بالنسبة إلى ريدوود ماتيريالز، فإن صفوف صناديق الورق المقوى على الأرض المفروشة بالحصى في موقف السيارات الخاص بها تمثّل الماضي والمستقبل للسيارات الكهربائية في الوقت نفسه. وتمتد مساحة التخزين المرتجلة هذه على مساحة أكثر من 10 أفدنة في موقع ريدوود الجديد لإعادة تدوير البطاريات، والموجود قرب حدود مدينة رينو في ولاية نيفادا. ويبلغ حجم معظم هذه الصناديق حجم الغسالة الكهربائية، كما أنها مغلفة بالبلاستيك الأبيض. ولكن بعض الصناديق مفتوحة بشكلٍ يكشف عن محتوياتها: لوحات مفاتيح لاسلكية، وألعاب مهملة، وقطع من بطاريات سيارات هوندا سيفيك المستعملة.
ولكن مواد البطاريات الموجودة في هذه الأشياء المرمية هي أبعد ما تكون عن القمامة، بل إنها في الواقع جائزة مغرية؛ فالمعادن الموجودة فيها هي مكونات قيمة يمكن أن تكون فائقة الأهمية في تلبية الطلب على السيارات الكهربائية، والذي يشهد زيادة حادة.
اقرأ أيضاً: كيف تتم إعادة تدوير بطاريات السيارات الكهربائية؟
تعتبر ريدوود ماتيريالز إحدى شركات إعادة التدوير التي تزداد باستمرار، والتي تعمل على استثمار بطاريات الليثيوم أيون المستخدمة في الأجهزة الإلكترونية والسيارات الكهربائية، بدلاً من وضعها في مدفن للنفايات. وقد أعلنت الشركة في منتصف 2022 عن خططها لبناء هذا المصنع بقيمة 3.5 مليار دولار في رينو. ومن المتوقع أن تقوم المنشأة بإنتاج المواد لمليون بطارية ليثيوم أيون للسيارات الكهربائية بحلول عام 2025، وترفع إنتاجها إلى كميات كافية لخمسة ملايين بطارية بحلول عام 2030. وتخطط ريدوود لبناء منشأة أخرى في غرب الولايات المتحدة في 2023.
وفي هذه الأثناء، فإن الشركة الكندية لي سايكل (Li-Cycle) تقوم حالياً بتشغيل أربع منشآت تجارية تستطيع مجتمعة إعادة تدوير ما يقرب من 30,000 طن من البطاريات سنوياً، وتخطط لإضافة ثلاثة مواقع أخرى لاحقاً. وقد أعلنت شركات ناشئة أخرى تعمل في الولايات المتحدة، مثل شركة أميريكان باتيري تكنولوجي (American Battery Technology)، عن إجراء تجارب كبيرة على المستوى التجاري، لتنضم إلى سوق راسخ لإعادة التدوير في الصين وأوروبا.
عوامل كثيرة تسهم في إنماء سوق إعادة التدوير
وعلى حين تمثل هذه الاستثمارات الجديدة في إعادة التدوير خياراً أفضل للبيئة من طمر البطاريات في مكبات النفايات، فإنها تعمل أيضاً بدافع من التنامي السريع لسوق السيارات الكهربائية. فالانتقال إلى السيارات الكهربائية يشهد انتشاراً واسعاً للغاية في الولايات المتحدة وعبر أنحاء العالم، ما يعني درجة أعلى من الطلب على المعادن المستخدمة في صنع بطاريات هذه السيارات، خصوصاً الليثيوم والنيكل والكوبالت. ومن المتوقع أن تصل نسبة السيارات الكهربائية في مبيعات السيارات الجديدة إلى 13% في 2022، وهو رقم تشير التوقعات إلى أنه سيرتفع إلى نحو 30% بحلول عام 2030. وسيحتاج صنع البطاريات اللازمة لكل هذه السيارات إلى معادن بكميات تفوق بكثير ما هو متوافر حالياً.
وقد تصل الحاجة إلى أكثر من 200 منجم جديد بحلول عام 2035 فقط لتوفير ما يكفي من الكوبالت والليثيوم والنيكل لبطاريات السيارات الكهربائية. ويجب أن يزداد إنتاج الليثيوم بمقدار 20 ضعفاً لتلبية الطلب على السيارات الكهربائية بحلول عام 2050.
عندما زرت ريدوود في سبتمبر/ أيلول، كانت تستعد لشحن أول منتجاتها، وهو عينة صغيرة من رقائق نحاسية مستخدمة في صنع الأقطاب الموجبة للبطاريات. وترسل ريدوود الرقائق المعدنية إلى شركة باناسونيك (Panasonic) التي تصنع البطاريات، وذلك لاستخدامها في مصنع غيغافاكتوري في نيفادا، والذي ينتج بدوره خلايا بطاريات سيارات تسلا (Tesla)، ويبعد عن ريدوود أقل من 8 كيلومترات.
اقرأ أيضاً: لماذا لن تستبدل السيارات الكهربائية بالسيارات الهجينة في المستقبل القريب؟
وعند انتهاء البناء، سيقوم موقع ريدوود بإنتاج اثنين من المنتجات الرئيسية: الرقائق النحاسية للقطب الموجب، ومزيج من الليثيوم والنيكل والكوبالت، وهو مزيج معروف باسم المادة الفعالة للقطب السالب. وتمثل تكلفة هذه المكونات أكثر من نصف تكلفة خلايا البطاريات. وبحلول عام 2025، ووفقاً لتوقعات ريدوود، ستنتج المنشأة ما يكفي من هذه المكونات لصنع البطاريات لأكثر من مليون سيارة كهربائية سنوياً، وقد وضعت ريدوود خططاً كبيرة تتضمن الكثير من عمليات البناء لاحقاً.
"شعور بالارتياب"
تأسست ريدوود ماتيريالز على يد ج. ب. ستروبل، والذي كان يرأس القسم التكنولوجي في تسلا في بداية العقد الثاني من هذا القرن، وقد حققت الشركة الكثير من إنجازاتها في مجال البطاريات بقيادته، بما فيها تأسيس شبكتها من محطات الشحن. ولكن، حتى مع التحولات التي أحدثتها تسلا في طريقة تصنيع السيارات الكهربائية وبيعها، فقد كان ستروبل يشعر بالقلق إزاء المستوى المرتفع للغاية الذي سيصل إليه الطلب على مواد البطاريات. وهكذا، بدأ يفكر في طرق لتخفيف تكلفة البطاريات، والمساعدة على تقليل الانبعاثات الكربونية الناجمة عن تصنيعها.
وأسس ستروبل شركة ريدوود وهو ما زال يعمل في تسلا (حيث ترك تسلا في 2019)، وقد أراد -على حد قوله- أن يبني شركة لمواد البطاريات المستدامة. وفي هذه الأيام، يتحدث عن المهمة التي وضعها لنفسه بحماسة مذهلة مصحوبة بدقة هندسية فائقة، حيث يتوقف أحياناً عن الكلام في منتصف الفكرة حتى يبدأ من جديد أثناء شرحه عن رؤيته لمستقبل إنتاج البطاريات.
ويقول: "ببساطة، يستحيل أن ينجح هذا الأمر دون وجود دورة مغلقة للمواد الأولية، فلا يوجد ما يكفي من المواد الأولية الجديدة لمواصلة بناء البطاريات واستهلاكها ورميها جانباً".
تعتمد ريدوود على عملية تحمل اسم التعدين الرطب، وذلك لاستخلاص المعادن الثمينة من البطاريات التي تجمعها، مثل الكوبالت والليثيوم والنيكل.
إن فصل المعادن المهمة الموجودة ضمن البطاريات بالطريقة الكيميائية يمثل مهمة صعبة ومعقدة. وتتسابق المختبرات والشركات الناشئة والشركات العريقة، دون استثناء، في البحث عن العملية المثالية لاستخلاص أعلى نسبة ممكنة من المواد القيمة بشكلها الأكثر نقاءً.
ولهذا، فإن تفاصيل الحل الذي ابتكرته ريدوود لهذه المشكلة محفوظة طي الكتمان إلى أقصى درجة، فهي سلاح ريدوود السري. ولكن هذه العملية أيضاً ما زالت قيد التحسين والتطوير إلى حد كبير، ومن الواضح أن الحاجة ملحة لاكتشافها.
"أنا أعمل بشعور أقرب إلى جنون الارتياب والإحساس بوجود دافع طارئ، بل وحتى الذعر –ولكن ليس بالضبط- وهو أمر غير مفيد. فهو ينبع فعلياً من شعور عميق بأنني أعتقد أننا لا نقدر بشكل صحيح المستوى الذي يمكن أن يصل إليه خطر التغيّر المناخي"، على حد قوله.
ويضيف: "بشكل عام، لا أعتقد أننا نعمل بسرعة كافية. ولا أعتقد أنه يوجد أي شخص يعمل بسرعة كافية".
اقرأ أيضاً: كيف يمكن للتكنولوجيا أن تساعد الشركات في تحقيق متطلبات الاستدامة البيئية؟
دور إعادة التدوير
تحتاج الكثير من البطاريات التي تصل إلى ريدوود إلى التفكيك يدوياً قبل معالجتها. وتنطبق هذه الحالة على البطاريات التي تصل ضمن مجموعات بطاريات كاملة للسيارات الكهربائية، والتي يبلغ حجمها حجم فراش، ما يجعلها كبيرة للغاية بالنسبة لتجهيزات ريدوود، إضافة إلى البطاريات التي ما زالت مثبتة ضمن المنتجات التي تعتمد عليها، مثل الحواسيب المحمولة والأدوات الكهربائية. تحتوي جميع هذه الأنواع من البطاريات بشكل عام على الليثيوم، والنيكل، والكوبالت، على الرغم من تباين نسب هذه المواد. وعلى سبيل المثال، فإن بطاريات الإلكترونيات الاستهلاكية تحتوي على نسبة أكبر من الكوبالت مقارنة ببطاريات السيارات الكهربائية.
بعد التصنيف والتفكيك، يمكن تحميل البطاريات التي ما زالت تحتوي على بعض الشحن على حزام ناقل ينقلها إلى واحدة من أربع حجرات ضخمة لإجراء عملية تسمى التكليس، حيث يتم تعريض البطاريات إلى حرارة عالية لتفريغ شحنها، وإزالة المواد المذيبة.
وبعد ذلك، يتم طحن المواد وتحويلها إلى مسحوق قبل الدخول في عملية التعدين الرطب لفصل العناصر عن بعضها.
مسار المستقبل
مع تواصل عمليات البناء في الموقع الكبير، كنت أتمشى في أرجاء مقر ريدوود في مدينة كارسون، حيث ما زال العلماء يجرون التجارب على عملية التعدين الرطب.
لقد كان الباحثون يستخدمون الطرق الكيميائية لاستخراج المعادن من بطاريات الليثيوم أيون منذ أواخر التسعينيات. وقد كانت الشركات الصينية الأكثر سرعة، حيث بنت شبكة واسعة من مراكز إعادة التدوير بالاعتماد على الدعم الحكومي.
ولكن تصميم نظام يستطيع استخراج نسب كبيرة من أكثر المعادن تكلفة في البطاريات لم يكن بالأمر السهل. وقد كان التعامل مع الليثيوم على وجه الخصوص فائق الصعوبة. ويقول ستروبل إن ريدوود تستطيع تحقيق نسبة استخراج تقارب 100% للكوبالت والنحاس والنيكل من بين المعادن الأربعة التي تركز عليها ريدوود أكثر من غيرها. أما بالنسبة لليثيوم، فالنسبة تصل إلى 80% تقريباً.
اقرأ أيضاً: لماذا يجب أن تتحول صناعة الفولاذ إلى صناعة خضراء صديقة للبيئة؟
كما أن الانتقال من المختبر إلى العمل في العالم الحقيقي يمكن أن يزيد من تعقيد العملية.
وقد اصطحبتني مديرة قسم التعدين الرطب في ريدوود، ماري لو ليندستروم، في جولة في المختبر التجريبي في مدينة كارسون، والذي يشبه مكاناً لتصنيع المشروبات، حيث تنتشر التجهيزات المصنوعة من الفولاذ المقاوم للصدأ (الستانلس ستيل) عبر غرفة ضخمة. وقد كان الباحثون مجتمعين حول حاسوب وأحد الخزانات المعدنية الكبيرة.
ما زالت هناك مشكلة تقنية تقف في طريق رؤية ستروبل لنظام بيئي للبطاريات يعمل وفق دورة مغلقة. فحتى الآن، كان النحاس الذي تستخدمه ريدوود لصنع الرقائق النحاسية مستخرجاً من نفايات النحاس، لا البطاريات. وتأمل الشركة بأن تستخدم على الأقل بعض مواد البطاريات في صنع الرقائق النحاسية التي يتم تسليمها إلى باناسونيك للاستخدام في تصنيع الخلايا الجديدة. ولكن التعامل مع الخردة النحاسية الصناعية أسهل بكثير.
ويعبّر هذا الانتقال عن أحد أكبر التحديات التي تقف في وجه تطور عمليات إعادة تدوير البطاريات: وهو الحاجة إلى التعامل مع مدخلات لا يمكن التنبؤ بها، والقدرة على تقديم منتجات عالية الجودة ويمكن التنبؤ بها في الوقت نفسه. وإذا بدأت شركات إعادة تدوير البطاريات بالتنافس على المواد، فقد يصبح هذا التحدي أكثر صعوبة، بما أن الشركات الناشئة قد تضطر إلى القبول بالاعتماد على مواد غير مناسبة تماماً حتى تستطيع مواصلة العمل.
اقرأ أيضاً: هل يرتبط تخفيض الانبعاثات بالنجاح الاقتصادي؟ مشروع قانون التضخم الأميركي يقول نعم
وفي الوقت الحالي، تستطيع ريدوود استكمال متطلبات عملياتها باستخدام مخلفات التصنيع، والتي يمكن التعامل معها بسهولة بشكلٍ عام، إضافة إلى المواد المستخرجة عن طريق التعدين. ولكن، ومع تزايد كميات البطاريات القديمة، وتراجع كميات الليثيوم المستخرج بالتعدين، ستتفاقم الصعوبات التي تواجهها شركات إعادة التدوير.
لقد أصبحت السيارات الكهربائية وغيرها من خيارات النقل الكهربائية عملية ومقبولة. وفي العديد من أنحاء العالم، أصبحت السيارة الكهربائية أقل ثمناً وتكلفة للاستخدام من السيارة التقليدية. وهذا يصب في صالح كوكبنا فيما يتعلق بالمناخ، ففي معظم الحالات، تنتج السيارات الكهربائية انبعاثات أقل من غازات الدفيئة على مدى عمرها التشغيلي، مقارنة بالسيارات التي تعمل بالوقود.
ولهذا، فإن تحقيق النتائج الواعدة للسيارات الكهربائية يتطلب نظاماً عملياً وذا جدوى اقتصادية جيدة لإعادة تدوير البطاريات. وعلى الرغم من بطء تراكم البطاريات القديمة، فإن صناعة إعادة التدوير تستعد منذ الآن للمستقبل، لأن تنفيذ هذه الرؤية الجديدة سيتطلب عدة عقود متواصلة من الابتكار والتقدم الثابت. وليس موقف ريدوود المليء بالبطاريات القديمة سوى البداية.