرض للانصهار الفوري نتيجة الحرارة والإشعاعات الصادرة عن الشمس. يُفترض بالأنظمة النجمية الأخرى أن تؤدي إلى ظهور المذنبات بنفس الطريقة. كلما كانت في منأى عن التعرض لإشعاعات النجوم، زادت فرصتها في الحفاظ على تكوينها وتركيبها الكيميائي الأصليين منذ أن تشكلت قبل نحو 4.5 مليار سنة. خاصية "البدائية" هذه تعني أن المذنبات تشبه كبسولات زمنية عن الأنظمة النجمية بقيت محفوظة كما كانت عليه في المراحل الأولى من عمرها.
ينبئنا غبار المذنب على وجه التحديد بماهية المواد التي تشكل منها نظامنا الشمسي عندما ولدت المذنبات لأول مرة، ويمكن تطبيق المبدأ نفسه على المذنبات البينجمية. يقول بن يانج، عالم الفلك بالمرصد الأوروبي الجنوبي والمؤلف الرئيسي لإحدى الدراستين: "بدراسة تكوين وبنية جسيمات الغبار في ذؤابة المذنب 2-آي/بوريسوف، يمكننا القيام ببعض التخمينات العلمية حول ظروف تشكل الغبار ومواقعه".
تركز الورقة البحثية الأولى، بقيادة ستيفانو باجنولو في مرصد آرماج والقبة السماوية في المملكة المتحدة، على الضوء المنعكس. يتألف الضوء من موجات، وعادة ما تتذبذب هذه الموجات في عدة اتجاهات مختلفة في وقت واحد. إلا أنه عندما تكون هذه الموجات مستقطبة، فإنها تتذبذب في اتجاه واحد محدد. إذا كان الضوء مستقطباً بفعل ذؤابة أحد المذنبات (وهي الغلاف الخارجي السديمي المكون من الغازات والغبار الذي ينفثه المذنب عندما تقوم الشمس بتسخينه)، فيمكن لدراسة هذا الضوء أن تمنحنا معلومات عن حجم وتكوين الغبار، وهو ما يساعدنا على فهم الكيفية التي تشكل بها المذنب، ومن خلال التوسع في دراسته، يمكن أن يقدم لمحة عن تاريخ النظام النجمي الذي نشأ منه.
تخبرنا البيانات الجديدة -التي تم جمعها بواسطة المقراب العظيم، ومقره في تشيلي- أن الضوء المنعكس عن بوريسوف والذي تمت فلترته عبر ذؤابته هو أكثر استقطاباً من الضوء الصادر عن أي جسم قمنا بدراسته في النظام الشمسي. هذا دليل على أن جسيمات الذؤابة صغيرة ودقيقة للغاية، ما يشير إلى أنها لم تتبعثر كثيراً بفعل الإشعاعات والحرارة الصادرة عن أي من النجوم، وهي القوى التي من شأنها أن تتسبب في قذف قطع كبيرة عن سطح المذنب بشكل عشوائي. وقد خلص المؤلفون إلى أن بوريسوف ربما كان أحد أكثر الأجسام التي تم اكتشافها بدائيةً على الإطلاق. الجسم الوحيد الذي يشبهه كثيرا ًمن حيث الاستقطاب هو سي/هيل-بوب، الذي ربما يكون أكثر المذنبات التي تم رصدها لمعاناً على الإطلاق، وبالتأكيد أحد أكثر المذنبات التي تمت دراستها على نطاق واسع في القرن العشرين. ومن المعتقد أن هيل-بوب قد اقترب من الشمس لمرة واحدة فقط قبل أن يعاود الاقتراب منها آخر مرة في 1997؛ لذا يعتقد المؤلفون أن ظروفاً مماثلة ربما أدت إلى ظهور كل من بوريسوف وهيل-بوب، ضمن نظامين نجميين مختلفين.
في الوقت نفسه، كان الفريق بقيادة يانج قد شرع في فهم كيفية تشكّل بوريسوف، وذلك باستخدام المقراب العظيم إلى جانب مصفوف مرصد أتاكاما المليمتري الكبير (ألما) لرصد الحرارة الصادرة عن الجسيمات الكبيرة المعلقة في ذؤابة بوريسوف.
وفقاً لعمليات الرصد هذه، فإن ذؤابة بوريسوف تتكون من حبيبات متراصة مليمترية في أبعادها، وهي حصى ضخمة على غير العادة بالنسبة لمذنب. هذه الحصى الغنية بأول أكسيد الكربون والماء، من المحتمل أنها تشكلت في البداية ضمن المنطقة الداخلية للنظام الشمسي، قبل أن يتم نقلها إلى الخارج وتختلط تدريجياً بمختلف أنواع الجليد الذي تشكل في مواقع مختلفة بعيداً عن النجم. هذا "التحريك الثقالي" -الذي تحدثه الكواكب- من المعتقد أنه قد حدث في نظامنا الشمسي، حتى أن من المعتقد أنه ساهم في تشكيل هيل-بوب. تَشكّل بوريسوف كتكتُّل من المواد القادمة من أجزاء مختلفة من نظامه النجمي، قبل أن يجد مكاناً منعزلاً ليتخذ منه موطناً له بعيداً عن نجمه الأم.
هذه النتائج مجتمعة تساعدنا على معرفة بعض الأشياء. فوفرة كل من أول أكسيد الكربون والماء تشير إلى أن المذنب قد استوطن بيئات منخفضة الحرارة (أي بعيداً عن النجم)؛ حيث يمكن لتلك المركبات أن تظل باردة ومستقرة طوال حياتها تقريباً. ويعزز اكتشاف خصائص "البدائية" هذه الفكرة.
إن أوجه التشابه الكامنة بين بوريسوف وهيل-بوب، إلى جانب الأدلة على أن النظامين النجميين لكلا المذنبين قد تعرضا لتحريك ثقالي، تشير إلى أن تطور نظامنا الشمسي ربما ليس فريداً من نوعه كما كنا نعتقد. وقد يشير ذلك أيضاً إلى أن الظروف التي تؤدي إلى ظهور كوكب صالح للسكن مثل الأرض أكثر شيوعاً في المجرة مما كنا نتصور.
أو ربما يمثل هذا دليلاً مضللاً، ما يعني أن النظام النجمي الأصلي لبوريسوف هو في غاية الغرابة في الواقع. أما نيل ديل روسو، وهو عالم فلك في جامعة جونز هوبكنز ولم يشارك في الدراسة، فيقول إنه فوجئ بمدى ارتفاع قيم أول أكسيد الكربون والماء التي تم رصدها، حيث كانت أعلى من أي شيء تم رصده في المذنبات التي تحوم ضمن نظامنا الشمسي.
كما أن هناك أسئلة لا تزال مطروحة. فالنتائج الجديدة لا تزال غير قادرة على إطلاعنا بالضبط متى تكونت الحصى ضمن الذؤابة، أو حتى ماهية المواد التي تشكلت منها.
قد تكون المشكلة الكبرى أن الورقتين البحثيتين تروجان لفكرتين مختلفتين حول الجسيمات التي يتكون منها بوريسوف: فورقة يانج البحثية تبوح على نحو بارز باكتشاف حصى ضخمة ضمن ذؤابة المذنب، في حين تشير ورقة باجنولو البحثية إلى أن الذؤابة تهيمن على تكوينها حبيبات صغيرة شبيهة بالدخان، والتي يمكن أن تسبب استقطاباً شديداً للضوء. إلا أن مايكل كيلي، عالم المذنبات في جامعة ميريلاند والذي لم يشارك في الدراسات الجديدة، يعتقد أن هذا من المحتمل أن يكون "مجرد نتيجة للتقنيات المختلفة"؛ حيث كل منها تميل إلى اكتشاف نوع معين من الجسيمات. ينبغي للتحليلات المستقبلية أن تتمكن من المقارنة والجمع بين كلا مجموعتي البيانات، والتوفيق فيما بينهما باعتبارهما تمثلان جزءاً من تطور بوريسوف.
لا شك في أن بوريسوف جسم غير اعتيادي، ولكن الغريب حقاً هو فكرة أنه ينحدر من نظام نجمي لا يختلف كثيراً عن نظامنا الشمسي. قد يكون هذا المذنب البينجمي واحداً من أكثر الزوار الذين تعرفنا عليهم امتلاكاً للخصائص الطبيعية على الإطلاق.